البراكين تكاد تنفجر في رأسي
حتى أني لم أعد أحتمل الجلوس
أمام مكتب أخرس
لأكتب ما قد يسميه البعض شعراً
إنما كالآخرين
تجذبني اللعبة إلى غنجها
كالآخرين
تراودني الكتابة عن يميني
وعن خدر الارتخاء فوق سرير العاشرة
في صباحٍ أحديٍّ متعَب.
وكمُمثلٍ لم يختر دوره
أهيئ نفسي لفصل الكتابة:
أعفو عن لحيتي وأفكاري
أترك شعري منكوشاً كقصيدة نثر
أُقطِّب جبيني مبالغةً في التّركيز
وأقوّس حاجبي افتعالاً للجدّية
: ها إنّي أبدو مهموماً
وغامضاً كشاعرٍ كوني.
لا أبدو منشدّاً لكتابة قصيدةٍ هذا الصباح
ثم هل من الضّروري أن أكتب شعراً
لكي أظلّ على قيد الأحلام؟
لا قدرة لي على حبس خيولي
في الإسطبل البارد
للحظتي الواهنة.
خيول الذاكرة تُفضّل الركض حنيناً
إلى مراتعها الأولى
حيث:
السماءُ الواثقة من زرقتها. السماء البعيدة.
أشجار اللّيمون. الخضرة الباسقة. الشارع المغبر.
سور المقبرة. الحُفر اللّئيمة تُعاكس أحذية البنات.
بائعو السجائر بالتّقسيط. المقهى العارم. الغارة
وخراطيشها، والأصدقاء المتحلّقون حولها كإرهابيين
نبلاء. النّخل وأشباهُه. الأحمر الذي يُعلّم المدينة الأسماء.
قشدة العشاق. قهوة الموتى. وشاي الأمهات.
عليَّ أن أرجع إلى القصيدة
إلى غرفتها البيضاء
سأنظر إلى اللّحظة بعينين عميقتين
كجرح عاشق مغدور.
وأفرش في بهوها خريطتي:
شرفةٌ تبكي.. صورة أمازيغيّةٍ بابتسامة عذراء.
مرآةٌ تحجب الأطياف. بطاقةٌ من مراكش..
ورسالة سمراء.
مدفأةٌ بلا نارٍ. مطرٌ يقرع الزجاج.
وقعُ خطىً في الدّرج. قلبي الذي ينهالْ..
طرقٌ على الباب المجاور. وغزالةٌ في البالْ
ثمّ أكسر جرّة الأسرار:
كنا صغاراً حينما أحببتُها
كأنبياء.. نمشي على ماءٍ زلالْ
وكأشقياء نرشق الريح الشفيفة
بالنّبالْ
لكنني.. لكنها..
لم ندر إلاّ والنّصال
على النّصالْ.
بحكمة سلحفاةٍ تُغريها الطريق
ولا يعنيها الوصول
سأمضي صوب ما لا يعنيني،
بمزاج حائكٍ أعمى
أُرتّق مِزَق الكلمات
لأصفّفها جملةً جملةً
مقطعاً مقطعاً
هنا من شقتي بالمنزل رقم 34
Rue de Chambéry
هنا من على الشرفة
وكنيسة القديس أنطوان شاهدةٌ
سأدّعي العالم كلّه
سأزعم من العواصم
ما لم تطأْ لي قدمٌ.
لا قدرة لي على البقاء مصلوباً
فوق هذا الكرسي البارد الشمتان.
أعذبُ الشعر أكذبُه
وأنا ضحية صدقي
حينما تُغَلَّق في وجهي أبواب الأخْيِلَة
تحضُّني الأمّارةُ على أن أحذُوَ
حذْوَ صديقي ذي السرقات المرموقة
كساقي صابرينا.
فلا أجد لديَّ من القصائد
ما يكفي لتكرير الشعر.
تبّاً لخزانتي الفقيرة
تبّاً للسرابْ. دفَن الماء الأخير
في الريح
وذابْ.
ثم لا قدرة لي
أحس جمجمةً صدِئةً بقلبي
جسدي منهكٌ.. رأسي مقلوبةٌ
وحواسي معطّلة.
أنا الشاعر الكوني
أقرأ قصائد أصدقائي
ولا يهمني مصير إليوت في أرضه اليباب
بروتون بدوره لا يعنيني
رغم حبسته الحمقاء
في مصحة العقلاء.
تكفيني قصائد الأصدقاء
تكفيني رسائلهم،
بكمدٍ أُراجع أخبارهم الحزينة:
[جرير مايزال يُصارع آلام السجن والأسنان
خالد قضى بالغاز مخنوقًا
كأنما استجار به من هواء فاسد.
إلهام.. ماتت في ظروفٍ غامضةٍ
أنقذها من الموت بريدٌ لاحقٌ
وفي الرسالة الأخيرة كانت تسلّم عليََّ..
أحمد.. عزيز.. هشام.. وأصفياء آخرون
لازالوا يتفوّقون يوميّاً في امتحانات اليأس.]
آهٍ يا بريد الأحزان
النّخل لم يعُد شاهقاً
ومدينتي الحمراء امتقعت أضواؤها
أخي الأصغر سافر دون وداعي
ولم يكتب منذ رحل
.......................
لربّما "أورلاندو" كانت أكثر وطناً.
أطرُد طيور الأسى من الشرفة
وأحرث بياض الورق
المكتب الأخرس أمامي
وأنا هنا رغم الصباح والعاشرة
والشمس التي خجولةً تُطلّ
أيّة ضرورةٍ للشعر
أيّ جدوى من تشريح الأوجاع؟
فالتركية التي قضت ليلتها بسريري
منذ شهرٍ
لا تعرف ناظم حكمت
ولا تحفظ من الشعر سوى النشيد الوطني
حتى الطفلة التي دهست بيتها الرّملي
قدمٌ جهمةٌ على الشاطيء
حينما وبإحساسٍ مُرهفٍ
واسيتُها ببضعة أبياتٍ لجاك بريفير
لاحقتني بالزّعيق
وبشتائم تكبرها سنًّا
لكأنها عانسٌ
ماعادت تُطيق تودّد الرجال
ربما سأُحسن صنعاً باجتناب الشعر
لكي يظلّ السريرُ خالصاً
وتبقى الطفلةُ طفلةً
أو على الأقل نكايةً بمن سأُفوِّت عليهم
فرصة التهكّم على قصائدي
يكفيهم أنهم منهمكون في كيْل المجاملات
لبعضهم البعض.
يكتب الواحد منهم القصيدة
ليُشبعها الآخرون تربيتاً
فليكتبوا الشعر إذن:
اكتبوه بلاهوادة
اكتبوه بحروف المديح
أما أنا، فسألهو وأنتم تُركِّبون الاستعارات
وحينما تنتهون، سألهو أيضاً
سأكون أسعد حالاً
وأنا أنام في حضن فانيسا
أعاقر الكرز والعسل
وأسمع الموسيقى البيضاء
سأكون سعيداً أيضاً وأنا أصحو:
لكم هو جميلٌ وشاعرٌ سريرك أيّها الصباح!
هامش
بعض ما كان يشغل الشاعر الكونيّ عن كتابة القصيدة الكونيّة أو ظروفُ عدم كتابة النص:
غسلُ الأواني في وقتٍ متأخّرٍ من الليل
إضاعةُ المفاتيح ككُلِّ مرةٍ، وإضاعة الوقت في البحث عنها
إفسادُ ما سيعمد رفيقي في الشقة إلى ترتيبه فيما بعد
إزعاج الجار الصينيّ بالموسيقى العربية
تبادل القُبل والأشرطة مع كاترين
اختلاس النّظر إلى ساقي ماريا الثوريتين فيما تتحدث عن قضايا الماركسية في العالم
النضال المُستميت إلى جانب الرفاق في مقهى الجامعة
الخوف من الإفلاس الذي يدنو كخروف نطّاح.
بروكسل ــ أواخر 1997
يُخيِّبني
الفأرةُ اللّعينة قرضت قصائدي
فيما أُلامس رأسها المتقافز عبثاً
كهرٍّ هرِمٍ أعيتهُ الحيلةُ
وبرْدُ المفاصل.
تبّاً للكمبيوتر
ولقُرصه الصلب المزدحم
كحمام النساء في حيّي القديمْ.
تبّاً لي
وأنا أزجُّ بالشعر
في مضارب التّشفيرْ.
يارب، مالي والتكنولوجيا؟
كنتُ فيما مضى
أخطُّ أشجاني
على صفحةٍ بيضاء مثل هذي
ولم يطل قطُّ يدي العطب.
واليوم،
ها زيتونة عمري تثكل أوراقها
في الطريق إلى غابة الثلج.
الإوزّات التي كانت في البحيرة المجاورة
نفقتْ
وجثة الصيف الملقاة
وراء سور الكنيسة
لم تجد حارساً آخر غير ديسمبر
وغير البرد الذي تنفثه قاطرة الكهرباءْ.
وأنا مثل هاتفٍ مزكومٍ
ضيّع حرارته في مكالمات صمّاء
أواجه الشاشة بأحلام متيبّسة
وأصابع تصطكّ
لكأنِّي أُراود القصيدة عن سرّها
بضوءٍ كذِبٍ
ومفاتيح خرساءْ.
لكأنّي أحفر وئيداً في جليدٍ حيٍّ:
أكتبُ القصيدة تكنولوجيّاً
لتسقط القبّعاتُ في حبّها
ومظلاتُ العجائز
فيكتب عنها ناقمٌ أدبيٌّ
خبيرٌ في شؤون الشعر والعولمهْ.
أعني الناقد ذا النظارتين السديدتين
مُذْ قرأتُ له كلاماً طليعةً في الحداثة
وأنا أرسم الحلم مكعّباتٍ
ومثلثاتٍ وأنصافَ دوائر
وأكتب عن الشعر في الزمن الافتراضي
عن الحب في عصر الذّكاء الاصطناعي
وعن مواعيدي الغريرة
في حدائق الانترنت.
ضيّعتني الانترنت،
بدّدت دفئي الباقي
ولم أجن منها سوى الوحدة
والقلقْ...
فأصدقائي تائهون
في سوق المضاربات الغرامية
منهمكون في كتابة الرسائل العابرة للقلوب
والقارّات
يعرِضون حرارتهم الفصيحة
ولواعجهم المترجمة
على مانكانات النوافذ الإلكترونية القارسة
يبدون متحذلقين وودودين
كنبلاء فرنسيين
متيّمين وولهانين
كعشّاق الواحات
لكنهم لا يفكّرون إلاّ في أوراق الإقامة
والأغطية التي لا تكفي
في أسرّةٍ مؤقتةٍ على الدّوامْ.
ثمّ ها هم ينفرطون من حولي
واحداً واحداً
لتستقبلهم شقراواتٌ بمعاطفَ
يُرصِّعها البَرَدُ
في المنافي الأشدّ ضراوةً.
تبّاً للحب الإلكتروني
ضيّعهم تماماً
كما ضيّعتْ عيناي دمعاتها السّخينة.
حتى البكاء لم يعُد مُجدياً
ليُسعِف روحي البردانة
أنا القادم من جهة الشمس
محنتي هذي البلادُ المطيرة
أنا القادم من جهة النخل
هائمٌ على وجهي
في صحراء لا تشبه الصحراءْ
أُحصي خساراتي
فلا تكفيني الأصابع.
تائهٌ، أُجرجر أثقال روحي
من المحيط الأطلسي
إلى بحر الشمالْ
تائهٌ، والحيرة عكازي
طائرٌ رغم أنفي
أسأل الغيمة في عرض السماء:
متى نبتت لي الأجنحهْ؟
تائهٌ، لستُ أدري
كيف أرْدَتني الطريق
صديقاً لنواياها الغامضهْ.
غامضٌ أفقي، وعمري
ضائعٌ مثل خطايْ.
آهٍ كم كانت حروفي مزهرهْ!
مثل أصحابي هناك
كان لي بابٌ ومفتاحٌ قديمٌ، وسماءْ
كان لي دفترُ أشعارٍ
سريرٌ ورفاقْ.
لكن أغوتني قصائد سركون بولص
أغواني أدب المهجر
منذ الرّابطة القلميّة
حتى آخر قصيدةٍ مجمَّدةٍ لشاعرٍ عراقيٍّ
ينتظر الإعتراف به كلاجىءٍ
في الدّانمارك.
صديقي هشام فهمي
دعك من الحلم عبثاً بالهجرة إلى سويسرا
واحفظ لقصائدك شراستها الأليفة.
يالقصائدي الأولى
كانت حناجر الرّفاق
تُشعل النار في الأروقة والرّدهات،
بأكُفّهم الجائعة
كانوا يضمّون قصائدي
إلى أحلامهم:
"وحين اندفعنا
إلى باحة القلب
فريقٌ تجمهر
ذات اليمين
ونحن انتبذنا
ذات الغضبْ
شربنا عيون المسار المُدمّى
وبُحنا بما في الدِّما
من لهبْ..."
كان اللهب يتطاير من أرواحنا
وكان الرفاق يحلمون. ويفرحون
ويحزنون. ويموتون باسمين.
أتذكّر حزننا
يوم حلّقت روح شباضة*
في الأعالي
تاركةً الجسد الفتيَّ الصّامت
يُحدِّق بشماتةٍ في ذعر الجلادين
أصبح السّجنُ سجنَهم
وكانت روحه تسامرنا خارج الجدران
كان الرّفاق جميلين و شعراء
حتى في حزنهم
وكتبتُ أُنادم روح رفيقي:
"القبر ثانيةً...
وإنك متعبٌ يا صاحبي
والبحر يقتل غيلةً
والأرض تفتحُ جرحها للعابرينْ
ويُشاع إنك عابرٌ
لكنك ابن الأرض
فارسها الحزينْ..."
آهٍ كم ضيّعتنا المنافي التي من سرابْ
لا نار في أحشائنا
لا ماء. لا ورد في الشبّاك
ولا خطوط على راحة الكف
فما الذي تبقّى؟
هنا مجرّد متياسرين محترفين
يُقايضون آلام شعوبهم ثمناً قليلاً
ولا يتورّعون عن لعن أسلافهم
أمام أول شقراءْ.
وحين تضيق بهم أسباب البغضاء
ينهشون بعضهم
كذئابٍ ثوريّة.
تبّاً لهم
لحديثي النّضال منهم
تستقطبهم الجعّة
في المظاهرات الرّاقصة
وتأسرهم يساريات الشمال الملتهبات
فيصمدون بجانبهن
إلى آخر العواء
في مظاهرات الدفاع عن حقوق الدِّببهْ.
أما التماسيح
الطّاعنون في المقاهي والخساراتْ
فيبدون في مجالسهم الهادرة بالضّواحي
كأنبياء متقاعدين
ضيّعوا مواعيدهم مع المعجزاتْ.
تبّاً،
هذا الضّياع البارد يُكبّل أنفاسي
بهواءٍ كالزجاجْ
والشعر الذي سيستلُّ روحي
إلى حيث الدّفء و الشقاوات القديمة
لم يعُد دلوه يدرك الأعماقْ.
لكم تغيّرتُ،
ملامحي القديمة
تسيل من وجهي
لتسقط على البلاط الأخرس
ولا شاهد على ما يحدث.
لم أعد أسمع نباح الكلاب في الليل
ولا صياح الدِّيَكة في أوّل الصبح
لم أعد أسمع شيئاً غير الصمت
ولم أعد أعرف وجهي في مرآة المغسلهْ
لم يعد فيَّ
ما قد يدلُّ عليَّ
ولم أعد أملك غير هذه
الأعضاء الباردة
الأعضاء التي تحسُّ بالبرد وتنامْ
تتغطّى بملاءات القطن
ولا تدفأْ.
لم يعد فيَّ ما يدلُّ على أحلامي التي كانت
حتى القصائد خانت حاجتي إلى أطيافها
الشفيفة المجنّحة
حتى الشعراء، هل غادروا؟
يُحيِّرني أمرُ هؤلاء الشعراءْ
فالعشاق يؤلِّف بين قلوبهم الحبّ
والمؤمنون تجمعهم طاعة الله
الصالحون يتحلّقون حول شمعة الفضيلة
واللصوص يضمّهم السجن إلى أسرارهم
السكارى فنارهم الكأس في بحر الظمإ
والمخبرون تجمعهم الأخبار السوداءْ
وحدهم الشعراء تُفرِّقهم القصيدة.
لكنني لستُ شاعراً
فقط أحسُّ الألم قارساً، وأقول
هذه ناري.
أمدُّ يدي لألمسها،
فتُحرقني ألسنةُ الجليدْ.
بروكسل- أواخر 1999
* عبد الحق شباضة مناضل طلاّبي قضى على إثر إضراب عن الطعام خاضه ضمن مجموعة "سجن لعلو" بالرباط.
أن تقع في أسر عنكبوتٍ إلكترونيٍّ
لتُؤدِّي الجزية 18دولاراً في الشهر
أن تُصبح لك صداقاتٌ وطيدةٌ في كلِّ أنحاء العالم
دون أن تجد نفسك مجبراً على تحية جيرانك
في نفس العمارة
أن يعرف Christian@yahoo.fr
و Jamal@maktoob.com
و Dai-ping@nirvanet.net
و Janet@hotmail.com
وعناوينُ إلكترونيّةٌ أخرى
كلَّ تفاصيل حياتك
فيما تجهل أمك عنك كلّ شيْء
أن تنسى تماماً مكان أقرب مكتب بريدٍ في حيِّك
وأن لا تفهم كيف لم تنقرض الطوابع بَعْد
أن تُبحِر في علاقة حبٍّ إلكترونيّةٍ
تُفضي بك إلى زواجٍ سريعٍ
يُفضي إلى بدينةٍ عجزاءَ
تُفضي إلى ساعاتٍ أخرى مديدةٍ
في مواقع الجنس على الانترنت
أن تُقلِّد الشيطان في تسريحة شعره
وأن لا تحتاج التبغ أبداً
في تدخينك للماريخوانا
أن تُحرق الصّدر الذي لم يُوسَّم قطّ
لتضرب مواعيد مبكّرةً
مع ضيق التنفّس
أن تُحبّ عشيقةً حمراء
بنهدٍ نافرٍ وبطنٍ ضامرٍ
تفوح منها روائح فيليب موريس
عشيقةً بكعبٍ خبيرٍ
في سحق أعقاب المارلبورو لايت
أن بمجرد حصولك على البطاقةٍ الخضراء
تسارع إلى تغيير اسمك العربي
متنكّرًا لسلالتك
وأن تُجاهر بقرفك الشديد من السود
والهيسبانيك
ومن باقي مظاهر التخلف في العالم الجديد
ألاّ تبدو مُحرَجاً ومَغيظاً
كلاجىءٍ مُجبَر على شتم بلاده
كيما يبقى على قيد الحرية
أن لا تتوقّف عن التذكير بأنك مختلفٌ
وأنك لست كالآخرين من أبناء جلدتك
أن تُباهي بتفهُّمكَ العميق
لقضية مُعاشري المثيل
( تقصد الشاذّين جنسياً )
وتُنادي برفع كل أشكال الميز عنهم
أن تخلُد للراحة الإيديولوجيّة
وأن تكبت تماماً
غرائزك القومية
ليتأكّد الجميع من أن ليس في نيتك
ما قد ينوي البعض أنك نويته في حديثك
فتُتَّهم بمُعاداة السامية
أن بمجرّد مُلامَستك لمَلامِس الكومبيوتر
ترمي خجلك الأسطوريَّ وراء ظهرك
لتنهمر غزلاً ومعاكساتٍ بذيئةً
كما لو أنك أفرغت للتوِّ قنّينة نبيذٍ في جوفك
أن تخشى على حاسوبك الشخصيّ
من فيروس I love you وأترابه
أكثر مما يخشى إفريقي على نفسه
من وباء الإيبولا
أن تبحث في الحيِّ الصينيِّ
عن اللّمسة الشافية
لمعالجة سرطانك المزمن
أن تستدرجك عرّافةٌ بملامح هندية
بالتايم سكوير
أن تُقاوِم البرد بالمزيد من الشقراوات
لا الحطب
بالمزيد من البيرة الليبرالية
لا الشمس
أن تتملّى قائمة الطعام التي
يفرِشها أمامك نادلٌ يشبه بول نيومان
قبل أن تطلب دونما اكتراثٍ
هامبرغرك المعتاد
ليس يعني سوى أنك
أصبحت عنصراً صالحاً للاندماج السريع
في قبيلة العولمة.
نيويورك - سبتمبر 2000
أهلاً بك في نيويورك
حيث حمّامات الأجساد مبثوثةٌ
في الهواء الذي لم يعُد طلْقاً
حيث الموظّفات النّشيطات
يرتدين بِذَلاً كلاسيكيّة أنيقة
وأحذيةً رياضيّة سميكة
وحيث البدينات يأكلن الهوت دوغز
ولا يتجشّأْن
وحيث لا أحد يهتمّ لأحد.
هنا مستقرّ الرُّحَّل
وموقف المشّائين
لا تخلع نعليك أيّها الزّائر
فالوادي غير مُقدّسٍ
ولا تُخفّف الوطْء
فلا رُفات هنا
لا أجداد
ولا أجداث
بل اخطُ بقرقعةٍ واثقةٍ
فلا أحد يضيع
في هذه المتاهة العصماء.
أهلاً بك في نيويورك
حيث الحرية تنام
واقفةً
على شكل تمثالٍ
تلكزه الومَّاضات
ويُحاصره السياح
تمثالٍ يرى
ويسمع كلّ شيءٍ
ثم يخرس.
أهلاً بك في نيويورك
هنا ناطحت الأرض
السماء
فانتهكت أسرارها
واستعاذت منها بالنجوم
ثمّ علّقت جثتها
على غصن المجرّة القديم.
أهلاً بك في نيويورك
حيث نبني مدرسة واقعية
لخيال المستقبل
هنا نُبدع للعالم لغته الجديدة
لغته الوحيدة
ونفكّر للجميع
في حياةٍ مطمئنّةٍ
خُلوٍّ من المشاعر
والأحقاد.
أهلاً بك في نيويورك
هنا أطلق رُعاة البقر
إحدى وأربعين طلقةً
على أمادو ديالو
لمجرّد أنهم ارتابوا في جِلْده
هنا ودّع الفتى الغيني أحلامه
في تعلّم الكومبيوتر
وفي أن ينتهي إلى رعي الإلكترونات
بوادي السيليكون.
هنا استغاث الدم
بالدم:
أخي في السمرة
يا سليل إفريقيا الشهيدة
ها مواطنوك البيض الرّائقون
يُعلّمونني بدَل البرمجة
السباحة في الدم الخاثر
............................
أخي إنّي أموت لأنّ لي حلماً
بلونٍ فاتحٍ
وجريرتي أنّي
أحمل جرحي وترابي
وأبحث عن وطنٍ
من ظلٍّ
وماءْ.
هنا تنكّر الدم
للدم:
الآن أصبحتُ أخاك؟
أين كنتَ يا ابن العمّ
حينما اقتادوا جدّي عبداً
إلى مزارعهم في الجنوب؟
مَن مِن ذويك ذاد عنه؟
مَن حارب لأجله؟
ومَن...؟
فاسبح في دمك الآن وحدك
أو غُص به إلى حيث الجذور.
إفريقيا جحيم العالم
وأبناؤها رجيمون
دون خطيئة.
الجفاف الوارف يتسلّق
شجرة الأرض
وإفريقيا
جذعها المنخور.
أما أنت أيها الشعب الأبيض السعيد
أيها الشعب المرابط خلف التمثال
يا شعب الفردوس المرصود
ارتع في الحرية ما أسعدك!
اختر كما يحلو لك
اختر ما بين كوكاكولا وبيبسي كولا
ما بين الماكدونالدز والبرغر كينغ
ما بين بيتزا هات ودومينوس بيتزا
ما بين فيزا وماستركارد
ما بين السجن المؤبد والحكم بالإعدام
اختر ما بين تل أبيب وأورشليم
ما بين أمريكا وأمريكا
اختر أيها الشعب الحرّ السعيد
اختر ما بين جورج سام
وجورج دبليو سام
اختر ولا تهتم لدم حام
وأحلامه الشّعثاء
حيث الكومبيوتر
وربما عشيقةٌ سمراء
ينسى بين أحضانها
الموت الذي هناك
الجفاف الأسود
والجذع المنخور.
بوسطن - أكتوبر 2000
* شاب غيني قتل برصاص أربعة من رجال الأمن أمام منزله بحي البرونكس بنيويورك. الحادث الذي أدّى إلى اندلاع مظاهرات ساخطة بالمدينة في أوساط السود الأمريكيين طوال ثلاثة أسابيع.
صباح الخير أيّها العنكبوت
يا وابل المعنى ويا شفيرة النّور
بيتُك من أبهى البيوت
وأنا سادنه الأمين
من أوّل النّقر
إلى أقاصي الدهشة الساطعهْ.
صباح الموج أيها الأزرق الهادر العظيم
يا شرفة الضوء المشرعة على خيوط المستقبل
أيتها اللحظة الباهرة التي تُؤلِّب الرّوح
ضدّ عزلة الجسد
والحواس ضدَّ ما يشُدّها إلى رتابة الأعضاء
أيتها اللحظة التي لا عمر لها
سأُقيم فيك لأرحل
بعيداً عن جهامة رجال الجمارك الانكشاريين
وتحذلق الخصيان من موظّفي المطارات.
صباح الخير أيّها العنكبوت
صباح الرِّضى يا زقزقة الكهرباء
أنا جاهزٌ فخذيني إلى عالمي الذي من ضوء
فلديّ جيرانٌ طيِّبون في هوتمايل
وأترابٌ ودودون في ياهو
وعشيقةٌ سرِّيةٌ في كارامايل
لديَّ رفاقٌ هنا وهناك...
رفاق الدّرب القديم
يُغرِقون بريدي بالمقالات الغاضبة
والبيانات النّاريّة
وفائض الإدانات،
ورفيقاتٌ في عمر الزّهور
أناضل إلى جانبهنّ بشراسةٍ سبرنيتيّةٍ
من أجل حماية الحقوق الثقافية للإسكيمو.
غود مورغن إيلْس.
صباح الخير يا محمد.
بونجور كارين.
أُسعدت صباحاً إياد.
غود مورنينغ بيتر550.
طاب نهارك عبدو م. م.
صباح الخير أيّها الأخ الأكبر
يا عين النِّت التي لا تنام.
صباح الخير يا قراصنة الضوء
أهلاً ومهلاً،
سأجيئكم بقهوة الصباح
ببيجامتي الزرقاء وبرائحة الفِراش.
سأُقشِّر المندرين
سأطلي الخبز بالزبدة والكتشب
وأجيئكم
سأفطر بينكم
كما يجدر بأسرة افتراضية سعيدة.
سأجيئكم بثرثراتي
بفرشاة أسناني
بمِرذاذي ضدّ ضيق التنفّس
وبعلبة الكلينكس.
سأجيئكم بسيجارتي الأولى
وبما تبقّى من أحلام الأمس.
سأجيئكم بعناويني
ومواعيدي
بوساوسي ونواياي.
فلنواصل دردشتنا عن أفغانستان يا فوّاز..
وأنتِ يا كارولين، لم تُتمّي أمس حديثك
عن اللذّة الكهربيّة البيضاء..
لا يا جِلبير، لا تُصدِّق كلّ ما يُقال
فتعدّد الزوجات ليس سنّة مؤكّدة.
مهلاً كريم، مهلاً يا أخا الهاكرز
إيميلي ليس صندوق قمامة
فاحفظ عليك منقولاتك الداعرة
وفيروساتك الخبيثة تنفثها كالسّم
في دسم الشبق.
وأنت يا رستم،
هل وجدتم حلاًّ لمشكلة الكهرباء في أربيل؟
لا يا ناتالي،
لا يا عزيزتي، شعري بنيٌّ فاتحٌ
وعيناي بالطبع زرقاوتان.
اصمت أيها الخارج المقرف
أيها الهواء البليد خارج الشاشة الذكية، إليك عنّي
فحياتي أقصر من أن تُهدر في حساب الفواتير
ولعن الضرائب والطقس
والتّحامق مثل العجائز خوفاً
من تأثير اليورو على ارتفاع الأسعار.
اصمت أيها الخارج الكئيب
بسببك هرمت وبالكاد دقّت من عمري الثلاثون
أسناني تكاد تنخلع من منابتها كأحذيةٍ بدينةٍ
كما لو أنّها لا تريد إحداث ضجيجٍ ساعة السقوط
رأسي يدور مثل حوّامة
وأنفي ينزّ كنافورةٍ معطّلة
أسعل حتى تكاد رئتاي تنقذفان إلى الخارج
حيث البرد يُجمِّد العواطف والأحاسيس.
ثلاثون عاماً من الشكوى
ثلاثون عاماً من المقاعد والفصول
والخوف من الامتحان
ثلاثون عاماً من الشعارات الثورية
والمسلسلات العاطفية
ثلاثون عاماً من الهواء
فكيف لم أختنق بعد؟
العالم خارجكَ أيها الرّحم الكهربائي الدافىء
صقيعٌ خانقٌ
العالم خارجكَ أيها الهواء الافتراضيّ
محض هباء.
هنا أتنفّس العالم نقياً ومُضاء.
لا حياة خارجكِ، فضُمّيني إلى ذبذباتكِ
أيّتها الإلكترونات الرّحيمة
أنا أسيرُك المُساق برِضاي
سآتيكِ كاملاً غير منقوص
سآتيك بما أخفي وما أُعلن
وبما لم يخطر على بالي بعد
سآتيك بأحلامي وأوهامي
بأسماء دخولي كلّها
وبكلمات السر
سأحمل روحي على فأرتي
وأُلقي بها في مهاوي الكوكيز.
لم أعد قادراً على العيش خارجكِ
يا مدينة الكهرباء
العالم خارجك محض إشاعة
وحدهم البسطاء يصدّقونها
أمّا أنا فلا خارج لي
الويب والواب والنيتسكايب تعرفني
أنا أمير الغرقى
وشهيد المبحرين
ابنكَ البارّ أنا أيّها العنكبوت
فاحضنني برأفة قبطانٍ
بيتك بيتي
فأجرني من عتمة هذي البيوت.
كلّ شيء هنا بات يُضجرني..
يُضجرني ساعي البريد؛
يُنبِّهني إلى أن صندوق بريدي
عشّشت فيه العناكب.
تُضجرني زيارات الأصدقاء؛
يطرقون بابي دون سابق موعدٍ
ودونما استئذانٍ يتوغّلون.
الحدائق تُضجرني مذ حوّلتها الكلاب
إلى مراحيض خصوصية.
زحمة المترو تُضجرني
ويُضجرني لغَط البارات.
يُضجرني الأكل في المطاعم،
حيث نُدُلٌ متزلّفون
يُشهرون قوائم طعامهم
وابتسامتهم الباردة في وجهك
ليضحكوا من لكنتك خلف الكونتوار.
يا أشباهي في العزلة والأرق،
يا فيالق الحبّ القصيّ.
يا أرواحي الجديدة. يا سلالة الضوء
سأتناول سَنْدويشي بينكم.
سأُفَرشي أسناني بينكم
وأحلق ذقني بينكم.
وبينكم سأقضي حاجتي...
تبّا أيتها التواليت..
كم أنت بعيدة!
يا أبناء العالم المربّع
يا عشيرة الملاّحين
أنا هنا بينكم مواطنٌ حرٌّ سعيد،
خفيفٌ كرغوةٍ
طليقٌ كأرنب البراري.
من موقعٍ لموقعٍ
ومن منتدىً لمنتدىً
ألاحق موجة الأسرار
أعجنها باليدين بالقلب بالمجامع
لأبدع شكلاً تفاعلياً للحياة:
أدردش إلكترونياً. وأفرفش إلكترونياً.
أعشق إلكترونياً. وأبغض إلكترونياً.
أُخلص إلكترونياً. وأخون إلكترونياً.
أُتاجر إلكترونياً. وأُقامر إلكترونياً.
أُغازل إلكترونياً. وأناضل إلكترونياً.
أتضامن مع الانتفاضة إلكترونياً.
وأدين شارون إلكترونياً.
أحلم بتحرير فلسطين إلكترونياً.
وأتظاهر من أجل إيقاف العدوان
على العراق
وأفغانستان.
أنا هنا حرٌّ تماماً
كمن يطوف على سحابةٍ من نور
لذا، لن أغادر أبداً
لقد تركتُ لكم كلّ شيء:
بطاقة هويتي وجواز سفري،
مفكراتي وأسراري
جرائدي وقواميسي
كتبي وأسفاري.
فوداعاً...
وداعاً أيّتها الأوراق
وداعاً..
وداعاً يا بنات الأشجار
وداعاً..
ومرحى
بعالَمٍ
أكثر
رأفةً
بالغابات.
بروكسل - يناير 2002