كان يكفي الشاعرة سنية صالح أن تكون زوجة الشاعر محمد الماغوط لتعيش في الظل وتكتب بصوت خافت وبعيداً من أي ضوضاء. الشاعرة الرقيقة والعذبة كانت طوال حياتها ضحية زوجها شخصاً وشاعراً, وضحية شهرته ومزاجاته المتقلّبة وطباعه الحادة. قيل الكثير عن علاقتهما الصعبة وما تخللها من شجون وآلام. ومحمد الماغوط نفسه حمّل كتابه "سيّاف الزهور" ما يشبه الندم على ماضٍ "زوجيّ" وملأه أيضاً تحيات إلى الزوجة المعذّبة وهي لم تصلها بعد رقادها في قبر "موحش" كحياتها.
لم تحظ سنية صالح الشاعرة بما كانت تستحق, وكاد شعرها أن يغيب على رغم أنها نشرت القليل منه في مجلة "شعر" وفي مجلّة "مواقف". غابت عن السجال الشعري في الستينات فيما كانت تستحق أن تحضر, وغابت عن الساحة الشعرية في السبعينات بينما كان آخرون يصعدون وهم لا يزيدونها موهبة. حتى اسمها لم يبرز كثيراً في قائمة الشاعرات العربيات اللواتي أضحى بعضهنّ الآن يشغل المنابر ولكن بلا استحقاق.
كيف غابت سنية صالح كل هذا الغياب الخارجي هي التي تألقت "داخلياً" بصمت, وكأنها تكتب لنفسها أكثر مما تكتب للآخرين! ولعلّ غيابها "الخارجي" هذا وابتعادها عن معترك الشعر والشعراء دفعاها إلى المزيد من الغرق في ذاتها, في أسطورتها الذاتية, فراحت تغزل خيوط العزلة من حولها لتحيا في الظل وفي "الليل المقدّس" كما تقول, بل في "صحراء الحرية" حيث لا صوت سوى صوتها.
ترى لو خرجت سنية صالح من عزلتها ومن كونها ضحية محمد الماغوط أما كانت الآن من أشهر الشاعرات؟ أما كانت خرجت أيضاً من حصارها الذاتي ومن النزعة الشخصية التي شغلت الكثير من قصائدها؟ أما كانت شرّعت نوافذ عالمها على شمس الحياة الأخرى, الحياة الصاخبة والعابرة؟ ولكن ما أجمل تلك النزعة الشخصية في شعرها! ما أجملها شاعرة تخاطب العالم وكأنها تخاطب نفسها, تخاطب الحبيب وكأنها تخاطب صورة له محفورة في سريرتها! وهكذا القمر والسماء والليل...
يتحدث الكثيرون عن سنية صالح ولكن قلّة تتحدث عن شعرها. ديوانها الأول "الزمان الضيق" اختفى ودواوينها الأخرى لم تنل حقها في النقد على اختلافه. ظُلمت هذه الشاعرة كثيراً , في حياتها كما بعد مماتها. ويحتاج شعرها إلى أن يقرأ مرة تلو مرة لا لصعوبته, وهو أصلاً صاخب بتلقائيته الحية, بل ليجد المرتبة التي يستحقها بين الشعراء الحقيقيين ولينال الحظوة التي يستحقها أيضا.
قد لا تكفي "المختارات" التي انتقاها الشاعر ممدوح عدوان وقدّمها تقديماً "عاطفياً" (سلسلة "كتاب في جريدة") كي تصنع عنها صورة كاملة وكي تقدّم ملامح عالمها الشعري والمناخ الذي تؤلفه قصائدها عبر تواليها الزمني. لكنّ "المختارات" تبرز خصائص صوتها المتفرّد, نشيجاً وألماً, ألقاً وفتنة, لوعة وحنيناً. وقد يشعر القارئ أن ثمة انقطاعاً بين هذا الشعر والواقع الذي آلت إليه القصيدة الراهنة أو أن ثمة نوعاً من "الفوات" يلوح بين بعض القصائد. وهذا شعور ضروريّ. فالقصائد هذه كان يجب أن تقرأ في زمنها وفي مرحلتها الشعرية, حين كانت في عداد القصائد الباحثة عن حريتها تعبيراً وكينونة, القصائد التي كانت تصنع حداثتها الأليفة والنضرة في منأى عن النظريات والأفكار والمبادئ. وهنا ربما تكمن أهمية سنية صالح. إنها شاعرة تواكب العصر ولو من بعيد, من خلال عزلتها الكئيبة. بل إنها شاعرة نجحت في تأسيس عالم يشبهها, في براءتها, في قوتها وفي ضعفها, عالم هو عالمها من غير زيادة أو نقصان, عالم يختلط فيه الشخصي والذاتي والموضوعي والميتافيزيقي اختلاطاً جذرياً حتى ليصعب الفصل بين هذه العناصر المتناغمة داخلياً. ولا يغيب عن هذا العالم الطابع الرومانسي ولكنه خاص جداً, ملؤه الحنين الغامض إلى "الليل الطويل في البيوت المهجورة" مثلما تقول الشاعرة في إحدى قصائدها, الحنين إلى "الملاك" الذي كانته ربما ذات يوم, إلى "فيء الأشجار الدهرية", إلى "نعاس الغابات المهجورة" والى "الجذور" والحلم الذي يجعلها "بيضاء كالغيوم".
قد يبرز أثر ضئيل من شعر محمد الماغوط في قصائد سنية صالح, أثر في الأسلوب والنبرة أكثر مما في اللغة نفسها أو الموقف الشعري من العالم. فهي أقل قسوة من زوجها وأقل حدّة وسخرية وعبثية... وهي أشد شفافية وحنيناً وضعفاً وحرية. إنها تكتب بعفوية مطلقة وتلقائية ساحرة. لا يهمها الشكل بذاته ولا اللغة بذاتها. ما يهمها هو المناخ الآسر الذي تبوح به القصائد وتنهض في ظلّه. ومن الممكن أن نسميها شاعرة الليل, ليس لأن معجم "الليل" يحتل أجزاء من عالمها فقط, بل لأنها امرأة سرّية, غامضة وسوداوية: "ليكن الليل آخر المطاف" تقول. وهي لا تمتدح الليل ولا تهجوه ولا تخافه, بل تعيشه روحاً وجسداً: "إشهدوا أنني أسيرة ذلك الليل" تقول. وتجاهر بصوت كأنه مرتفع: "أنا الظلام". وفي شعرها قد يبرز أثر للشاعر أدونيس وخصوصاً في بداياته "التفعيلية" لكنها تصرّ على النثر, شعراً وفضاء. تقول: أولد مع الظل / وأموت عارية في الضوء / حيث البنفسج هو الذكرى الوحيدة / من بقايا الروح". إنها تكتب ما تعيش, معبرة بصدق تام عما يعتري روحها من أوجاع وجروح ورؤى. وعندما تكتب قصائد حب, يتفاوت صوتها بين فرح داخلي وكآبة ناضجة, بين حبور طفولي وحزن شفيف ونظرة أليمة. ولكن ليس هناك حبيب مكتفٍ بذاته تخاطبه مخاطبة العاشقة, ولا حب هو بمثابة الخلاص والنعمة. لنتصوّر شاعرة تنادي عاشقها قائلة: "ثم أُرجعك إلى صيحتي / وأتعفّن في انتظارك". هل مَن يعتقد انه قرأ أجمل من هذين السطرين الشعريين وأقوى منهما وأعنف وأرقّ وأعذب؟ "أتعفّن في انتظارك": كأن العاشقة - الضحية تصبح هنا أشبه بالولية أو المتصوفة أو القديسة التي "يتعفّن" جسدها فداء لحبيب ما برحت تنتظره منذ زمن طويل, وهو لم يأتِ.
قد يشعر القارئ أيضاً أن لو كان للشاعرة أن تُعمل قلمها في بعض القصائد لأعملته مشذّبة بعض الجمل والمقاطع التي لم تنج من هنة. ولكن يبدو أنها كانت تكتب لتكتب وليس لتصبح شاعرة يحسب لها حساب أو لتصبح نجمة المنابر أو صوتاً أنثوياً صارخـاً... وهكـذا يكــون الشعراء الحقيقيون. كان الشعر لها طريق خلاص, نافذة تطل على ضوء الحياة, وملاذاً تلجأ إليه هرباً من الوحشة والخوف والموت... كان الشعر أشبه ب"هاوية النعاس والملل" تدفن فيها أوجاعها الشخصية...
عاشت سنية صالح خمسين عاماً فقط وبدت كما لو أنها عاشت دهراً من الألم, منذ طفولتها الكئيبة حتى موتها القاسي. ويكفيها ما عانته في ظل زوجها محمد الماغوط, الشاعر الذي لم يكن رحوماً حتى مع نفسه. لكن تلك الأعوام الخمسين التي عاشتها كـ"مسافرة أبدية" لم "تتجاوز حدود قبرها", كما تقول, جعلتها شاعرة فريدة في جوّها الشعري ولغتها وتجربتها. ترى متى يُرفع الظلم عن سنية صالح؟ متى نكتشفها أو نعيد اكتشافها كشاعرة حاضرة بشدّة ولو بخفر وصمت؟
الحياة 2004/09/5