نقرأ، ونشحذ الروح بالسؤال، ونغرف بنبضات قلوبنا دّم الحروف الأهيق. نُذبَح بشفيف الرؤية، وبشفير الألم من شاهقه إلى غمد الهاوية. نقرأ، ونجرؤ على الإنتحار بين سطورٍ تضمّ رحيق حياتنا في الضريحٍ الأبهى. الشائكُ، المعقّدُ، الأنا. لكني السهلُ البسيطُ، الأنا. أحدهم يحزرني ويفكّ الطلسم. أحدهم يشبهني كالمستحيل. أُحِبُّ وأُحَبُّ في فلذات الكلام المحبّر في الخيال. ها هم يكتبونني، يعترشون على أطول غصون أحلامي، ويغرزون أقلامهم كأفكاري حين تُوخز الهواء. ينبشون هذا الصمت الذي عجزنا عن قوله، ولشدّة ما كتمناه وتلبّسناه، متنا في خياله. أنتَ الطعنة ولستَ السيف ولا الجراح. أنتَ القُبلة ولستَ الشفاه. أنتَ الحكاية ولستَ زمانها أو مكانها ولا أناسها. أنتَ وجدان الفكرة التي ليست ملك أحد. أنت وجدان "وجدتها" لبيتهوفن. لكن عليكَ التحلّي بالصبر، وبأناة الورد ورفعته وخشوعه، حتى تكتمل دورتكَ، وتذوي روحكَ في الشميم. أَقْرأُني في العيون الشاهقة والمكتومة. أقْرأُني في مغيض النهارات في نهايات القصص، وفي أبوابها الموصدة. أقراُني في تفاحٍ عابقٍ برغبتي في أن تكونوا أنتم حواء، وأنا الغواية الأبدية. أقراُني في الكتب وأستّشفني وأكتشفني وأسيء فهمي وأجادلني وأحاربني وأسلاني. كُتبتُ منذ ملايين السنين كُتبتُ بالطين والمعدن بالوتر والعنبر بالتبر وماء الغيب. منذ البدء كنتَ خامة صالحة للولادة، للبعث والإنعتاق. يبزغُ الفكر في رحابك وفي سمتِ ظنّكَ بفجره الأول وروحه الشاسعة، أصغي إليكَ: دقّات قلبكَ في قلبي، لم تزل ذاتها. أزليّ أنتَ الذي بُترتْ أصداؤه من المنبت، وطفقتْ تتردد من كوكب إلى كوكب. تعددت الأرحام والأذهان التي احتوتكَ، لكنّكَ ما زلتَ الجذر الأوحد. أشبهكَ في جهلي بكَ وفي جهلكَ بي. نتواطأ على دهشة المعرفة، كأننا خطوة الإنسان الأول في طرف الأرض. لكننا كلما شرعنا في الكتابة، جعلنا: أكتبكَ أنا، وتكتبني أنتَ! وكلما نهمنا في القراءة، اجتررنا أنفسنا نهمةً نهمة، وانبعثنا من روح اللغات بالطعم ذاته. لماذا تحبّني أيّها الشقي ؟! ألأني العصفور الذي يخفق في جناحكَ، وتغريدي رفّ حروفكَ على الأغصان. لماذا تكتب دّمكَ بدّمي، وبخلجاتي سلّمكَ الموسيقي؟ لماذا ترددني كلما ابتدعتَ جديدكَ القديم، وتنبشني كلما دفنتَ أناكَ؟ ولماذا أنا الشقيّة أُحبّكَ؟! ألأنّكَ الماء الذي يتلوّن بفصولي، وبإشراقات نضجٍ تسبقُ العاصفة؟ ألأنكَ ورقة قلبي الوحيدة التي تختزل وهم الأعمار؟ ألأنكَ الحياة التي أماتتني وأحيتني من قبل أن أحيا في أناي؟ أقراٌ الكتبَ وأجدني محبّرة من رأسي إلى أخمص قدميّ، وأجده قد كتبني وعرفني رغم جهله بي، ذاكَ الذي لا أعرفه ولا أجهله، لكنني هو. أقرأ وأجدني أنا الفريدة أشبه ألف أحد. أقرأ ولا أعرف عما سأكتب. سأكتب عن اللاشيء الذي يشبه حياتي، وعن فراغات تفيض مني. ربما لن أكتب، سأمحو بالكتابة وَهْم هذا الحِبْر. 23 أيار 2004 |