الرياح تسن تحته زعانفها
الجوارح تبني أعشاشها في شقوقه وفتحاته
النساء يربطن لأزواجهن بأحجاره
الليل ينتدبه حارسا مثاليا لظلمته.
تذكر كنا نرمي فلسا فيصدأ قبل أن يصل إلي الأرض
قميصا فتشطره الريح نصفين.
غصنا اخضر فيصير عرجونا.
ولكن في بلد بارد وبعيد يدعي انكلترا يتضرع إلي إله الأمطار كي يقبض كفيه قليلا كان هناك جسر. سيخلده شاعر انجليزي من أصل أمريكي يدعي اليوت يربطني بين ضفتي لندن الموحلتين يعبره المسرنمون الي قلعة المال او يرمي المنتحرون من فوقه أنفسهم، وفي الضفة الأخرى للأطلسي التي لم تنفع في التكهن بها فراستنا البدوية كان هناك أيضا جسر أدهي يدعي 'بروكلين' تمر عليه قبائل الأردن كلها ولا تهتز فيه عزقة.
'السبعة جسور' التي هددني والدي (بحضورك، ربما) أن يلقيني منها إن لم أتوقف عن: التدخين والسطو علي البساتين المجاورة، التحرش بالبنات، دخول البيت من سور الحوش لا من الباب ( كان قلبي يقع ولا يصل وأبي يطبق علي عنقي بيده الكبيرة وهو يريني كم الأرض بعيدة) . لم تزحزحها من ذاكرتي كل الجسور التي رأيتها في حياتي.
ليس العلو
ليس القاع المحصب
ليس قبر أم يوسف السليم
أول ميت لنا في الربوة المقابلة
بل القذائف العثمانية الثلاث التي عثرت عليها مع عصبة 'جناعة'
وكانت معبأة ب:
قطع من 'المجيدي' حسب زعمي
بارود فاسد حسبما أكدت الشرطة.
بعد عشرين سنة من طيراني الخرافي أمام أعين تصطاد الذباب الأزرق جلست علي حافة 'السبعة جسور' فخفت أن أدلي قدمي فتفضحا المسافة بين ذاكرتي والأرض.
***
عد عكسي
تخلت أمي عن أشياء كثيرة علي الطريق هي التي كانت تخص نفسها بكسر الخبز
وعظام دجاجة يوم الجمعة بعد هبوبنا العاصف علي الطعام
رأيتها تتخلي عن 'الشويحية' التي تجعل لها نسبا راسخا في سلالة الحور.
فعلت ذلك لسبب آخر غير استدارة الخصر وامتلائه
تخلت عن 'خزام' الأنف الذهبي 'التراكي' الفضية، 'الدامر' الصوفي، 'الشرش' المطرز بغرزة لم تعد تشاهد علي الأثواب.
وكلما أوغلت في الطريق تخلت عن شيء من جهازها الذي بستة عشر عاما نحيلة ووحيدة جاءت به علي قدمين تفتحان ناحية في التراب.
وعلمت أنها تخلت عن مفتاح صندوقها العتيد المربوط بحزامها الداخلي العريض
الذي تكشفت محتوياته أمام دهشة الذي يتهمونا ب'مسك اليد' عن:
علبة حلوي إنجليزية ماركة (ماكنتوش) كان أبناؤها الموزعون علي ثلاث قارات يجدون طريقة ما لتجديدها.
حجة البيت ورسائل متباعدة التواريخ بعث بها بكرها من الأمكنة التي قادته إليها مصائره المبعثرة.
بضعة جنيهات إسترلينية ودولارات ودراهم إماراتية تبدو كمستحثات أكثر منها مالا قابلا للصرف.
صورة بالأبيض والأسود يظهر فيها أبي بجذعة العسكري وأخواي الأحدث سنا وأنا ويد أمي من وراء ستارة 'ستديو زكي ابوليلي' تسند أصغرنا كيلا يقع.
ثم كفت عن توجيه أبي بطرف عين أو بهمهمة من شفتيها اللتين براهما الأمل لينتبه إلي ما لا ينتبه إليه الرجال عادة.
لم تعد تصحح التواريخ، الروايات التي تتناهي ضعيفة ومحايدة إلي سمعها المنشغل بهتافات أخري. عيناها اللتان تعرفان برفة رمش أين كان كل واحد من أبنائها وماذا فعل تخلتا عن رصد خطوة الإبن والبنت، دبة الحفيد علي الدرج، سيارة الأب وهي تدخل الكراج او تخرج منه، مسكب الريحان والنعنع، وراحتا تعانقان مغربا بعد مغرب.
ببؤ بؤي تينك العينين، ومضتي الحياة المتشبثتين بجسد تخلي علي الطريق عن كل شيء ، نظرت إلي من سريرها في مستشفي الملكة علياء في ظاهر عمان وأنا أغادر شاكة أننا سنلتقي في مكان آخر.
الشويحية: حزام صوفي عريض ملون
التراكي: عملة عثمانية فضية تستخدم كزينة
الدامرة: سترة صوفية تلبس عادة في المناسبات
الشرش: الثوب النسائي البدوي.
***
قمصان واسعة
'إلي خيري منصور:'
قال لي صديق متهتك ذات صيف بيروتي واسع القمصان ينغل بغبار الطلع الشبقي
أن النساء نوعان ولم يعرف في حياته كذئب ثالثا لهما.
فهناك (والتشبهات له) المكتفية بقرينها أيا كان شكله، حظوظه من الدنيا او الأرض التي يبلغها محراثه، وهذه تعرفها من عينيها الراكزتين، من يديها اللتين لاترسلان إشارة ولاتنتظران
بمنديل علي الرأس بميني جيب ببنطال جينز ضيق ماهم فلا تضيع وقتك معها.
وهناك من تشبه نعجة حائلة في حقل قمح جزه حصادون مبتدئون تبحث باحشائها العطشي عن ارتواء ولن تعرفها.
من عينيها الفارغتين
من فمها المتحلب
من اقتراحات يديها
بل من رائحة المادة التي لايشمها الا كبش الهداد
وهذه، أيضا، لاتضيع وقتك معها.
من ديوان 'حياة كسرد متقطع' صدر قريبا عن دار رياض الريس في بيروت