ما علاقة بغداد بالأندلس؟ ولماذا اختار المخرج العراقي جواد الأسدي اقامة احتفاله المسرحي في بيروت، وفي مسرح اطلق عليه اسم "مسرح بابل"؟
حين نتكلم عن الأندلس، تعود بنا الذاكرة الى بلاد الشام، على ما كتب محمود درويش:
أمرّ باسمكِ اذ أخلو الى نَفَسي/ كما يمرّ دمشقيٌّ بأندلسٍ
لكن العلاّمة الدمشقي فاروق مردم بك له رأي مختلف. ففي كتابه الرائع "مطبخ زرياب"، قدّم المردم افتراضاً آخر، معتبرا ان زرياب الهارب من بطش معلّمه ابرهيم الموصللي في بغداد، ذهب الى الديار الأندلسية حاملا معه التراث الموسيقي العراقي الذي تطور على يديه وأيدي تلامذته، معطياً الموسيقى الاندلسية نكهتها وطابعها، كما حمل معه المطبخ العراقي الذي تطور هو الآخر ليصير علامة متميزة، صنعت نفائس الطعام المغربي.
العلاقة بين بغداد والأندلس ليست جديدة، رغم التوتر الذي ساد بين الدولة التي اسّسها صقر قريش الأموي في الاندلس وبين الدولة العباسية. الجديد هو بيروت. فبيروت، كما بيّن مؤرخها الفذّ سمير قصير كانت في ذلك الزمان لا في العير ولا في النفير، كما يقولون. قرية صغيرة مهملة، حطّمتها الزلازل في الأزمنة الغابرة، ولن تستعيد شيئا من وجودها الا مع الغزو المصري الذي قاده ابرهيم باشا، نجل محمد علي الكبير، قبل ان تتحول في الزمن اللاحق عاصمة لأكثر من ولاية، وصولا الى ايامنا الجميلة هذه. ما قام به جواد الأسدي عبر تأسيس "مسرح بابل"، في منطقة الحمراء، هو ادخال بيروت على الخط الممتد من بغداد الى الأندلس، وفي هذا الكثير من جنون المغامرة.
مرةً كتب حسن قبيسي مقالا ينتقد فيه إفراط المثقفين العرب في استخدام كلمة الجنون، وكان محقّا، لأن الكلمة فقدت معناها. لكن الأمر مختلف مع جواد الأسدي. هذا العراقي الأشيب الذي يطيل شعره جاعلا منه فروة بيضاء تغطّي الرأس، لم يكتف بالاستخدام الدائم لكلمة جنون، التي يلفظها بتشديد الجيم على طريقة اهل العراق المحببة، بل يمارس ما يشبه الجنون على خشبة المسرح. مخرج "الاغتصاب" و"العنبر رقم 6" و"الخادمتان"، قاده جنونه الى مغادرة العراق الذي عاد اليه فترة وجيزة، ليحطّ الرحال في بيروت، مؤسسا مسرحه الذي اطلق عليه اسم بابل.
من بغداد التي تحترق بنار الغزو والحرب الأهلية، الى بيروت الخارجة من نار حرب تموز كي تدخل في مجهول حافة الحرب الأهلية. انه عين الجنون. لكنه جنون الرهان على الرهان. هذه هي حال الثقافة العربية اليوم. انها رهان الخاسرين على الخسارة، ورهان الحالمين على الحلم.
عاد جواد الأسدي الى بيروت، ومعه شاعر الاندلس العظيم لوركا. لكن كان على لوركا ان يدخل في "الحمّام البغدادي" قبل ان تصل مسرحيته "منزل برناردا البا" الى بيروت، لتتحول شيئا آخر، فتمّ تهجينها كي تلائم ما افترض المخرج انه المناخ اللبناني. وهنا يقع السؤال.
سؤالي ليس حول حرية المخرج في ان يقتبس ويعيد تأليف النص كما يشاء، ولا حول المزج بين التراجيديا ومناخات السيرك، ولا حول الجدة التي ابدعها رفعت طربيه في شكل جميل ومدهش، ولا حول حذف اكثرية شخصيات المسرحية، اذ تضم مسرحية لوركا أمّاً وبناتها الخمس لم يبق منهن سوى ابنتين...، بل حول انزلاق العرض الى لحظة بحث عن اطار مرجعي لبناني يذكّر بالكلام السياسي الذي ابتذلته الطبقة السياسية اللبنانية في مسار انزلاقها الى الهاوية. هنا اختلّ ميزان العرض بحيث صار على المتفرج ان يعيد تفسير المسرحية ضمن اطار رمزي لا تحتمله مائية نصوص لوركا وشفافيتها، وقدرتها على الاشارة الى الاستعارة السياسية من خلال بنيتها المنسوجة على ايقاع استعارة انسانية كبرى.
كنت اتمنى ان لا تغنّي برناردا، وهذا لا علاقة له بصوت جاهدة وهبة الجميل، وان تتلون شخصية الخادمة لابونتيا، التي تمثلها عايدة صبرا، ولا يتمّ اسرها في اطار واحد. كما كنت انتظر كيف ستتطور البنية الدرامية من داخل الحدث المسرحي. غير ان الأسدي اختار ان يخلق مناخا يقترب من الهستيريا الجماعية، وقد نجح في ذلك، رغم ان بعض لحظات الثمثيل لم تسعفه كثيرا.
شعرت بالقلق والخوف، كل بداية تحمل معها هذين الشعورين. احسست ان تجربة "مسرح بابل"، هي بداية، والبداية التي لا تتلعثم قليلا، تكون بداية خاطئة، او مدعية.
لكن اين الساكسوفون؟ لم يكن هناك ساكسوفون، بل عزف وحشي على الرغبة، حيث تختلط موسيقى الاجساد بموسيقى الكبت، ويشتعل المسرح المعتم بجموح الغرائز التي تصطدم بأمّ متسلطة وخادمة مهووسة.
لم نسمع موسيقى الساكسوفون، لكني اردت ان اسأل كيف يعزف الرجل على جسد المرأة كمن يعزف على الساكسوفون؟ هل تعبّر الاستعارات الغرائبية عن الرغبة، ام ان للرغبة لغتها الخاصة التي تقصّر عنها الاستعارة؟
"منزل برناردا البا" التي كُتبت عام 1936، كانت العمل الأخير الذي كتبه فريدريكو غارثيا لوركا، قبل ان يعدمه الفاشيون في غرناطة. كأن مؤلف "عرس الدم"، قدّم هجاءه للفاشية، في وصفها اداة لقمع الرغبة الانسانية،
من خلال أمّ متسلطة تدّعي دفاعا عن شرف زائف، كي تقتل بناتها الخمس في حداد طويل.
عبر استعادة لوركا، على يد مخرج عراقي في بيروت، نستعيد شيئا من المفارقات الجمالية التي تميّز بيروت. مدينة خائفة ولا مبالية، طائشة مثل اديلا وتعشق الوهم، كبنات برناردا البا اللواتي عشقن رجلا لا يحضر في المسرحية الا عبر الغياب، نسمع به ولا نراه، تحاول الأم قتله لتكتشف ان ابنتها الصغرى انتحرت من اجله.
واذا كان مؤلف المسرحية الاسبانية قد قُتل على يد نظام فرنكو الفاشي، فإن بطلاتها اللبنانيات يُقتَلن على تقاطع الديكتاتوريات والفاشيات المهيمنة على هذه المنطقة البائسة من العالم.
النهار الثقافي
يناير 2008