ادخل في ذاك الزاروب الموحل والمظلم. أتقصى بيدين عمياوتين زر المصعد. أقف منتظرا وصوله. هواء ثقيل، ملوث، يرتطم بوجهي وجسدي، يدخل بين أصابعي ثم يتسلق الدرج ليسبقني الى مكتبي.
نور خفيف ينبعث في مستطيل زجاجي في وسط الباب. افتح الباب من مسكته الفولاذية نصف الدائرية. ادخل المصعد. انها اللحظة الأكثر مقتا في نهاري. أنا في علبة تنقلني الى أعلى، ترفعني من سروالي وكنزتي، جنين بين يدي قابلة.
أحفظ زوايا تلك العلبة ومرآتها التي تنقل صورا باهتة كظلال في غابة معتمة. تلك المرآة تضاعف عدد الزوايا، تجعل العلبة أضيق على غير عادة المرايا.
في العلبة الضيقة الصاعدة الى عالم الحياة الحقيقية، هناك حيث عليك ان تمشي في علبة مرايا تسعك وحدك، وتحاول الا ترتطم بمرايا الآخرين لئلا تكسرها. في تلك العلبة أتخيل السماء مرآة كبيرة. كيف كنا سنحيا لو كانت السماء مرآة؟ ستكون عيوننا كعيون السحالى تنظر في كل الاتجاهات في عالم سماءه مرآة، أفكر ظاناً.
اخرج من علبة الزوايا، الهواء الخارج من شاشات الكمبيوتر يلفحني. هواء الزاروب السفلي الذي سبقني جالس على كرسي مكتبي.
المرايا في كل مكان، منها ما يلمع، ومنها ما بري بريقها، ومنها ما يكاد يتحول الى زجاج عادي. مرايا تسير وتتحرك وتجلس الى الكراسي. عماء الأضواء المنكسرة منبعث في المكان، عماء المرايا التي تعكس ما في الداخل، تاركة الخارج للعيون تلك التي تأنف المرايا وتمقتها.
خطوة أولى نحو الداخل. خطوة ثانية نحو الداخل. خطوة ثالثة ورابعة وخامسة نحو الداخل. قدماي ترتطمان بقبور، وأزهار تنبت في النفايات. اركل علب تنك، وعظام أصابع متهرئة وأوراق لف السجائر وقصص خيالية وأبطال أساطير. اهرس قصائد وأمعاء وأطفال مرميون فوق الأرصفة. اغرس قدمي في براكين، في وجوه مرمية قشطت في لحظة موت أصحابها. أدمر مدنا في طريقي الى كرسيي. الهواء الثقيل يتماوج. يغلف فضاء الكرسي كشبح قصص الأطفال. يستولي عليها ريثما أصل ليستولي على مفاصلي وثقبي أذني وعلى حفر دماغي والفراغ الذي يفصل الدماغ عن عظام الجمجمة.
صحف فوق المكتب، لن اقرأها، ولو قرأتها سأمقتها. عجين مختمر تحتي وعلى جانبي وفي الكمبيوتر المرمي فوق الطاولة. يخامرني شعور بالانتحار. سأفتح الشباك على وسعه ثم ارمي نفسي من الطبقة السادسة لأقع على السياج فيدخل حديده في رأسي، بين عيني، فوق انفي تماما، وسأموت سريعا. ولكني اعدل عن هذه الفكرة، فالطقس غير مؤات للانتحار، ولن يكون مؤاتيا أبدا.
الساعة الآن الثانية عشرة وشعور بأنني كافكا، يدفأ روحي. نعم فرانز كافكا نفسه ذاك الذي كان يضحك طويلا حين كان يقرأ ما كتبه لأصدقائه.