ايلاف - عبدالقادر الجنابي: رُسل ايدسن (1935) يعتبر أهم شاعر أميركي في كتابة قصيدة النثر. فمنذ أن باشر بكتابة الشعر وحتى اليوم لم يحد عنها. وإذا أراد ناقد ما أن يتتبع نمو رُسل الشعري لما وجد اختلافات كبيرة بين أعماله الأولى والأخيرة، كما لو أن الشاعر قد أنجز مبكرا النضج اللازم على صعيد الرؤيا والتقنية. صدر له مؤخرا مختار من قصائده النثرية تحت عنوان "النفق"، وقد ضم 171 قصيدة اختيرت من سبعة دواوين. تتميز قصائده النثرية بسردية أصيلة لم تعهدها قصيدة النثر الفرنسية. فهي تعتمد التقرير الخبري، وكأنها مادة صحفية إخبارية، لكنها فجأة تنحو بهذا "التقرير" إلى رؤيا غريبة تأخذنا داخل الجانب المظلم من القدر البشري، وبأسلوب فكاهي وبارد حد الشراسة وكأنها تريد أن تبين لنا اللامعقول والغرابة سؤالا وجوديا يقوم على أبعاد جد منطقية مغيّبة في عالم الحلم الذي نخاف سرده للآخرين حتى لا نتهم بالهلوسة والهذيان المرضي. هنا ترجمة لعدد من قصائده النثرية المعروفة جدا.
إبان أسفاره يصل جسراً مبنياً من العِظام. قبل أن يعبره، يكتب رسالة إلى أمّه : أمّي العزيزة، احزري ماذا حصل؟ عض القردُ عَرَضاً إحدى يديه وهو يأكل موزة. أنا الآن أسفل جسر عظمي. سأعبره قريباً. لا أعرف إنْ سأجدَ على الجانب الآخر جبالاً وأودية مصنوعة من اللّحم، أو مجرد ليل مستمر, قرى النّوم. يوبّخني القرد لعدم تعليمه بشكل أفضل. أسمح له أن يلبس قُلَنسوتي لتطييب خاطره. يبدو الجسر وكأنه أحد تلك التركيبات الهيكليّة لديناصور ضخم كهذا الذي نراه في متحف. ينظر القرد إلى بقيّة معصمه و يوبّخني ثانيةً. أعرضُ عليه موزة أخرى فيغضب بحدّة, كما لو أنني أهنته. غداً نعبر الجسر. سوف أكتب لك من الجانب الأخر إذا استطعت, وإن لمْ, فابحثي عن علامة...
كان السيد مخ قزما ناسكاً ويحبّ أن يأكل حيوانات صَدَفيّة بعيداً عن القمر. أحب إذن أن يدلف في شجرة ليرى أبعد قليلا من ارتفاع صغير يكشف عن حجرة، حصاة... إنها غصن, فما من شيء تحت القمر يمكنك التأكد منه.
لذا فتح السيد مخ فمه وترك شعاعا من أشعة القمر يدخل رأسه.
رجلٌ تزوّج لتوّه سيّارة.
أقصد أنّ السيّارة، يقول الأب، ليست شخصاً، لأنّها شيء آخر.
قارنها بأمك، مثلاً. ألا ترى كيف أنّها مختلفة عن أمك؟ فهي تبدو عريضة بشكل ما، أليس كذلك؟ فضلاً عن أن أمك ترتدي بشكل مختلف.
عليك أن تجد شيئاً يشبه أمّك.
عندي أم، أليس كافياً هذا الشبيه بالأم؟ أعليّ أن أجمع أمّهات أكثر؟
كلّهن عجائز لا يثرن أيّة رغبة في الإنجاب، قال الابن.
لكن لا تستطيع الإنجاب مع سيّارة، قال الأب.
يُري الابنُ أباه مفتاح الإشعال. أنظر، هاهنا عضو خاص يفعل بالسيّارة مثلما بالمرأة؛ فتنجب مكاناً بعيداً عن المكان، تاركةً جروها أميالاً وهي تمضي.
أيجعلني هذا جَدّاً، قال الأب.
يجعلك هذا حيث أنت عندما أتناكب أنا بعيداً، قال الابن.
الإفطار المجروح
حذاء ضخم يتنامى من الأفق، صارخاً متقدماً ببطء على عجلات صّغيرة, وفي اللحظة تماماً رجلٌ جالساً ليتناول إفطاره استغرقه فجأة ظلّ جسيم, حجمه حجم الليل تقريباً...
يتطلع فيرى حذاء كبيراً يطلع من الأرض بثقل وضخامة.
في الكعب المفكوك الرباط تقف عجوز عند ذراع الدفّة ما وراء لسان ضخم مُتلوّ إلى الأمام؛ القيطان السميك ينمطُّ على الأرض مثل حبل السفينة، بينما الشيء الضخم يصرخ ويتقدم ببطء؛ الأطفال في كلّ مكان, ينظرون من فتحات رباط الحذاء, متجمعين حول المرأة العجوز, و هي تطير بهذا الحذاء الضخم فوق الأرض...
وحالما يهبط الحذاء الضخم الأفقَ المقابل, كانت قوقعة جد ضخمة تصرخ و تنسحق في الأرض...
يعود الرجل إلى إفطاره, لكنه يراهُ قد جُرِحَ, صفار إحدى بيضه ينزف...
دمى السّادة البعيدين
يحلم عازف بيانو أن شركة التحطيم أجّرته لإتلاف آلة بيانو بأصابعه...
وفي يوم حفل إتلاف البيانو، وبينما هو يرتدي ملابسه, يلاحظ فراشة تضايق زهرة في آنية الزرع خارج نافذته. يتساءل ما إذا يجب استدعاء البوليس. لكن ينته الاعتقاد به إلى أن الفراشة مجرد دمية يحركها سيدها من النافذة الأعلى.
فجأة كل شيء جميل. فيأخذ بالبكاء.
أخذت فراشةٌ أخرى تضايق الفراشة الأولى. يتساءل ثانية ما إذا يجب استدعاء البوليس.
لكنّ, لعلّهما فراشات- دمى? فيعتقد أنهما ينتميان لسيدين متنافسين يريدان رؤية أية فراشة تضايق الأخرى أكثر.
ويحدث هذا في آنية الزرع خارج نافذته. الخطّة الكونيّة هي: هنالك سّادة بعيدون يحرّكون سادةً أصغر الذين هم بدورهم يحركون الفراش السادة الصغار الذين هم بدورهم يحركونه... يا له من كون مشبوك بالخيوط! وفجأة كل شيء يبدو جميلاً؛ الضوء غريب... يوجد خلل في الضوء! فيأخذ بالبكاء.
أبو الضفادع
ولّد رجلٌ ضفدعاً من إبط زوجته. مسكه من ساقيه وضربه.
هل تحبّه? قالت زوجته.
إنّه طفلنا, أليس كذلك ?
أيعني هذا أنك لا يمكن أن تحبّه ?
من الصعب أن أحبّ ضفدعاً, لكنّ عندما يسفر الأمر عن كونه ابناً لك، فإن الاشمئزاز يصبح تحفّظاً قاسياً.
هل تعني أنك لا توّد أن تسميه جورج الابن؟
لكننا سبق أن سميّنا الضفدع الآخر بهذا الاسم.
حسناً, ربما يمكن لنا نسمّي الآخر بجورج الأب.
لكننيّ أنا جورج الأب.
طيّب, يمكنكَ أن تختبئ في العُلّية, فلا أحد يناديك بأي اسم. وعندها يكون من السهل تسمية كلاهما جورج.
نعم, إنْ لم يتكلم معي أحدٌ، فما جدوى أن يكونَ لي اسم؟
أبداً, لن يكلمك أحد طوال بقية حياتك. وعندما ندفنك سنكتب على شاهدة قبرك أبو الضفادع.
محو أميلو
يمحو أبٌ ابنتَهُ بممحاة كبيرة. وعندما ينتهي، لطخة حمراء فقط على الحائط.
تقول زوجته, أين أميلو ?
إنها غلطة، لقد محوتها.
وما الذي حل بكلّ أشيائها الجميلة ? تسأله زوجته.
سأمحوها أيضًا.
كلَّ ملابسها الجميلة ?...
سأمحو صومعتها, خزانتها- كفى كلاماً عن أميلو! ضعي رأسك هنا وسأمحو أميلو منه...
يفرك الزوج ممحاته على جبين زوجته, وعندما يأخذها النسيان تقول: أتساءل ما الذي حدث لأميلو?...
لم أسمع عنها أبداً, يجيبها زوجها.
وأنتَ, تقول زوجته, من أنتْ? إنك لست أميلو, أليس كذلك. لا أتذكّر أن تكون أنت أميلو. هل أنت أميلو, التي لم أعد أتذكرها؟...
كانت أميلو فتاة. هل أبدو كفتاة؟...
لا أعرف, لم أعد أعرف أي شيء كيف كان يبدو...
النّوم
كان هناك رجل لا يعرف كيف ينام, يُهوّم كل ليلة في شرشف، نوماً غير رسمي. النّوم الذي كان يضيق به ذرعاً.
حاول قراءة دليل النوم, لكن لم يفعل هذا الدليل سوى نوّمه فقط، ذلك النّوم القديم الذي كان يضيق به ذرعاً. كان في حاجة إلى أستاذ في النوم يدرّبُ، بكرباج وكرسيّ، الليلَ ويجعله يقفز عبر الأطواق النارية. شخص قادر على جعل نمر يجلس على قاعدة صغيرة ويتثاءب...
من "الأفعى بأكملها: انطولوجيا قصيدة النثر العالمية"
المصدر : جريدة ايلاف الأحد 09 يونيو 2002