يستيقظ الشاعرُ وفي رأسه جملةٌ مثقلة
بالظلام. يهذي، يهذي طوال الوقت دون
أن يصادف باباً يطيرُ منه الضوء.
علامةُ الحيرة في وجهه هي الرسالةُ
الأخيرةُ التي لن تصل إلى أحد
النوافذ مغلقة
وعليه أن يخرج إلى أرض أحلامه
ليقطف تلك الزهرة المسمومة التي
سمع بها دون أن يراها.
ومثل سجين يُدحرجُ صخرةً
يقوده الكلام مع نفسه إلى آبار الطفولة
فيسمع صوتاً يناديه من بعيد
لن تشفى أبداً أيها المجنون.
لا يأبه الجالسون بالغريب.
لقد تركتُ حياتي هناك بين الأحجار
وها أنا الآن كمنْ يصطاد أضواء الغروب
هل كان ينبغي أن تمضي
كل تلك السنوات
كي أكتشف أنني صيحةٌ عائدة من الموت.
من عزلةٍ أخفّ من ريشة طائر
يحمل إليّ رائحة الندم
والظلال.
نظرتي الشاردة
تنسجُ فخاً من ماضيّ البعيد
وكلّ كلام أقولهُ
يرفع مصيري العالي كأنه قوسٌ
مكسور على سُلّم.
مطرٌ خفيف على النافذة
وجهٌ مُؤطرٌ بسحابةٍ سوداء
هكذا يهبطُ أمير العالم السفلي وفي
يدهِ أيقونة تتأرجح مثل قلادةٍ
من النحاس.
وأقولُ لن يهدأ البالُ. لن تهدأ الغابة
الحقيقة تمُرّ كالمنجل أمام عينيّ.
من مدينةٍ إلى أخرى
عبر بقاع العالم أخوض في أنهار خاليةٍ
من الصداقات
أستعين بالخوف، بالتعاويذ، بسحر الأيام
الخوالي وأعرفُ بأن السهم لن يكُف عن
الإنطلاق في أية لحظة.
قلبي ديرُ ملاكٍ وخطوة أولى فوق
عشب الحديقة تكفي.
يا ربُّ أكلما نظرتُ إلى نافذةٍ
لا أرى غير يدٍ بيضاء في النهر
لا الأب ولا الأم ولا سريراً يقول
لي: نمْ تحت شمس العافية.
الخسارةُ أكيدةٌ في ما ملكتُ وما ملكتُ
منزلاً ولا بصيرة الآلهة.
على الأرجح أنني كائن مفقود، تحت
نجمةٍ
خلف ضوء ستارةٍ ما.
الندمُ ثيابُ من أحببتُ وأغصاني
لم تزل بيضاء.
لهذا أرفع يديّ لأكتب:
إرم ذات العماد
وثماري العالية.
لا يأبه الجالسون بالغريب
الأرصفةُ مليئة بالفراشات هذه الليلة
وعلٌ جريحٌ
دمهُ على الركبة قرب ينبوع.
أمشي وأنا أسمعُ صوتاً
كنسمةٍ تحط على اليد يقول لي:
لا الحياة ولا مرضعة الأسلاف.
إذهبْ إلى هناك، إلى تلك الغابة،
دليلك شعلةٌ
في عين النمر
إذهبْ ومُت وحيداً خلف
قبةٍ مطمورةٍ في
الضباب.
مرثية الشمال البعيد
أسمعُ في بلدٍ بعيد
مرثيّةً عن نفسي، كأنما القَدرُ
يعود إلى الوراء،
إلى أرض العواصف
هناك
حيث يترمّد العالم.
أستعير قوة النسيان
حجرَ اللطافةِ هذا- وأنا أسيرُ
صامتاً كما لو كان الكلامُ
يغفو في فمي.
أرضُ الحقيقة لا تُضاء إلا باللمس
بجرح يشقُّ صدر الليل
إلى أن يُـسمَعَ الصدى
تحت اللسان.
أسيرُ نائماً، أسيراً، بين نهرين
معذّبين،
تحت سماء لم تعد تقول شيئاً.
لا شمعةٌ في الطريق
ومرآتي تحطمت.
أمشي في ضوء أحلامي المراوغة
في كفّي رمادُ الندم
وعلى ظهري كيسٌ من الأسرار
يلمعُ كالذهب.
أجهلُ الكلمةَ
وتعلّمتُ الإشارةَ من كاهنٍ
حين قال لي:
"هناك
حيث يستيقظ الفجرُ
على طفولةِ الصحراء
ستكتشفُ في أحلامكَ بئراً فارغة
وخاتماً غريباً
في يد غريبة.
تمضي وأنت تجهلُ طريقَ العودة
وموتكَ هذه الليلة يابُنيّ
موتُكَ هذه الليلة
خال من الأزهار".
وعندما اختفى الكاهنُ فجأة، وتعلّق
ربما بغصن الأبدية، عرفتُ أنني
وُلدت
من ليل المغفرة
وأن المتاهة مازالت هناك
تطفو فوق بحيرةٍ عارية
وأن
لا أرض
تأويني
بعد
اليوم.
هكذا إذن
مصادفاتٌ تعكِسها حياتي التي
مَرتْ فوق سلالم نارية
في وديانٍ بعيدة، حتى فاضَ من صدري
دمُ الماضي
وأشرقتْ من قعر عينيّ
بروق الصبر.
كان الليلُ دليلي إلى الصّدفةِ، عندما ذهبَ
الجميعُ فاستيقظتُ على ملاكٍ يتأملُ في البرّيةِ
وحيداً،
يحُزّ عينيهِ خيطٌ رقيق من الإثمِ، يبوحُ
بسرّه، يبوحُ بسرّهِ طوال الوقت
في مرآة
أيامه الماضية.
وكنتُ خائفاً فحملني إلى جنة العصيان مُتمتماً:
"انظرِ الشجرةَ كيف تصغي إلى
طفولتها بقلبٍ صابر
انظر الأسماك كيف تُزهر في
مياه العزلة
وكيف يرنّ عند حافة النبعِ
خلخال الزمن".
أذهبُ إلى منتصف الأبدية وأعودُ لأسجدَ
على قمر الأقدمين، ناسياً بأن حياتي تعبرُ
كعُشب الليل
كنجمة
ضوؤها البعيد لا ينير حتى
سُرّة الأرض.
أمشي على حافة الجبل، في ظهيرة وديعة
أتذكرُ أسلافي العابرين، وكنتُ شبيههم
الأبعد. وكلما مشيتُ كنتُ أتعثر بظلالهم
الغريبة.
يمرُ أجملهم فلا يرى غيمتي
ذابلةً فوق السرير.
من نومي يرتفع عادةً
غبارُ الأرض
وتلك الذكرى الشبيهة الآن
بصدى يفتح الأبواب
ويضعُ الشعلة في فم
الطائر.
الفانوسُ تاج العائلة
وكنتُ أجهل أين يسقط الظل
وكيف تنسكب الحياةُ
مثل قطرة الزيت.
كنتُ أجهل أيضاً دمعة الراعي، حتى استفردتني
العزلةُ وأتاني المساء بأمومة حنونة وحملتُ
ذنوبي الكثيرة فوق أكتافي، حالماً بالوصول
إلى منفى الشمال.
بين عاصفة وأخرى، كان يظهرُ لي:
لهبُ الشمعة وأحلام الخشب القديم
تظهر الكلمةُ على باب مغلق.
الطرق المحرمةُ تظهر تحت أقدامي، يظهرُ
ملاكُ الفجر من النافذة.
يظهر الصمتُ في عينين نادمتين، يظهر
الزهّادُ المنفيون في
جبال بعيدة، يذكرونني بالمرأةِ التي
حلُمتْ بفردوس حياتها في أرض الأموات.
تظهرُ المرأة نفسها مثل حيوان جائع
يأكل عشب ماضيه.
تظهر حياتي كلها في مرآة الولادة.
أصلي كطائر الرّخِ في صحراء
لا يعرفها أحد.
يدي فوق سرير العالم ورأسي يرتطم
بالأبدية.
صرختي تعويذةٌ فوق قبر مفتوح وفي
عيون الآلهة يلمع غبار الأمومة.
هناك
في هدأة الليل، أسمعُ مرثيةً عن نفسي
صوتاً يرثُ كل آلامي على حافةٍ
تصّاعدُ منها
أنفاس القَدر.
تلك البلدةُ، النائمةُ في أحضان الجبال
تلك البلدةُ، ذلك الوهمُ الأسيرُ في
يد القَدر، الحقائقُ التي كانت ريحاً
من الرمل، الحجارةُ التي هي أيقونةٌ من
الإشارات.
تلك الإغفاءةُ الباردة فوق سرير
المجهول.
ذلك المصير الذي تلاشى خلف ضباب
العالم.
إذهب وقل وداعاً لتلك البلدة
الصغيرة.
إلى سلمى
الجبالُ بعيدةٌ وهذا الألم الطالع من الأمواج
بلا مُلوحةٍ. ليس خطأ بعد الآن أن يمرحَ
السحرةُ فوق الغيوم.
المنازلُ خاليةٌ
وكل وجهٍ أصادفهُ صقيلٌ كحجارة الوادي
المغمورة في ضوء القمر.
كان الأبُ يسهرُ على الزمن في بريق دمعةٍ
عندما سمعتُ البكاءَ
يتردد في الأروقة.
الأختُ بمرآتها تستنجدُ هائمةً في البراري
الأطفالُ كنز الطبيعةِ أيضاً
كانوا هناك.
موتٌ مثلما النظر في المرآة
موت بلا صيحةٍ تُلقي ظلاً
على التراب.
لم أكن نائماً لما رأيتُ صورتكِ
في مياه البئر
ولما رفعتِ ذراعكِ كانت رائحةُ الرماد
تتبعُ مصيري إلى هناك.
لا أحد هذا اليوم
لا ملاك لأرى إشارته تأتي
من قلب ينبوع
كانت نظرتي وحدها
تمرّر هواءً صافياً على التابوت
كنتِ تسيرين لوحدكِ في الظلام بشَعرٍ
طويلٍ يغطي نصف العالم.
وراءكِ، وبقوة المغفرة وحدها، يتظلّلُ
البيتُ بالأزهار ويهدأ غناء الذئاب
في الوديان.
أعرفُ بأنكِ لن تقومي بعد اليوم
ولن يحمل النسيمُ أنفاسكِ إلى
سريري وأنا نائم.
سأخاطبكِ أنتِ هذه الليلة. أخاطب
فيكِ الملاك النائم جوار المقبرة.
سأخاطبكِ يا كارين بوي
وأنتِ تنظرين بعينين من جمرٍ
عاصفةً من كريستال ودخان الذخيرة
يغطي ليل المدن.
الأنوثةُ زهرةٌ على سرير الانتحار
ترفعُ نداء الأيدي إلى
الأعالي.
صوتكِ ذاك
رنّتهُ الشبيهةُ بقفزة وعلٍ مطارَد
صوتك القادم من ضفاف الحرية
يحفر قبراً
فوق أعالي التلال.
اتركي الرّب نائماً على الغصن
وخذي كأساً من حجر الينبوع
للألفية الثالثة.
المعجزاتُ قليلة هذه الأيام
لكن الألمَ غالباً ما يحدث على مرأى الجميع
هنا أو هناك.
كانت حياتكِ غيمةً في الأربعين
ملأى بالفراشات
لكن تذكري
في الغابةِ أو على حافة النهر
يسهرُ الفتيانُ على ضوء أناملكِ
الصغيرة كالبراعم
وهي تتفتح في الهواء.
الليلُ يتنفس ببطء، الأختُ في مكانها
تغزل صوفَ الحياة. نزلاءُ الأعالي يمرحون
في الغابات وأنا وحيد. هناك ينتظرني
ليلٌ آخر، أنا الكائنُ ذو الأخطاء الكبيرة
لم أعرف اللعبة قط،
على الأرجح تنقصني المهارة
لأدخل في قلب العالم
تحت راية الصّيارفة.
لن تذهب إلى أبعد من هذا ولن ترى
لن ترى إلى أبعد من النافذة حتى ذلك
النبع لن ترى ذلك النبع الذي يسعى
المرء لأن يغرق فيه كي يولد ثانيةً
تريدُ أن تمتحن المصير على الحافة؟
لكنك على الأرجح رجلٌ ميتٌ يمشي
في الظلام يُرددُ أغنيةً عن منفاه الطويل
لن تذهب ولن ترى ولن يظهر لك الملاكُ
في القلعة.
إلى هنا انتهت المغامرةُ إلى الأبد
وانكشف عُريُ الزمان.
* النصوص من مجموعة جديدة ستصدر قريباً بعنوان: "مثلما النظر في المرآة".
سيرة أولى
كنت آخذ الوديعة و أمضي. أجتاز الصحراء ليلاً
و أدخل مملكة النجوم على ظهر المعصية. ورائي
عاصفة مثل موكب من الحراس وخطواتي على الرمل
كنز مستعاد من الطوفان.
ورغم أنني لم أكن أصادف خيمة ولا نبعاً في الطريق
إلا أن حياتي ما تزال
أمثولة حية في وجه الريح.
كنت ضيف العالم وبذرة المصير التي ألقيت هناك
وكان الفجر دليلي إلى الوديان
الصرخة أكليل الولادة
وهذا الليل الناقص مثل شعر أرملة هاربة من حريق
و المنازل مغمورة بمياه العمر.
من مجموعة (أزهار في بئر) لا تزال مخطوطة.