حكايةٌ
جميلة كمنفى
أو كحريق
لها طعم الياسمين المصلوب
و مَلمس الحجر الأشعث
حكايةٌ
حَمَلتِ كلّ مِلفاتِها في صوتكِ
و اختفيتِ كقافية
اختفيت كرُبع المقامِ في قصيدةِ "فَكّروني"
اختفيت كثَلْجةٍ في كَفِّ رجل أحبكِ اسْمهُ أنا!
و أنا لم أنو أن يطأ القلب أرضَ الذكرى المدسوسةَ بالكمائن
كأن أحِنّ مثلا إلى حمامِ يديكِ
أو أتذكر لونَ عينيكِ الفينيقيّ
فقط،
علي أن ألاحق في غابة الصمتِ صوتَكِ
من أجل أن أسترد الحكايةَ
أن أجْلِسها أمامي على الطاولة
لا لشيء
إلا لكي أغادرَها تماما...
لكنْ،
أ يسعفني الآن في مستنقع اللغة المتثائب
حرف علة شاغر
أنزلق عليه إلى قاع الكلام
حيث الرؤية واضحةٌ
و التنفسُ سهل و مائيّ؟
لَطالما تمنيت الغرقَ في صوتكِ
لكنّ عمرا واحدا لا يكفي
كي نصل إلى النهر
و نسبح فيهِ
و لو لمرة واحدة!
و عمر واحد لا يكفي
كي يمتلئ بالندى قلب متوسط الحجم
- أصغرُ من قلب عداء
أكبر من قلب طاغية -
لا تُكثِري الجري صديقتي
فللماء خطىً أكبرُ من خطاك
و كيس الوقت الفسيح
أضخمُ منه الرملُ الذي يكوي الأقدام
لكنك تعرفين أني أحببت منذ الأزل قلبك المرهفَ السقيم
و كم تمنيت ألا تتخذه الصُّبارة الشريرة بيتا
و ألا تعصفَ بفراشهِ
و بسكينة الأيام
لكن عمرا واحدا يكفي
كي تجيءَ كومة الذكرياتِ فجأة
من جهة الشِّمال
ككِتاب المَلَكِ الأيسر ِ
منهكةً
منفوشةَ الشعر ِ
تستجدي ركنا مهملا في القلب
أو مساحة صغيرة في قبو الروح
و عمر واحد يكفي
كي تفتح الكومة نفسها
كي تسيحْ
كي تَعبقَ بالسمِّ و تُربِّي الصبارَ و الفحمَ في أرجاءِ الروح و الجسد
و كم مرة رأيتك ليلا
تنهضين كي تكلمي أشباحنا
كنت أنظر إليك طويلا
إلى أن تتشابهَ عليّ الأشباح
و لا أذكرُ
إن كنت نفسي خضت في الحديث مرة أو مرتين
هل أنا من نهض، أم أنتِ، أم نحن؟
و عدنا إلى أنفسنا
كما يعود التيارُ إلى فم الحنفيةِ
بعد طول انقطاع
شيء ما في دواخلنا كان يشي بالصدأ
لم نكن صالحين تماما للشرب
أعني للحب
ما أقسى أن ترى حاضركَ
ينقرض فراشةً فراشة
ما أقسى أن ترى لحظة من نفسكَ
في مَتحف نفسِكَ
قديمةً
متداعية!
و بحثنا في معجم الليل عن مفردةٍ
قد تحيي الفرحَ و هْوَ رميم
و أنت تتطلعين
نطّت من قرب أنفكِ كِلْمةٌ
هي الرماد
و ما لبث سرب المرادفات أن حل ضيفا على الغرفةِ
إلى أن صارت حقلا لغويا من الطمي و الخراب
و كدنا نغرَقُ
لولا أننا مرقنا من فجوة صغيرة في حائط الوقت
كدنا نغرق
لولا أننا انزلقنا...
ترى هل غادرنا الحكايةَ
أم دَخلناها تماما؟
السمكة تستعمل أحمرَ شفاهٍ مرجاني
كي تبدوَ أجدر ببحر يسعل من شدة القمر.
قطيعُ الوقت و لا من يهش عليه.
المساء الذي يبتسم في وجهه الماعز
جبلي و بعيد.
أنتِ طيبة كنافذة.
مقرفة كالمحيط.
غيوم سليطة تقترب من ورقي.
ساعات تائهة.
المنارة نائمة كبرلماني.
الشاعر يجلس على عتبة قصيدته،
حزينا كشيطان متقاعد.
حبيبتي تسبح في مياه مرآتها الأشدِّ فتنة.
البحر ينجز الموجَ و الجَزر بتفاؤل.
الشاطئ يوسع عقاراته،
و النوارس سماسرة.
أنا خلف النافذة التي ترحل الآن.
مصابة بالليل و التماسيح.
مصاب أنا بالأغواربكِ
بتسريحات عينيك
مصابٌ بالسنابل و الوقت
أتألم كمئذنة في الخلاء
كصبارة في ثلاجة
أنت تنامين في كهف ماضيك
و أنا رجل إطفاء
و لا حريق في الأفق
ترى هل أشعله؟
نأكل الهواءْ
نستنشق الشمس و نكونْ.
نحن شجرٌ
أو إذا سافرنا طير
المهم ألا تنتهيَ الحربُ
و الطرقُ
اللجانُ و البروتوكول
أيهما أجمل:
سنبلة في الهواء
أم قطرة دم في الأرض؟
حول مائدة الكوكبِ
جلسنا بضع ملايين
كان الأموات أجمل من سهر في المراسيم و الأغاني
(بينما الأحياء يطلبون دائما أكثر)
كان بعضنا فاكهةً
و البعض الآخر طقم أسنان
كانت مراحيضٌ و كان خدمْ
الملعونون بأنفسهم
لم يغادروا جذع الكراسي
و لا الألسن غادرت أوجههم
ألسن أخرى تطير
تتطاول بين الغرف
المدنِ و الحقب
بعضها يتتوأم في قُبَل كريهة
يختار دائما نفسَه رجل و يطلق خطابا.
(من حسن حظ المصور أنه أطرش كإله.)
بيدين من غواية،
تصفق على نفسها امرأة في المرآة
تأتي عرافة أنفها نائم
متخصصة في سوء الحظ
تقرأ ما تيسرَ
ثم نكتشف أننا
و أن ملف القضية
بلعه القرش الذي يتوسط المائدة.
إلى ياسين عدنان.
السماء تطبُخ شمسها
فوق رؤوسنا المليئة بالسفر و النوم:
قضينا ليلة أمس في التاريخ.
زرنا الحقب
الأنبياء و الموتى
زرنا الشعوب
الآلهة و المرافئ
زرنا عصا موسى
خبز المسيح المخبأ في عيون الجياع
زرنا محمدا في غاره
زرنا الوندال و السعديين
زرنا الغزالي
و أهديناه نظارات و اشتراكا في الانترنيت
زرنا ابنَ رشد
أهديناه قبلة
زرنا البرامكة و البرغواطيين،
زرنا منديل إليسا و شممنا في عطرها حلم قرطاج،
زرنا خلخال بلقيس،
تجارةَ العبيدِ و قسوةَ العرب الغزاة،
زرنا العباسةَ،
اليمامةَ،
قهقهةَ المنجنيق
لم نزر حاتما الطائي، لضيق الوقت
زرنا أهل الكهفِ على طرفِ قدم
زرنا
- من وراء سبعين حجابا -
أمهاتنا الكثيرات
زوجات النبي
زرنا ورقةَ بنَ نوفل
و انتبهنا إلى "درجة الوعي في الكتابة" في اسمه
زرنا العزى و اللات
زرنا مناة
زرنا دار أبي سفيان و لم ندخل
زرنا أبا جهل
و عمرا قبلَ و بعد
زرنا العادات و السلالات
زرنا المسوداتِ و الصحفَ الأولى
زرنا التعاليم و المآرب
زرنا بلالا قبيل الفجر أيقظناه
زرنا أصحاب المائدة
و أهديناهم موسوعة الأطباق الطائرة
إذاك خرج من الموسوعة طبق
فهبطنا عليه
و سمعنا أنفسنا نقول:
السماء تطبخ طبختها
تحرقنا بدم الأجداد
يحق لنا أن ننام الآن.
تسألُ:
لماذا علينا أن نموت مرارا كقطط جيدة؟
نصرف الليالي نملأ أعيننا بصور الإوز، بمكعبات الحلم الملونة، في الغد تبزغ أيامنا شريرة كوردة، يابسة كنهار. ضدنا القبرات اتحدنَ و نُحْن. أصواتنا غادرت بالمقابلِ الحلق و الشريان.
ستأتيك الريح مجلجلة، و لك أن تنقب فيها عن صوت أحبكَ، عن صمت يحاور المفردات التي لم تفه بها يوما، لك أن تفتش فيها عن همسة السادسة صباحا، أن تفرش دمك للحمام اللاهث خلف باب قصيدتك،
تقولُ:
موصدةٌ إجاصة الحياة !
و تسأل:
لماذا تلك المرأةُ
كلما غاب صوت الماء
يتذكرها المصابون بحمى العطش
كما يتذكرون النبع و الأواني؟
و كما تذكر أنت خزف جدتك الهشةِ
تذكر أنها فعلت كما تفعل الجرة العتيقة
لقنتك مستقبلك
و أنت عشته وردة وردة
جرحا جرحا
و صعدت فيه هاوية هاوية !
أبي
لماذا أهديتني للمفردات
و لم توصها أن ترفق بي ؟!
عدنا من منحنى الجبل الجاثم على شرور القبيلة
يحرس الناس أن تضيع أحلامهم في فراغ الوادي
و يعلم الأولاد أن يطلوا من فوقِ على أيامهم
و على حمّام البنات في الهواء الطلق المأسور بفتنتهن
يعلمهم أن يقفزوا باتجاه حاضرهم
خالصا من خرافة الأجداد
لكن ليس من طيبوبتهم !
أبي و نحن عدنا
احك لي عن عمرك قبل ولادتي
هل كنت تحبني آنذاك
كما أحببتني ثلاثين عاما و رحلت
و هل أنت الآن تحبني حيث أنت هناك؟
أبي، احك لي،
عن عسل الميلاد
عن قميص العيد
عن الحياة الصعبة
احك لي عن السمك الطري
حين يقفز حيا إلى مقلاة الزوال
احك لي عن الأحزان
احك لي يا أبي عن شَوّاية القلب
احك لي يا أبي عن شقاوتي
و قساوتك
عن لسعات الأصدقاء و الجيران
عن حب الناس
عن عماتي البدينات
احك لي يا أبي عن جمال أمي
عن شعرها الطويل
عن عمق بئر هي قلبها
احك لي يا أبي عنك يا أبي
و احك لي !
و نحن عدنا
وجدنا أناسا مبهمين
مشفرة ضحكاتهم
لم نكن نعرف من أسمائهم
سوى ما خلفته على الوجوه
تعاقبات القمر و الشمس على القلوب
وجدنا سيدات يخبئن آهاتهن خلف الجبال
استحياء من ضوء القمر
وجدنا أنفسنا
بثياب لم تكن تعرفت من قبل على أجسامنا
عيوننا كانت بعمر الولادة
و شهيتنا مضاعفة كخبز المسيح
رقصنا سبعين مرة حول البئر
كان دمنا يصرخ
و كنا نسأل:
لماذا علينا دائما أن نموت
كقطط جيدة !
أرى نفسي هناك
القبرات تسبح في دمي
أعضائي تلطم هواء صلبا كخوذة
جملي شعتاء على الرصيف
ذاكرة الأصدقاء مخرومة من جهة قلبي
أرى نفسي هناك
حيث لا أحد يوجد
خصوصا أنا.
عبد الهادي السعيد
ازداد عبد الهادي السعيد بمراكش بتاريخ 4 أبريل سنة 1974.
قضى طفولته و تابع دراسته بنفس المدينة في سلك الرياضيات.
التحق بمعهد المعلوميات و الاتصال بالرباط حيث حصل على دبلوم مهندس دولة سنة 1996.
في نفس السنة، فاز ديوانه الأول بجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب.
أعماله:
- تفاصيل السراب، شعر، اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1996.
- Infarctus ou les mots décroisés, théâtre, l'Harmattan, paris, 2002.
- لا و أخواتها، شعر، سعد الورزازي للنشر، الرباط، 2003.
membres.lycos.fr/abdelhadisaid/