إلى روح لوركا بين الغيوم،
إلى العاصفة قبل أن تهدأ،
و إلى M .A ... غريقين في حديقة.
1- خلاءٌ فسيح
في هذه اللحظة بالذات ثمة أربعة جدران ترتفع حولي، تضيق وتسودّ بالتدريج، قافلةً السماء في وجهي، حابسةً الأفق عن ناظري، فأعرف أنني في قعر البئر، وأنّ حياتي تفرغ من الأوهام ... الأوهام التي حاربت بها الضجر، الأكاذيب التي واجهت بها الحقيقة، الأعذار التي حرمتني مراراً من المسدّس وحوار الطلقة الهادئة. أربعة جدران ترتفع حولي وضجيج البنّائين ما يزال يعلو ويرتفع، إنهم يبنون عزلتي مدماكاً مدماكاً، يصقلونها بمطارقهم وأزاميلهم، يقفلون النهارَ خلفهم ويخرجون، سارقين ذكرياتي من سقوفها، قارعين أجراس الخلاء ...
لأعرفَ أنه لا أثرَ لبيتٍ حولي.
2- صهيلُ الحفرة
ليست الأعلام المنكّسة إذن أو ثياب الحداد. ليس سرب الطيور المتأخر الذي حطّ على المدخنة وصار قوساً. ليس النهر الذي صارت مياهه سوداء بفعل الظلال التي انتحرت الواحد تلو الآخر. ليس الحبر الذي جفّ عن اليدّ أو البراري التي نفختها الريحُ إلى أبعد ناي. ليست الأضراس البيضاء التي نجمعها صباحاً عن الوسائد أو الصلوات التي تدهن سقوفنا بالكلس .... ليس هذا كله مادلّ الطبيبَ إلى صرختي بل صهيلُ تلك الرّيح الخرساء التي ما تزال تضربُ البياضَ الشاسعَ بحافرها المعكوس محمحمةً في وجه الشمس السهلة، متأمّلةً بعينيها الدامعتين الشرطةَ والمشيعين،
مالئةً فمَها المربّع بقضماتٍ مباغتة من الأسف الطويل.
3-أنيابُ منتصف الليل
وأمي التي بعثرت نجومَها فوق الوسائدِ تقود زوبعةً إلى صحن الدار. تضيء شمعتين اثنتين كي ترى الليلَ اكثر حلكةً، وتركع-قرب البئر ذاته- وجهها باتجاه الهلال الهارب، تصلّي كي أعودَ بلا قيدٍ في القدم أو دمغةٍ في الروح، بلا صرخةٍ في الفم أو زلزالٍ في الجمجمة. والإله الذي شفّ بين ذراعيها حادّاً وضارياً كمنشار، كان يهتفُ كالآخرين، عالماً بأنني لن أكلّمَ العاصفةَ، ولن يفتحَ لي أحدٌ باباً، ولن ينبحَ عليّ لونٌ أو يعوي نقشٌ، ولن أجدَ من يلمّ عظامي المكشوفة
ويرميها ثانيةً في أقرب بئر.
4- نقشٌ بين كابوسين
الآن حيث نيسان القاسي يهبط بزهوره التلالَ المريضةَ ترافقه ملائكةٌ مجنّحة وعرباتٌ من نار، ينحدر بصخرته البيضاء (والتي هي أيضاً صرخته) رابطاً بقيدٍ من ذهب صرختي بصخرته، لنصعد سويةً الدرجَ الأبيضَ الذي يقود إلى عيادة الطبيب حيث غيمتان زرقاوان لحقتا بنا ونقشتا على الباب رسمين لإلهين مطرودين. في البهو الطويل للمساء كانت النجومُ تبعثرُ مجازاتها المأكولة. وكانت الحياة بكامل زينتها تتأرجح بين نيونٍ مطفأ وكتابٍ مبلول فيما نقاط دم يابسة تظهر وتختفي على العدسات المكسورة لريحٍ عمياء
يقودها نهارٌ أعزل يدخل المشرحةَ ولا يخرج .
5- تنصّتٌ كالفضيحة
شموعاً كثيرةً أضاءت لنا الريحُ - الريحُ السوداء التي خرجت من الإبريق وبدأت تحلّ خيطانَها البيضاءَ والصفراءَ والزرقاءَ في بهو العيادة. لكننا حين نظرنا لم نكن لنرى أفقاً، وحين احتجنا لخيطانٍ وإبرٍ كثيرة لنرتق جروحَنا وكسورَنا لم نكن لنعثر على شعاعٍ واحد. حتّى النوافذ التي أردنا فتحها على مصراعيها للسماح للنور بالدخول واختراق نظّاراتنا ذابت أصداؤها على قبضاتنا. ولم نندم لأننا لم نكن نريد للضوء الخاطف أن يدخلَ ويفضحَ خطواتنا التي كانت تقترب أكثر فأكثر من البئر، باحثةً- بين أوراق العزلة- عن ربيعٍ مهجورٍ يعكس بهواجسهِ المرئية التنصّتَ الأزرق الذي كان يسبح فوق السّتائر
صانعاً سواداً مسحوراً لا يجوز لأحدٍ أن يدركَ كنهَه.
6- رثاءٌ لمسمارٍ واحد
وانتظرنا كي يخرج أعداؤنا من السّواد- السواد الذي لم يكن سوى مكواةٍ خرساء يضغط بها الإله القادر على السّكون الهارب فتستقيم تضاريسُ اللغة وينحسرُ الموجُ الهادرُ الذي أحدثه البرابرةُ بقواربهم المزدانة بعظام الجيران. انتظرنا أعداءَنا عند كل منعطف، ووراء كل شجرة؛ خلف كل متراس، وفوق كل سطح. أحضرنا أشهرَ شعرائنا لمديحهم، أجملَ نحُاتنا لوداعهم، أعتمَ نسائنا لرثائهم. وبكينا مثلما لم تفعل ثكلى. وحين جاء أعداؤنا أخبرونا أنّ أعداءنا لن يأتوا، وأن زهورنا وشموعنا ودموعنا هي إشارات فحسب
لنهارٍ مهدورٍ لن يتجاوزَ محض صراخٍ في قفر.
7-أرواح مقطوفة
لكننا كنا قد بدأنا القتالَ مؤلبين اللغة على مفرداتها والخيال على شياطينه، موقظين ديكنسون من عزلتها بين القصائد، فاتحين لكيتس أبواب البلاغة كي يطيّر من جديد زيزانه في سمائنا، صاقلين بأسناننا أسرارَ المشيئةِ لعلّ هاملت يعدّل قليلاً من كآبته ويقطف لأوفيليا التي انتفخت في النهر زهورَها المقطوفةَ: يعلّق الهلالَ على خصرهِ تذكاراً لقلبين باعدت بين وقتيهما فأسُ الصدفة، فذهبا في عشقيهما مذهب قبرين مشيا معاً حدّ اللذّة. مشيا معاً شاهدةً تعكس شاهدةً ونحيباً يبغي نحيباً. ولم نكن لنسحبَ أقدامَنا من رثاءٍ اسودّت أحجاره
ونحن نشيّع للظهيرةِ آخر أشباحنا.
8 - تهليل المياه
ثمّ أتانا نوءٌ رفَعَ مراكبنا على راحاتٍ صلصالية. سواعد فرعونية مصبوبة من روح البازلت راحت تجدّفُ عكس الريح التي آخيناها،
عكسَ الشّمس التي رقّقناها فوق سنادين كنّا رميناها في الماء وذبحنا لها حيتاناً وقنادس لتشعّ. قلنا ليتقدّس هذا الزيت البلّوري، ليتقدّس فكّ الشبوط، ولتُصقَل بمشاعرنا أنيابُ القرش، وليزرقّ عميقاً قنديل البحر. و هلّلنا تهليلَ الغرقى لقبورٍ منحوتة وستُنحت في النسيان. لم يرجع منا أحدٌ. لم نترك خبراً لمؤرّخ. لم نترك اسماً للنسيان. لم نترك ختماً، رسماً.
لم نترك أثَرَاً.
9 - جحيم الأقدام العائدة
كيف لنا إذن أن نخطفَ الصّدى؟ أن ننحتَ صدىً للصدى- صدى مفصولاً عن صداه، مفصولاً عن شعورنا بالصدى. صدى كالصّدى روحه الصّدى؟ ... صدى ارتطام السماء بأكتاف المارّة، صدى سقوط نجمٍ فوق قبر، صدى انهمارِ المطر فوق درّاجةٍ مات مراهقها بانتظار الصّيف، صدى غيابنا في حفرةٍ أو صورةٍ أو فيلمٍ وثائقي. كيف لنا أن نصبّ الصدى في كلمةٍ أو هفوةٍ ونرميه كيفما اتفق في أقرب بئرٍ ليصيرَ بعدها
حياةً بيضاء تلمعُ كالناب في ظلامٍ دامس؟
10 -أجراس الغيمة العرجاء
وحيثما تذهبُ يذهبُ صداكَ معك. تبدّل آباركَ مثلما تبدّل أحلامَك: مثلما تبدّلُ ساعةً بمعصمٍ مقطوع، أو ساقاً خشبيةً بحياةٍ من الركض. ثمّ تجهّز للموت صمتاً. سنيناً أمضيتها وأنت تجهّز صوتكَ لنصلٍ قاطعٍ. كنت تقول: يالحزنٍ محفورٍ في أسمنت اللحظة يرُمى إلى الماء مثلما ترُمى سنارةٌ إلى شفَةٍ موثوقةٍ بأقدار طائشةٍ وكناياتٍ لا تُخفي من وشايات الليل سوى صنانير من صمت المخدوع! وحيثما تذهب يذهبُ صداكَ معك، لكنه يجفّ بلا تسلسلٍ في الطّريق الطويل
إلى عيادةٍ لا طبيبَ فيها ولا مقصّ.
11 - جدار المقبرة
وكنتَ تقول: منذ زمنٍ وأنا أنقّل الشواهدَ من مقبرةٍ إلى مقبرةٍ. أبدّلُ عناوينَ الموتى وأرقامَهم (فربّما أتى البريد غداً) مزيفاً نقوشَهم وأسماءَهم، مجرّداً الموت نفسَه من هيبتهِ العريقة، ناصباً ضريحي في عرض الساحة التي سيقامُ فيها الاحتفال، ذاهباً غادياً في طريق الكارثة، موزعاً التذكارات على جيرانٍ ينوون الرحيلَ إلى أمسِهم. قالوا سيرحلون مع أشباحهم، وربما مع نهاراتهم التي أرهقها الظلّ. فقد نشفت آبارُهم وخلت غاباتهم من الأقدام وشاع جرادٌ كثيرٌ في أحلامهم. وكان لزاماً أن يقفلوا أبوابَهم، وينصبوا وراء كل عتبةٍ كميناً. وكرهوا بعضَهم بعضاً، وكرهوا كرههَم،
وحاربوا وحوربوا، و قاتلوا وقتلوا، ولم ينج منهم أحد.
( يتبع لاحقاً )