غسان زقطان: من عرض الحال إلي استدراج الجبل! المكان ليس رقعة جغرافية بل حدث درامي مشتبك بالزمن!
هل هو ابن الشاعر خليل زقطان؟، بهذا السؤال استقبلت اسم غسان أول مرة، عندما عثرت علي قصائده الغضة التي نشرها في مجموعة مشتركة مع صديقه محمد الظاهر. وما كان لمثل سؤالي أن يزعجه أو ينتقص من نزعته الاستقلالية.
وذلك لسبب بسيط: أنه فعلاً، ابن خليل زقطان، شاعر الجياع، الساخر، الصموت، البوهيمي.. وأن الابن، من هذا كله، اختار أن يرث عن أبيه صفة محددة هي الشعر!
ولد غسان زقطان عام 1954 في بيت جالا مع أن الأهل من قرية زكريا. ونشأ في أسرة جديرة بأن يؤلفها والده الشاعر. فشقيقه زهير ناقد وشاعر. وشقيقته زهيرة كاتبة قصة وفنانة. وشقيقه وضاح موسيقي وكاتب.
أما هو فكان، منذ رياح الصبا، ممسوساً بقصيدته الخاصة التي كانت تراوده في غفلة عن الجميع، فهو إما نسيج وحده، أو لا يكون.. ومن الطريف أنه، فيما كان يحاول الشعر، كان جسمه الممشوق ينمو ويطاول إلي كرة السلة، حتي أن أول عمل وظيفي زاوله، كان تدريس الرياضة.... ونادته الصحافة بعد الرياضة، فكان مسؤول الملف الثقافي لمجلة الحرية الناطقة باسم الجبهة الديمقراطية. ثم مديراً لتحرير مجلة بيادر التي كنا نصدرها معاً، من خلال دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، أيام تونس. ثم مديراً لتحرير مجلة مشارف التي أسسها المرحوم إميل حبيبي بعد عودتنا إلي الجزء المتاح لنا من فلسطين. وهو الآن رئيس تحرير مجلة الشعراء التي تصدر في رام الله عن بيت الشعر الفلسطيني الذي أسسه الشاعر المتوكل طه.
شغفته الرواية فكتبها مرتين: سماء خفيفة، ووصف الماضي..
وشغفه العمل المرئي فكتب للتلفزيون دراما وبرامج.. وكذلك للسينما.. وإلي ذلك، هو مجنون سفر، لا يؤوب من بلد إلا ويحلم بزيارة آخر.. فهو مسكون بالتجوال والاكتشاف والاطلاع.. لكنه شاعر أولاً. وقد صدرت مجموعته عرض حال للوطن ، بالاشتراك مع محمد الظاهر (العباسي) في عمان عام 1976. أما المجموعة التي قدمت صوته الخاص واضحاً من غير مواربة، فهي صباح مبكر ـ بيروت 1979. وتتالت مجموعاته الشعرية بعد ذلك أسباب قديمة، 1982 ـ رايات، 1984 ـ بطولة الأشياء، 1988 ونشر مختارات مما سبق في مجموعة تحمل عنوان ترتيب الوصف عام 1998.
وأخيراً، مجموعته الاخيرة التي أمامي: استدراج الجبل .
مطالع.. مطالع
كما هو مشغوف بالسفر والاطلاع، فإنه مدعو إلي إنشاء بدايات جديدة باستمرار. يساعده علي ذلك أفق مطواع، فلا يرنو إلي الأقاصي إلا وينفتح أمامه أفق جديد يأخذ شكل الحنين تارة، والحنان تارة. ويتداخل علي يديه الزمن في الذاكرة ومدار التخمين. فهو الأمس والآن، وبينهما احتمال الغد أو ما بعد قليل. ولا صبر لهذا الشاعر علي الاستبطان أو التفلسف. فهو يستقبل العالم بتلقائية. لكنها غير مجــردة. إنه ينشـــد البراءة وليس بريئاً. بل هو مزوّد بخبرات ينبــــئ عنها تفصيل صغير، أو مفـــارقة، أو إعــــادة إنتاج لحظــــة جمالية وبهذا فهو يدلف شعراً حتي لا تعرف من أين توافيه القصيدة:
ورأيت فيما يبصر العميان صوتاً
في الحديقة،
هيئة.. وتنفساً.. وأفقت وحدي،
عندما نبعت من الجدران همهمة:
ستشبه أن يقول لك الهواء:
هنا.. هنا
أمام غناء كهذا. أنت لا تطالب غسان زقطان بأن يقول شيئاً. فهو ليس مشغولاً بالمعاني، وليس مثقلاً بالأغراض الشعرية. لكنه ذاكرة تمشي علي قدمين من هيولي وحلم. وعلي هذا فهو غير مشغول بأن يصل إلي مكان أو فكرة. لهذا يترك القول الشعري في منتصف الطريق. ويتوقف ليبدأ من جديد. كأنه يقترح علي حنجرته أصواتاً لم يهتكها مسمع تقليدي. فهو ينشئ المطلع تلو المطلع.. ثم تُجمع هذه المطالع في كتاب، فإذا بهذه البدايات المتقاطعة والمتوازية، تنتج من تكاثرها العددي كيفية جديدة. وإذا الشعر عنده، كالموسيقي، لا يقايض الكلام والإيقاع بالأفكار، بل يقترح علي المتلقي قراءة جديدة، قوامها الإحساس لا الفهم.. وإلي ذلك فهو بمنأي عن المعميات والطلاسم. ها هم العميان يبصرون في قصيدته. ولا غرو، فالنص الغائب المتوارث يقول بالبصيرة التي تعوّض عن البصر. و الهواء يقول ، ولكن بعد أن يتخلي عن هوائيته ويصبح حدساً واستشرافاً وشفافية تسمح بالإصغاء العميق إلي الزمان وقد لبس المكان. فهذا الصدي الغامض: هنا.. هنا، من الممكن أن يتردد في خيال الشاعر بغض النظر عن الجغرافيا التي تحكمه. تماماً كما يتلقي قراء مختلفون متواجدون في أماكن مختلفة، دلالة ـ هنا.. هنا فينشطر المكان إلي أمكنة حسب توزع القراء، ويحتل الصوت مكانته الدرامية من خلال الصدي المتولد عن النداء، هنا.. هنا:
من في المدينة غيرنا؟
وليس في هذا التساؤل المتعالي عزلة أو تورم ذات. فلا أحد غير نا بمعني أن الصوت ليس مفرداً حتي لو كان المتكلم شخصاً فرداً. بل إن الآخرين حاضرون.. ولك أن تؤول هؤلاء الآخرين صداقة أو حباً أو نوستالجيا. أما الشاعر فسرعان ما يحيلك إلي قصيدة لاحقة.. بل إلي مطلع لاحق، إنه الجوال المدوّم في فَلَك السفر، وإنك لمدعو معه إلي أسفار لا تنتهي.
استدراج الجبل
كيف يستدرج الشاعر جبلاً؟ وما هو الجبل أولاً؟.. إنه مثل الهواء الذي يقول . هو هذا الحدس الذي يسقط علي الموجودات فيكسوها حضوراً حياً. وكما كان الشاعر العربي القديم يفرج عن الظبية لأن عينيها تذكرانه بعيني الحبيبة، فإن غسان يستدرج الجبل عسي أن يأتيه، لأنه يري فيه أصدقاء وأهلاً ورائحة ماض. هكذا لا يملك هذا المحب المبعد إلا أن يغلق عينيه، وينادي الحبيبة:
من الهواء
أنتقيك بحدسي
وأرشدك إلي
وكما أن الجبل، في الواقع، لا يُستدرج ولا يأتي. فإن الحبيبة لن تأتي مشدودة بخيوط الحدس. لكن هذه الحقائق تحكمها حسابات فيزيائية مما لا تقيم لها سلطة الشعر وزناً، فالشاعر الذي يؤمن بمقولة غيرنا مع أنه وحيد، قادر، في مخيلته، أن يسحب الجبل والحبيبة والورد إلي غرفته المغلقة، فإذا به ليس وحيداً:
حين أغلقت النافذة
في المشهد الأخير
ظلت رائحة الياسمين
تمسك المارة
وتعيدهم إلي الوصف
والسطر الأخير مفتاح. بل الكلمة الأخيرة.. فـ الوصف يحتاج إلي حامل ومحمول. هل المارة هم الذين يصفون رائحة الياسمين؟ لو كانوا هم لما كان لهم علاقة بالشاعر. ولكنه هو الذي أغلق النافذة فانفتحت أمامه المخيلة ـ تماماً كما كان العميان يبصرون في نص سابق ـ والمخيلة أمسكت بدورها رائحة الياسمين وجمعتها إلي المارة الذين لم يبق للشاعر إلا أن يستضيفهم في قصيدته. وحالة استدعاء ما ليس موجوداً وإطلاقه في حلم الشاعر أو قصيدته، هي حالة مستديمة.. حتي أنه كثيراً، وكثيراً جداً ما يمسك بكلمة مجسدة: الخيول مثلاً.. فيكررها تباعاً في مطلع كل سطر شعري. مبتدأ يتلو مبتدأ لغوياً وقد لا تصل إلي الخبر الذي يشكل مع المبتدأ جملة مفيدة، ولو وصلت إليه فلن يكون له كبير شأن.. لأن المهم هو هذا المبتدأ بحد ذاته. هو تكرار هذه الخيول التي تنطلق في المخيلة. شأنها شأن الحنين الحنين الذي في ظلال الدفوف ـ الحنين الذي يشتري بالذهب ـ ... ـ الحنين الذي لا يؤدي إليه .. هكذا ينادي مناداه المطلق (وليستعر هذا المنادي صفات حسية فليست تلك إلا مقاربات بين المجرد والمحسوس) ليكون النداء جسراً يصله بالعالم. ولأن العالم مشدود إلي أفق مرن يبتعد كلما اقتربنا منه، فإن الحنين لا يؤدي إلي أحد.. وليس لنا إلا أن نبدأ ونبدأ لأن النهايات
ليست لنا
ليست لأحد
فهو مشدود إلي أشخاص تلدهم الظلال .. وهؤلاء الأشخاص قابلون للتجدد والاستنساخ وتغيير الهيئة والموقـــف حسب الحالة. إن الشاعر ممــــسوك بحنين ميـــتافيزيقي إلي ما يكسر عزلته ويدفـــئ روحه. علي أن هذا الغامض، هذا الجبل، هذا الياسمين، وتلك الرائحة، ليست مجردات معلقة في الهواء أو موشحة بالهباء. فهي قابلة للتجسد حيناً. ولكنها لا تثبت علي هيئة أو حال..
وفي ضوء هذا الحنين الميتافيزيقي، يتقدم الموتي إلي مائدة الشاعر. لا ليرثيهم أو يبلغهم أشواقه وشعوره بالفقدان. بل ليواصل معهم ما قطعته مصادفة الغياب. ومن اللافت أن موتي غسان زقطان يأتون إلي قصيدته جماعات لا فرادي. فهم قطعة عضوية من كيان معنوي شاسع، وكأنهم أصابع الذاكرة، والمفرد هو الموت. كأن شخص الموت هو أحد الأبطال المركزيين في دراما الإقامة علي الأرض، مع أنه لم يأت ككلمة مجردة عند غسان إلا في القليل النادر. لهذا نحن لا نستدل علي الموت في هذا الشعر من خلال تعبير كهذا:
ضيقاً كان وقت الرواية والموت
ولكن الموت يأتي كثيفاً من خلال الموتي الذين كانوا علي عشب الحديقة يرقصون كأنهم سبب الحديقة . فهو لا يستحضرهم وفاء واعترافاً بقدر ما هم يستحضرونه لإنشاء حوار مع الوجود ماضياً وحاضراً. بل إنهم سبب الحديقة ، هذه الحديقة المؤثتة برائحة الإنسان، والقادرة علي استدعائه كلما ظن أنه ضالع في النسيان:
كلما قلت أمضي
أو تهيأت للانصراف
تنادي علي الوجوه التي كدت أنسي
وتأتي البيوت التي كنت فيها
إن شخص الموت هو الذي يجعل من الناس العاديين وغير العاديين الذين نعرفهم، أعضاء في هذه الجوقة المتزايدة التي تزحم الذاكرة وتشارك في قراءة الحاضر حيث تحبو إلي أبد الآبدين الغرف وما كان للغرف الجامدة، والموجودات الجامدة كلها، أن تحيا وتتحرك وتحبو إلا بفعل حضور أولئك الموتي الذين ترافقنا أرواحهم وذكرياتهم وتاريخهم. وللموتي أن يأتوا من بعيد. من منطقة لا نعرفها، فهم أجدادنا السالفون الماكثون بيننا:
الأجداد
عادوا ليناموا
في العليات
وهم أخوتنا وأحباؤنا الذين يسهرون علينا، فنؤنسهم، ونفسح لهم أن يحلموا بنا كما نفعل نحن:
أشعل الضوء
كي يبصر الميتون المنام
ويبدو أن الشاعر حريص علي منامات الموتي، فهو غير ملوم تجاههم بعد أن مالت مراكبهم وذهبوا، وما يتعهده ـ من خلال نشيد الجماعة - هو أننا لن نبتعد عنهم مثلما فعلوا ولم نذهب ولم نقطف زهور الميتين ليدخل الموتي عراة في المنام . فهم حاضرون في غرفة الماضي وروح المزهرية، و هم مادة للتأمل حيث صمتهم يعلو علي قاماتهم . وبطبيعة الحال فإن الشاعر يستخدم إحتياطي المجاز الشعري للتعبير عن هذه الورطة. فالموتي لا يدخلون ولا يخرجون ولا يحلمون لأنهم، ببساطة، موتي. ولكن الشاعر ينوب عنهم بهذه المهام تعبيراً عن حضورهم في ذاكرته وفي إيقاع حياته اليومي مما يحرسهم من الغياب:
.. ليست لنا الأغنيه
وليست لنا النار في السهل
.. ثمة من يحرس الميتين هناك
وحتي عندما تتلاشي صورة الموتي، فإن هناك في الذاكرة والروح علامات تدل علي جاهزيتهم للحضور يذهبون حياري وراياتهم عالية . وقد يكذب الموتي، بمعني أن افتقادنا لهم لا يعيدهم حتي لو بنينا آمالاً، بلسانهم، علي عودتهم الوشيكة كذبوا علينا، كنت تعرف منذ أن لم يرجع القتلي ومع ذلك فلا يملك الشاعر إلا أن ينتظر الراحلين، وليس لهم إلا أن يعودوا حلماً، أو صدي، أو خطوة غامضة علي أرض الحديقة. وللحديقة دلالة عنده. فهي الورد المنبثق من الأرض الأليفة علي مرأي من البيت. وبهذا يكون لحضور الحديقة في شعر غسان زقطان طيف تموزي، وإن كان ما يطلبه من الموتي أكثر تعقيداً من البعث والقيامة. فهم بالنسبة إليه غير غائبين أصلاً، وقد يحضرون في أي وقت:
ينبغي أن أسمع الخطو
علي أرض الحديقة
أولاً أن أسمع الخطو هناك
وها هم الموتي ينادون من العتمة، والعشب علي الأرض ينادي .. علي أن هذا الحجم وبهذه الكيفية من حضور الموتي، لا يعني أن الشاعر مغلق في وجه الحياة اليومية. بل إنه - علي النقيض - ابن الحياة وابن همومها التفصيلية.. ومهمة الموتي هي إقامة العلاقة بين أوصال الزمن.. وإلي ذلك فهم غيرونا .. تري ما الذي تغير في شاعر لم يفصح عما كان حتي نعرف ما صار إليه؟.. إننا لا نملك غير استنطاق القصيدة.
للمكان في شعر غسان خصوصية أساسها الألفة. فهو لا يضج في مدح الجغرافيا. ولا يتحسر علي مرابعه السالفة، حتي لو ذكر دمشق حيناً، وبعض المدن التونسية حيناً آخر، ولكن المكان عنده قريب جداً: حديقة، غرفة نوم، ممر، حقل، نهر. وكما في إنشاء علاقة دائمة مع الموتي، فإنه ينجح برسم الحدود الوهمية مع الكائنات، فهو من الشعراء النادرين الذين يفتحون فجوة في الهواء المجاور ليلحظوا النهر (أهو نهر الطبيعة أم نهر الزمن؟) يجري إلي غايته لتكتسب المرئيات الجامدة بعداً إنسانياً يجاري حضور الموتي:
شكراً لأن النهر يجري
والقري ثمر علي الطرقات
والطرقات أبواب مشت في نومها
إن أي شيء يفضي إلي أي شيء. وإنها مخيلة مفتوحة علي المكان والزمان. بحيث تستطيع منح الزمان مذاقاً إنسانياً شكراً للمساء ، وتستطيع أن تعيد المكان إلي عناصره الأولية فهو لا يستضيف الشخص بل الرغبة، ولا يحتفل بالحيز الفيزيائي بل بالظل، ويعلو المشهد بالشعر الحقيقي المصفي:
هو لم يجيء لكن رغبته أتت
ولهاثه دخل المكان،
وشق بين المزهرية والزجاجة ظله
فصمتّ كي أدع الهواء.. له
وإذا كانت المخيلة تحتاج إلي دورة مجازية حتي تحقق هذا المشهد الساحر. فإن الشاعر الماكر يستطيع أن يزوّج المرئيات بعضها لبعض، ليخلص إلي صورة مدهشة من عناصر عادية من حيث اعتبارها الفيزيائي. ولنا أن نلتقط هذه الرهافة البصرية لدي شاعر يراقب الفلاحين في الحقل وهم يحملون الفؤوس، فتظهر خيالات أكتافهم في صفحة الفأس التي تعكس بدورها الحقل البعيد، فكأنما تسحبه من المسافة وتضعه علي أكتاف الفلاحين، بكل ما تحمله الصورة من دلالة العلاقة العضوية والتاريخية بين الفلاح والعمل في متوالية تربط الفأس بالمرآة والمرآة بالأرض:
السنابك تلمع في الحقل
أكتافهم في مرايا الفؤوس
الفؤوس التي كلما اقتربوا
أومضت كالمرايا
المرايا التي تسحب الأرض من حولنا
هكذا لا يكون المكان رقعة جغرافية تمهد لحدث درامي. بل إنه حدث درامي مشتبك بالزمن. ولهذا يتقشف غسان زقطان في أسماء المدن والقري، مع أنها لا تغيب تماماً. وإلي ذلك فهو قادر علي إحضارها في الشعر حضور الحقل في صفحة الفأس اللامعة كالمرآة.. إن من يفعل هذا.. شاعر.
أغثني يا أبا الزهراء يا سندي .. كنت قد سمعت هذا البوح الإيماني المفاجئ في قصيدة قديمة لغسان زقطان. ولأمر ما، يقوله شعره أساساً، كنت علي يقين من أنها أكثر من تنهيدة في لحظة وجد وعرفان صوفيين. بل إن مثل هذا الشاعر لا يمكن أن يكون صوفياً إلا بعد كثير من الاحتراز والمجاز، و بعد تنقية المسافة بين حيثيات الصوفية تاريخاً وشعائر ـ وهو موضوع خارج موضوعنا ـ، وبين النفاذ إلي عمق العالم برؤية تتجاوز الرؤية. وإن شاعراً يشغله شخص الموت، ويصادق الموتي، ويرحل من سطح المكان إلي جوهر المكان في بيئة شرقية لا تزال مترعة بدعوات الأم المتدينة وتطواف الأب القلق علي مختلف الأسئلة، لهو شاعر منادي. تناديه الأقاصي البعيدة، وأرواح الموتي، والذكريات، وحنينه إلي غامض أليف، وقد سبقت الإشارة إلي حنينه الميتافيزيقي المتأصل. وعندما نضع في الاعتبار علاقته الخاصة ـ وأكاد أقول: السرية ـ باللغة، من غير أن نغفل قداسة اللغة العربية في العقيدة الإسلامية، فإننا نفهم هذه الإشراقات التي تطل من ثنايا شعره بين الفينة والفينة، لتسبغ نداء الروح علي عالمه الذي لم يكن أرضياً تماماً. فنقرأ مطلعاً كهذا:
.. وكأنها الرحمن تهبط من سفوح التين،
صافية، مجلجلة، بها وتر الأذان..
فالرحمن، في هذا السياق، ليست كلمة في معرض تعداد الأسماء الحسني. بل إشارة إلي السورة القرآنية المعروفة برنين حرف النون بعد الألف مع تواتر الجمل القصيرة. فالكلمة ـ فضلاً عما تشير إليه من الوجد ـ توقظ في الوجدان حادثة صوتية روحية، وتستأنس القصيدة بظلالها مدعومة بكلمة التين التي تحيل بدورها إلي القرآن الكريم، ويهطل النص الغائب مقدساً بالنعمة البيضاء وآية علمه البيان وحتي يكتمل الانخطاف إلي ما وراء العرض المادي يدخل علي القصيدة أخ ينادي أخته في الجان .. إلا أن اللافت أن المشبه به موجود، ولكن المشبه ـ الذي هو مدار النص ـ يظل غائباً. وهو يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الشاعر يتعامل مع الإحساس قبل الفهم. وإلا فكيف نتدبر مع هذا المدخل:
.. كنا نوثق الإيمان بالرؤيا،
وندخل خاشعين لآية القرآن
ولم يأت هذا الخشوع مصادفة. كما لم يتقدم كأوراق اعتماد إلي المؤسسة الدينية. إن للشاعر حقه في الإيمان الذي لا يمكن أن يبذله لمواضعات اجتماعية. ولكن ما يعنينا منه ـ في حضرة الشعر ـ هو أن الشعر عنده يتلبس حالة من الإيمان والتأمل في الوجود مدعوماً بإشارات القداسة التي تأخذ أسماء الآيات: ..واقف في الضحي بين يسن والرعد والشعراء ويمكننا ملاحظة أنه كتب ياسين علي الطريقة القرآنية يسن وكما سبق أن كتب الرحمن ـ كما في القرآن الكريم ـ لا الرحمان حسب القواعد الإملائية المألوفة.. ولم يرد اسم سورة الشعراء مصادفة. فهو شاعر أولاً وأخيراً ولا بد من الإحاطة بهذا البعد الروحي الذي قد يميزه عن الكثير من شعراء جيله، لإدراجه في سياقه الطبيعي من حيث هو شاعر منادي. تناديه الطبيعة ورياح الطفولة ومكتسبات الوعي المتوارث والنص الغائب فيأتي محفوفاً بظلال من إيمان شخصي حميم.
من يسمع الجهير؟
يلتقط غسان زقطان من التراث الكنعاني ـ ونحن كنعانيون بمعني ما ـ ظاهرة الجهير التي يفسرها بأنها طبقة لمن هم أكثر من عبيد وأقل من أحرار. لا منازل لهم ويسكنون علي أسطحة المنازل ويأتون في الغالب من خارج البناء الاجتماعي. وبعيداً عن هذه المعلومة الأنثروبولوجية، يحمل قناع هؤلاء الجهير، ليجهر باغترابه في المحيط:
ينبغي أن أغادر هذي المدينة
لا شمس لي في المكان
ولا ظل لا حانة تبهج الروح،
أو موعداً في مرامي الكلام
وحسب تجريداته المعتادة. نراه لم يحدد ملامح لهذه المدينة إلا من خلال العلاقة السلبية. فنحن نعرف عنها ألا شيء له فيها لا مقعد في الحديقة ولا رغبة في الجلوس ولا جدار ولا خيل وبهذا يكون قد لامس رغبات الباحثين عن الغرض الشعري. الذين يسهل عليهم إعادة هذه المدينة إلي حيثية جغرافية أو حتي سياسية محددة، لكنه ظل مبرأ من الغرض. وظل منحازاً إلي هذا النداء العميق الذي يملك عليه الوعي والخيال. إنه ـ حسب الحيثية المعطاة ـ ليس حراً تماماً. ولكنه ليس عبداً تماماً. فهو يملك علي الأقل قرار الرحيل. وقد يكون رحيله مجازياً، بمعني أنه يغادر الآخرين وهو لا يزال بينهم. إنه اغتراب الطليعي الذي لا يملك القدرة علي التغيير ولا يستطيع معايشة السائد. بل إنه مضطر إلي أن يستبدل صمته العميق بالصوت الفارغ صوتي أعلي وصمتي أقل وما ذلك إلا لأنه تعب وضجر من الأقاويل والفساد والطيش والأوهام والترهات والغبار. وآن له أن يكف عن أن يظل مثل نبت غريب قبل أن يلمع الشيب في الرأس. ولكنه، بمعني ما، مستنسخ من هملت المتردد فهو مقيم هنا ولكنه موجود كذلك في الجوار العميق الذي ينبع منه منفاه، ولا يستطيع أن يؤسس طريقة له في البلاد حيث لا دعاة لنا في النواحي ولا تابعين . وهكذا سيعاين الجروح العميقة في الأرض، ويرنو إلي الحديقة في الليل والجسر في آخر المنحني. ويتمتم بما يشبه اعتراف الخطاة: .. لم نصل بعد . ولهذا فإن الذريعة ـ الوحيدة ـ المتبقية ـ الآن ـ هي ـ ..الصمت هكذا أرسل هذه الفقرة علي الورق. كل كلمة في سطر. كأنما الكلمات وحيدة مغتربة مهجورة بحيث لا ينوب عنها غير الصمت. وهذا الاغتراب المر من شأنه أن يلقي ضوءاً علي كل ما سبق فنحن أمام شاعر لا يعرف التعامل مع الأدوات السائدة في المحيط السائد. لهذا فهو ينفذ إلي الأعمق والأبعد. يحاور ما لا يسمعه الآخرون ولا يرونه وربما لا يعرفونه. وقد كان تشديدنا علي أنه لا يرثي الموتي بل يصادقهم، متجاوباً مع هذه النتيجة أو هذا السبب: إنه غريب مغترب لا يملك قانون السيادة، ولا ينقاد لقانون العبودية.. فليفتح أفقه الخاص به، وليصغ إلي الأصوات التي تناديه.. فهو، هكذا،
يستطيع أن يستدرج الجبل.
منذ أن طلع غسان زقطان علي الحياة الشعرية، كان الوزن صديقه الأثير. وكان للوزن صديقاً غير وفي. فهو كشاعر غنائي - وهذا من الأسباب التي دعتني إلي التذكير بأنه ابن الشاعر خليل زقطان - يحتفل بالموسيقي بمعناها الصافي الخارجي، حيث يأتي الوزن مرافقاً صوتياً لقافلة تتخذ من الرحيل مكاناً. ولهذا اختار البحور السهلة، لا هرباً من الصعوبة، بل لأن هذا الانثيال الإيقاعي يلائم توازنه الخارجي الذي تعتمل في داخله البراكين والزلازل. وقد أسرف غسان في استخدام المجازات العروضية والزحافات ليروض الشعر بحيث يواكب الكلام المألوف. علي أنه بث في النص ما ليس مألوفاً: الصورة المفاجئة، والدهشة الدائمة. والتوقف المباغت، مما كان يسبب أحياناً بعض الكدمات الإيقاعية التي لم يكن الأسلاف ليستسيغوها. ولكن غسان لا يكتب الموزون ليجامل الأسلاف، بل ليقدم صوته الشخصي. وعلي هذا فقد كتب غير الموزون أحياناً، لكن بروح من يكتب الموزون فأرضي وأغضب. إنه مثل الجهير الذين تحدث عنهم. لا هنا ولا هناك. ولكنه ليس في منزلة بين المنزلتين. بل لنقل إنه مغترب من حيث أنه سيد طريقته حيث لا طريقة، فلا أتباع له كما قال. ولكن لسان حاله مع ذلك: وجهت وجهي..
وجاءت لغته متلائمة مع إيقاعه. بل إنها الإيقاع وقد أصبح كلمات. فقد يكون قاموسه اللغوي محدوداً حسب المقاييس السلفية. أما حسب مقاييسه الجهيرية فإنه يأخذ من اللغة ما يريد. وهو لا يحتاج إلا إلي ما ذهب إليه. واللعب مع شاعر كهذا يقتضي ألا نلزمه بمسطرة جاهزة، فهو لا ينقاد إلي بنيوية تحصي المفردات، بل ينصرف إلي مصير هذه المفردات بعد أن تصاغ ويحتك بعضها ببعض. فتأتي متقشفة عند اللزوم حتي ليمكن إحصاء المفردات في نصه الصغير علي أصابع اليدين، ولكنها تتكرر أحياناً بحيث يصبح تواتر الكلمة الواحدة ضرباً من الإيقاع الخارجي الذي يفتح بصيرة القارئ علي دواخل القصيدة.
كان رومان ياكبسون يقول إنه يمكن لشاعر ما، أن يكون مع القافية السلفية أو ضدها فالقوافي إما أن تكون سلفية أو سلفية مضادة. وكأن غسان زقطان أخذ هذا الترخيص من ياكبسون فاستخدم القافية استخدامه الوزن والمفردات بشكل عام، لا علي هواه، بل علي هوي القصيدة. لا مصالحة مع ذوق مهيمن ولا مجاملة لشكلانية حداثوية فجاء نصه مصدقاً نفسه بنفسه. وبهذا استحق الاعتراف بأرض شعرية خاصة به، يقف عليها ليقول: هذا أنا.. هل في المدينة غيرنا ؟..
القدس العربي : 15/04/2002