تبقي حكاية الموت المبكر بالنسبة إلي المبدعين والشعراء من أغرب الأمور التي جاء علي ذكرها النقد والتحليل منذ وفاة الشاعر طرفة بن العبد الذي لم يكمل السادسة والعشرين من العمر وحتى وفاة الشاعر الإنكليزي الشهير (شيلي) الذي لم يعش أكثر من ثلاثين سنة!
ذلك أن العشرات من المشاهير ــ عربياً وعالمياً ــ ماتوا قبل بلوغ الخمسين، وكان معظمهم قد وافاه المصير قبل بلوغه الأربعين.. لكن ما هو أكثر غرابة هو تلك الانتحارات الفاجعة التي راح ضحيتها عمالقة الرواية ولم يحصل العالم علي حقيقة ساطعة ونهائية تشرح أسباب ذاك الفعل الصعب الذي يقترب من المستحيل فالكاتب الأمريكي المعروف (جاك لندن) لم يعش أكثر من أربعين سنة 1876 ــ 1916 ومات منتحراً في مساء يوم جميل، وبقي موته (حالة خاصة) لم يستطع أحد حتى من أقرانه فهم أسباب انتحاره حتى اليوم!
وكذلك الحال في مسألة انتحار الكاتب الياباني (رينو سوكي أكوتاكاوا) الذي ولد عام 1892 ومات منتحراً عام 1927 ولم يعش غير 35 سنة فقط، وجاء موته في غاية الرعب، علي طريقة الساموراي الشهيرة التي يقطع المرء نفسه بالسيف من يسار منطقة البطن إلي يمينها وبقوة لا يصدقها العقل!
هذا الموت المبكر هو القصة الأولي بين جميع القصص البارزة المهمة في تاريخ الأدب العالمي والأدب العربي معاً، ولعل موت الشاعر العراقي بدر شاكر السياب واحدة من تلك القصص الحزينة إذ مات في عام 1964 ولم يكمل الأربعين من العمر، والأمر عربياً يتكرر مع الأديب الأردني (تيسير سبول) الذي انتحر قبل أن يصل الأربعين وما زالت ذكري روايته الممتازة (أنت منذ اليوم) عالقة في ذهني وذهن القراء العرب ــ كما هو الحال مع أنشودة المطر ــ ليبقي لغز النجاح مع الموت قضية صالحة للنقاش في كل زمان ومكان.
الكاتب الأمريكي (أدغار آلن بو) كان وما يزال محور نقاش ودراسات واستفسارات لا تنقطع، لا سيما وأن أفضل أعماله إنما ظهر للناس بعد رحيله في سنة 1849 هو الذي جاء الدنيا نهاية عام 1809 ولم يتمتع بالحياة أكثر من أربعين عاماً فقط!
وتكون الفاجعة أكثر وضوحاً مع الشاعر الفرنسي المدهش (آرثر رامبو) الذي عاش 37 سنة لا أكثر 1854ــ1891 وما يزال عطر قصائده يفوح من الأزقة الباريسية القديمة، بل تأتي وفاة الشاعر العظيم (فيدريكو غارسيا لوركا) واحدة من أبرز الفواجع الأدبية والإنسانية في التاريخ المعاصر، إذ مات لوركا مقتولاً من قبل النظام الفرانكوي إبان الحرب الأهلية الأسبانية ولم يعش غير 37 سنة أيضاً، وقد كتب عنه صديقه الشاعر (أنطونيو ماخادو) يقول:
في الساعة التي يطلّ فيها الضوء
لم تكن مفرزة الجلادين
لتجرؤ علي أن تنظر إليه وجهاً لوجه
ولعل موت (أوسكار وايلد) فقيراً معدماً عام 1900 من أبرز ما نملك من أمثلة علي الموت المبكر للعظام من المبدعين، هو الذي يكفيه مجداً تأليف روايته الشهيرة (صورة دوريان غراي) حيث مات ولم يكمل السنة السادسة بعد الأربعين، بعد أن قدم للقراء الكثير من المسرحيات والروايات الخالدة لعل أبرزها (الزوج المثالي) و(سالوميه(.
هكذا يأتي الموت مبكراً ليأخذ الكبار من المبدعين والمفكرين، مرة بالقتل وأخري بالمرض وثالثة بالانتحار، ومن أعاجيب الموت مع هؤلاء الأدباء في العالم كله، أن عدد الذين ماتوا قبل الخمسين أو الأربعين لابد أن يرتبط بحكاية لا يمكن نسيانها علي مرّ الزمن، ذلك أن موت (سانت أكزوبري) أو (أنطون تشيخوف) كمثال علي الموت المبكر لا يمكن نسيانه عند القراء، فقد عاش أكزوبري 44 سنة فقط (وذلك من عام 1900 حتى 1944)، والحال نفسه مع تشيخوف الروسي 1860 ــ 1904.
ومن العمالقة الذين غادرونا قبل الخمسين ــ وأحياناً قبل الأربعين ــ الشاعر الشهير (بوشكين) والكاتب المذهل (البير كامي) والشاعر الكبير (مايكوفسكي) الذي انتحر عام 1930 برصاصة مسدس، وأيضاً الروائي الأكثر شهرة (غوغول) وكذلك (سيرجي يسنين) إلي جانب (ليرمنتوف) مؤلف (بطل من هذا الزمان) ثم الكاتب الياباني يوكيو مشيما.
أما الروائي (سكوت فيتز جرالد) مؤلف (غاتسبي العظيم) فقد جاء الدنيا صباح يوم من خريف 1896 ومضي عن الدنيا في خريف 1940 ولم يتمكن من كتابة مذكراته التي أراد لها أن تكون النهاية الصحيحة لحياته، ذلك أنه لم يعش أكثر من 44 سنة كما فعلها سانت أكزوبري وأنطون تشيخوف تماماً.
الشاعر (شيلي) جاء صوب الحياة عام 1792 وغادرها مستعجلاً عام 1822 ولم يتمكن من البقاء أكثر من ثلاثين سنة ناقصة بعض الشهور، وبعده بأكثر من مائة عام يأتي دور الكاتب ( توماس وولف) عام 1900 ليموت مستعجلاً أيضاً عام 1938 تاركاً هو الآخر بضعة أسئلة لا جواب عليها حتى الآن، أما الكاتب التشيكوسلوفاكي (كارل تشابك) الذي ولد في عام 1890 فقد مات عام 1938 مباشرة بعد قوله (إننا جميعنا موتي علي لائحة الانتظار) أما الأسباني (ليوبولدو آلاس) فقد عاش كمية السنوات نفسها التي عاشها كارك تشابك 1852 ــ 1901 مع فارق خمسة شهور تمكن فيها من كتابة بضعة فصول عن سيرته الشخصية، لكن لائحة الانتظار جاءت علي اسمه في ليلة عاصفة انتهي بها الفصل الذي لم يكمله حتى اليوم طبعاً.
الروائية (مارغريت ميتشيل) عاشت أقل من خمسين بسنة واحدة 1900 ــ1949 وكانت نموذجاً للكاتبة التي تخلد اسمها من عمل واحد فقط هو (ذهب مع الريح) الذي تحول إلي فيلم عالمي شهير جداً بالعنوان نفسه.
ولعل الموت السريع الذي أخذ الشاعر المصري المعروف (أمل دنقل) والقاص المصري الشاب (يحيي الطاهر عبد الله) وكذلك الشارع العراقي (حسين مردان) سيبقي هو الآخر بحاجة إلي إجابات عاجلة عن حقوق الأدباء في حياة شريفة محترمة، إذ مات دنقل ومردان والطاهر وهم في أسوأ حالات الفقر، ولم يكمل أي واحد منهم الخمسين من العمر!
حكاية الموت المبكر هي الحكاية الوحيدة التي لا تنتهي أبداً ما دامت الأرض نفسها باقية إلي الأبد، ولكن سيبقي الموت المبكر السريع هو الحكاية الأولي التي تحكم الذاكرة وبقوة، إنها قصة الإنسان الذي يبكي حين يولد، وسوف يبكي حين يموت، والمهم فيها هو ما جاء به ذلك الكائن الاستثنائي العظيم من إنجازات تدفع البشرية إلي الخير والمتعة والفائدة، وتبقي إشارة حب وإشارة احترام إليه.
الذين ورد ذكرهم في هذا الموضوع:
طرفة بن العبد، شيلي، جاك لندن، رينو سوكي أكوتاكاوا، بدر شاكر السياب، تيسير السبول، أدغار آلن بو، آرثر رامبو، فيدركو غارسيا لوركا، أوسكار وايلد، سانت أكزوبري، أنطون تشيخوف، بوشكين، ألبير كامي، مايكوفسكي، غوغول، سيرجي سينين، ليرمنتوف، يوكيو مشيما، سكوت فيتز جرالد، توماس وولف، كارل تشابك، ليوبولدو آلاس، مارغريت ميتشيل، أمل دنقل، يحيي الطاهر عبد الله، حسين مردان، وأنطونيو ماخادو
الزمان
4/04/2004