1
عاشقٌ
لم يعد بين عينيه غير الفراغ،
يقول الخرابَ، ويدعو
كلَّ شيء إليه احتفاءً به،
ويغنيه في كل شيء.
أيها العاشق الذي صدئتْ قدماهُ
صدئت راحتاهُ
من دروبٍ عقاقير، ماذا
يفعل الآن تاريخك القتيل؟
قم تجرّأ على الصمت، مزّق رسائل أسراره،
قل لهذا المقام: انكسرتُ،
وأعضائي الآن مهزومةٌ
وقل للرحيلْ.
2
رسمَتْكِ على جسد النيل، بين يديه
عندما كنت تمشين كالضوء في ظل أحزانهِ
لغةٌ
لم يكن لإيزيس أن تتوقع فيها
قيام أدونيس من موته
كي يبرّئ من دمه قاتليه
وتظلّ الأنوثة بدءاً.
رسمَتْكِ على جسد النيل في غيمها وفي صحوها،
أبجديةُ أمواجه.
3
أخذتنا الحياة إليها رمتْنا
في شباك أعاصيرها وأعطت
صدرها لنوافذ أيامنا.
حين أسأل نفسيَ: ماذا أخذنا؟ وأرى. لا أرى
في النوافذ إلا شباكاً.
أتُرانا وهمْنا
مثلَ أسلافنا
أننا خارج الشِّباك؟ تُرانا
مثل أسلافنا
لم نزل نعشق الحياة التي عشقتْ قيدها؟
4
ما أمرَّ وما أوجعَ الحنينَ إلى بيتها
واضعاً وجنتيّ على كتف الليل، مستسلماً إليهِ
تحت قوس الصنوبر، والليل يقرأ أعمالهُ
حارساً بابه والنوافذَ لا نار إلاّ
ما يُصلصلُ في الجسد الحر، أو ما يشبّ
على أرضه.
(قاتمٌ ذلك الممر إلى أرضه، اليوم،
والريح هوجاء من كل صوبٍ)،
ما أمرّ وما أوجع الحنين إلى ما تبقّى
من أساطير حبي،
ما أشقّ الكلام عليها، ولا نار عندي لهذا الحطامْ
غيرُ نار الكلامْ.
5
هل أقولُ: اغسلي قاع حوضك مما ترسّب فيه
من تعاليم أمرٍ ونهيٍ؟
هل أكرر من أولٍ:
أغلقي باب ليلي عليكِ
افتحي للعواصف أبوابها حيث شاءت
لتكنس أنقاضها،
وتسمّي هبوبك في كل عضوٍ؟
هل أُسميكِ من أولٍ؟
6
شاهدٌ أنكِ الجذر حاولتُ أن أقرأَ
المتبقيَ منه، وان أُنطقَ الصمت:
لا صوت. من أين جاء إلينا
خرَسٌ يتراءى كأنّ الصمَمْ
لغةٌ فيه؟ وجهي
ووجهُكِ، هذا المساءَ، محيطٌ
لسفينة جرحٍ،
وجهُ ربانها باردٌ
ليس فيه مكانٌ للا أو نعمْ.
7
بعد هذا التشرد ملءَ المدائن،
بعد السنين التي أرهقت كاهليَّ،
أغني لنا لطفولاتنا.
لا أصدق أني شيّختُ أمشي غريباً
لا عزاءٌ ولا أتشكى لحبي وموتي
فلكٌ واحدٌ وأُغوي
مَن يجيئون بعدي،
أن يضيئوا بنور الجسدْ
ظلماتِ الأبدْ.
8
لم يعدْ حول رأسي
أيُّ تاجٍ سوى حبها:
حبُّها زَهَرٌ ذابلٌ.
سأغنّي حروبي فيها إليها
أنا المرهقَ المنقسمْ.
وأمجّدُ أهوالها
وأغني، وصوتي جراحٌ:
صبواتيَ لا تنثني
وجراحيَ لا تلتئمْ.
9
قلت: أسهرُ حتى الصباح لأكتب، لكن
ما أقول؟ انكببتُ أخطُّ وأمحو
وأبدأ. لا شيء. كيف تغيرتُ؟
أنّى، وكيف توارى
كل ما كان عندي؟
نمتُ. كلا، رمى النوم أثقالهُ
فوق رأسي.
في الصباح، شعرت كأني شُطرتُ،
وأصبحتُ غيريَ، شخصاً
بعيداً يسيرُ إلى ذاته البعيدةْ
كاتباً هذه القصيدةْ.
10
ما الذي ضاع منا وما زال فينا؟
ما الذي فرّقتْنا مسافاتهُ
ويوحّد ما بيننا؟
أترى لم نزل واحداً
أم كلانا تشتت؟ ما ألطف الهباءْ
جسمُه الآن في هذه اللحظاتِ،
وجسمي سواءْ.
11
ها هنا نحن، وجهاً لوجهٍ
في جحيم جراحاتنا.
البرودةُ بيتٌ لنا، وما بيننا
فلكٌ آفلٌ
فلكٌ يكتب الذبولُ مراثيَ أزهارهِ.
لم يعد يعرف الليل كيف يحيّي قناديلنا.
12
هل يعزيكِ أنّ الغيوم تجيء وتذهب في لحظةٍ،
ثم تأتي غيومٌ سواها؟
هل يعزّيك أن القبور بيوتٌ
يتساوى البشرْ
بين جدرانها؟
هل يعزيك أن النظرْ
لا يرى غير ما رسمته الغيوم؟ عزائي
أن هذا المكان الذي جئتُ منه
لا يزال يوشوشُ أسرارَهُ
للزمان، وأن الزمان الذي أنتمي إليهِ
لا يزال يجدد ألوانه
ويقلّب أورارقهُ
في كتاب الشجرْ.
13
ألغروبُ،
تُرى ساعةُ اللارجوع إلى مشرق الحب،
حانتْ؟
غرفةٌ والمآذنُ من كل صوبٍ
تتحاورُ في ظل جدرانها
يتذكر. موتٌ
في الوسائد تحت الغطاء
يقلّب أوراقه. غبارٌ،
وخطاطاتُ حلم،
ومعاجمُ للواقع الميْت. حبٌّ غروبٌ.
آه، ما أبعد الشروق عن الحب، عن شمسه الوارثهْ،
آه، ما أجمل الكارثهْ!
14
لم يكن أورفيوسُ سوى صوت قيثارة،
لماذا
شحبتْ وردةٌ وهي تصغي إليه؟
ولماذا
فهمتْ صوتَه الوحوشُ، ومالَ إليه الشجرْ
ولماذا
مثلما قيلَ حنّ الحجرْ؟
أهو الحب حقاً؟
مُرَّ في حيّنا
قُلْ لليلى، وقل للنخيلْ
لم يمتْ بعدُ قيثارُ قيسٍ
كن صديقاً كريماً، أيّهذا الإلهُ الغريبُ الجميلْ.
15
بعد أن شربتْنا مفاتنُ أعضائنا
وشربنا الشموسَ دياجيرَها وقناديلَها،
لنقلْ: إننا نضجنا
مثلَ عنقود كرمْ.
يعشق الكرمُ بعدَ العلوّ الهبوطْ
حيث ينحلُّ، يهدأُ في الدنّ ينساب في
الجسد الآدميّ، ويعلو
من جديد إلى ربه.
نضَجَ الحب فينا نضجْنا،
فسقوطاً سقوطاً، يا عناقيد أيامنا
ما أحرّ النضوج، وما أكرم السقوطْ.
16
طِلَّسْم
<<طاء لام سين ميم/ مثلّث
أكتب لكَ أكتب إليكَ
لكي تخرج من الكتب التي تسكن في أعشاش طيورٍ ماتت
لكي لا تنسى الأشجار التي كنتَ تتسلقها في طفولتك
لكي تعطيَ ضوءكَ لنجمةٍ تكاد أن تنطفئ.
أكتب لكَ أكتب إليكَ
بحبرٍ يتشبّه بدمع سكبتْهُ عيناك في لقائنا الأول الذي كان غامضاً على جسدينا،
وأكتب لكي أحيّيَ ذلك الغموض.
أكتب لكِ أكتب إليكِ،
لأقول رئتي تغيّر مكانها حين يلتقي جسدانا، ولكي أسأل: هل تعرفين الطريق التي تسلكها؟
ولماذا يتحول جسدكِ آنذاك إلى بحرٍ يتموّج في أعضائي، ولا شاطئ له؟
ولماذا تصبح هذه الحروف الثلاثة جيم سين دال، أكبر من الأبجدية، وأكثر اتساعاً؟
نكتبُ لنا نكتب إلينا،
القدم وأصابعها مشطٌ للأرق،
الكاحل عروةٌ في حافة
درجة سلمٍ نحو
عقدة نافرة في ما يشبه الفراغ
كلمةٌ تُلمَسُ لا تُلفظ
أنا وهي قارئاكَ أيها الكاحل.
الساق لذةُ انزلاقٍ
يظن إيكارُ أنها هي كذلك معراجه.
تاريخ غرفٍ بلا نوافذ.
يجب أن نعرف كيف نُبقي الحلم يتأرجحُ بثقله كله بين أهدابنا
نعم في نهاية السّاق من جهة الفخذ، يهبّ نسيمٌ آخر،
والطبيعة كحرف الألف.
الركبة خادمة أميرة
والجواب دائما: لا أتعب.
الفخذ إلى المثلث بعد ثوان
تصلين أيتها الأصابع ترى الكيمياء تبني لكَ مسرحَ الظل أيها اللاعب.
اذهب هانئا إلى موعدك هنا من الشمس يخرج
الرعد من التراب يخرج سوق قزح
للزغب كذلك جنونه.
السُرّة لا بد من وسيلة لزرع الحياة كمثل
وردةٍ في حوض كمثل السرّة.
الثديان السقوط دائماً من الثديين إلى ما
تحت السُرّة:
هذا هو النص الذي أعطيناه عهدنا لكي نتخذه دليلاً، ولكي نغطيَ به أماكن العبادة، ونصنعَ منه، وفقاً، لأحوالنا، شراباً أو خبزاً.
سقوط نتنفس فيه، أينما اتجهنا، في دوائره وأشكاله الهندسية الأخرى، هواءً يرتجل أزهار الأنوثة والذكورة وفراشاتها. ونصغي الى الخلايا تتهامسُ، والى البشرة توسوس وتوشوش
أشياءَ لا نعرف عنها أكثر من أن الحلم يَقْطرها في عرباته.
ونباركُ التفاصيلَ التي تتفتح كالنوافذ
مأخوذين بهذا الكل الذي لا يلغي من حضوره
إلا الملائكة وأوراقَ اعتمادهم.
سقوطٌ نتمسك فيه بقلادةٍ أو أكثر يمدها لنا عنقُ الشهوة فاتحا لكل حركة أفقاً وتكون أخطاؤنا بين أجمل أعمالنا لأنها تتيح لنا تكراراً يتيح لنا أن نكرر الذوقَ الضد
وذوق الغرابة.
سقوطٌ تضيق فيه على جسدينا الفراديس كلها حتى تلك التي تتحدث عنها كتبٌ يحفظها الناس عن ظهر قلب، وتبدو هذه الفراديس كأنها ليست أكثر من حساءٍ دهنيّ (يمكن أن تقرأ الدال ذالاً)
ثم نقول لطبعنا: انثر بذاركَ.
ونرى إلى البشرة التي يلتصق بها كيف تنبهر وتزدهر،
ونصغي إليها تتوسل لكي يتحوّل يقين القطافِ إلى احتمال، واحتماله إلى يقين
طاء لام ميم سين
مُثلّث.
من (أول الجسد آخر البحر).