رغم أن أميري بركة، الشاعر والكاتب المسرحي والسياسي الأسود، قد اعتاد على مدى السنوات أن يثير الجدل والغضب وحتى النبذ أحياناً لمواقفه الرافضة للتيارات السائدة على المستويين السياسي والاجتماعي، إلا انه لم يواجه أيضاً في أية من معاركه السابقة حملة تشهير بضراوة الحملة التي لا تزال تقودها ضده أبواق الإعلام اليهودي الأميركي منذ قرأ قصيدته ـ القنبلة ـ "شخص ما فجر أميركا" في 19 أيلول الماضي في مهرجان شعري بولاية نيوجيرسي، فقد أثارت القصيدة رد فعل عاماً عنيفاً، مطلقة عناقيد الغضب من الصحافة المحافظة والمنظمات اليهودية، وفي مقدمتها بطبيعة الحال "رابطة مناهضة التشهير" الصهيونية.
وقد توالى نشر صور أميري بركة، بوجهه المغضن من الغضب والازدراء مع مقالات حادة الانتقاد مطالبة راديكالي الستينات السابق وشاعر ولاية نيوجيرسي المتوّج بتقديم استقالته من هذا المنصب الشرفي والاعتذار عن "عدائه السافر للسامية"، وقد هاجمه حتى شاعر الولاية المتوّج الأول جيرالد ستيرن الذي قال إنه قد شعر بالصدمة من "سخف" الرسالة التي حملتها قصيدته، ورماه بالكذب، مُعرباً عن الأسف لأنه هو الذي أوصى باختياره لمنصب الشاعر المتوّج، والذي يأتي بمكافأة سنوية قدرها 10 آلاف دولار.
وكان المقطع الذي أثار هذه الزوبعة ينطوي على إشارة إلى علاقة يهودية بكارثة مركز التجارة العالمي، ويرد أنصار الشاعر بأن الكلمات تلمس وتراً حساساً لأنها عارية من التخيل والرمزية.
وفي أوج هذه الحملة الدعائية السلبية وبّخ حاكم الولاية أميري بركة وطالبه بالاستقالة في الوقت كان يدرك فيه أن التشريع الذي اعتمدته حاكمة الولاية السابقة كريستي ويتمان التي أنشأت المنصب لا يسمح حتى الآن لأي ضغط من الحكومة بإجبار الشاعر على التخلي. ولا يزال الحاكم يحاول بالتعاون مع المجلس التشريعي للولاية إصدار تشريع يسمح بطرد بركة، ومع ذلك، فقد جمد الحاكم الراتب الرمزي الذي يتقاضاه الشاعر الأسود الداهية.
ومنذ تفجير حملة الغضب على أثر قراءة القصيدة من أيلول الماضي، لا تزال رابطة الدفاع اليهودية والصحف اليهودية الشعبية مثل "جويش وورلد ريفيو" تنعت رائد الشعر الأسود الحداثي "شاعر نيوجيرسي المتوّج المتعصب".
وبعد عشرة أشهر منذ قراءة قصيدته، لا يزال أميرى بركة يصر على أنه لن يستقيل وأنه يقاتل من أجل حقوق الشعراء والتعديل الأول (قانون حماية حرية التعبير من الدستور الأميركي) وقد بلغت مشروعات القوانين المطروحة على المجلس التشريعي للولاية لطرد بركة، عشرة قوانين.
وفي مقابلة أجراها روبرت فليمنغ مع الشاعر لمجلة "قضايا سوداء" من مسكنه في نيوارك، بيشيرس، بعد عدة أحداث أدبية نظمها شعراء "داون تاون" من مانهاتن لمناصرة بركة، سارع الشاعر إلى تأكيد عدم اكتراثه بالضجة المثارة حوله والمستمرة حتى الآن: "لقد أدهشني الهجوم الذي تقوده "رابطة مناهضة التشهير اليهودية". ان رؤيتهم الضيقة تستبعد كل القصيدة لتؤكد على أربعة أبيات، واعتبار مجرد ذكر إسرائيل معاداة للسامية جعلني أدرك أنهم يحمون الإرهاب الإسرائيلي، ويخفون ممارسيه من صورة "الضحايا" ويقدمون الفلسطينيين كإرهابيين".
ويبدو أن بركة على ثقة من أن لا أحد يستطيع أن ينحيه من منصبه ولا حتى المجلس التشريعي للولاية: "إن المجلس التشريعي لنيوجيرسي لا يملك إنهاء ولايتي أو منع صرف مكافأتي. وهذا هو سبب الضجيج الذي يحدثونه. لقد كانت نتيجة آخر عملية تصويت. مقابل صفر و20 ممتنعاً عن التصويت لإقصائي. لكن لا تشريع يمكن أن يقصيني. وهناك عشرة مشروعات قوانين أخرى في مجلس شيوخ الولاية تتعلق بالقصيدة لكن لا يرجح أن يجاز أي منها".
وكما اعتاد بركة أن يثير الخلاف حول مواقفه السياسية والاجتماعية، ومن بينها، على سبيل المثال، تأسيس حركة أدبية سوداء "حركة القوة السوداء الجديدة" في أعقاب اغتيال مالكولم إكس، بإصدار كتب مثل "نظام جحيم دانتي" (1965) و"حكايات" (1967) و"النار السوداء" (1968)، ويضم مجموعة هامة من الكتابة السوداء، إعداد وتحرير بركة ولاري نيل. وخلال الستينات غير اسمه من لو روا جونز إلى أميري بركة، وعلى طريقة الحرباء، تنكر بركة لبراعته الأسلوبية كشاعر، وكاتب مقال وروائي. وانتقل من نهج شكلاني متأثر بحركة "البيت" التي كان أحد روادها باستخدام صور صادمة والتلاعب بالألفاظ إلى شكل نثري سهل الفهم، ما أدى إلى زيادة شعبيته. لكن بعض القراء انتقدوا هذا التحول كمثال لتدهور سريع لساحر كلمات.
ويقول بركة "لقد تغيرت مع مرور السنوات لأنني جاهدت لكي أفهم وأغير العالم. والناس الذين يشككون في التغير لا يملكون حقيقة أن يفعلوا ذلك. كيف تكون من العالم ولا تتغير أفكارك مع مرور السنوات؟" ويضيف "إن الذين يشككون في التغير كسالى ثقافياً، أو أنهم يعانون سلبية الامتلاء المفرط أو أنهم راضون بشكل خفي".
وعلى الرغم من أن معظم كتبه قد نفدت طبعاتها، يقول بركة إن عدم إعادة طبع هذه الكتب يرجع إلى اندماج دور النشر الأميركية والتأكيد على الربح وما يسميه "الغطاءات (عندما يستنسخ كاتب أو فنان أبيض عمل كاتب أو فنان أسود ويصبح أكثر شهرة) التي تغطي عملاً مشروعاً بأعمال مقلدة مثيرة". ويؤكد أن الأدب الأسود قد تعرض للسطو عن طريق "غطاءات" متقنة البناء كما يحدث ذلك في الموسيقى السوداء. ومنذ نشر تقرير دون آند براستريت عن وجود أضخم طفرة متزايدة من حجم مشتري الكتب بين الأميركيين السود بالقياس إلى القراء الأميركيين عامة، "غطت الجثث، كما حدث في موسيقى الراب، وهمشت وحجبت أكثر الفنانين السود الشبان جدية والتزاماً بواسطة بعض الزنوج الذين يسعون إلى تعظيم الذات والتخطي. أو إرضاء السيد". ويقول بركة "إن عملهم سطحي وتافه، ويرتبط بالنزعة التجارية الضحلة للتيار السائد. إن ما يسمى بالتيار السائد "يغطي" أكثر فنانيه أهمية وعمقاً".
ويضيف "إن حركة الفنون السوداء لا تغطى وتسوء سمعتها فقط بواسطة الزنوج القواد والناس البيض، ولكن المؤسسات الأكاديمية والتجارية قد رفعت من شأن كتاب وفنانين زنوجاً من بين الكتاب المأجورين السطحيين أو الرجعيين الذين يعلنون أنفسهم".
ويؤكد الشاعر والناشط السياسي أن النموذج التاريخي للتقليد الديموقراطي الثوري للأدب الأفرو ـ أميركي يهاجم ويعمى بقدر الإمكان، "فأعمال الكتاب البارزين من أمثال فريدريك دوغلاس، ودوبوا، ومارغريت ووكر ولاري نيل، على سبيل المثال، مخفاة تقريباً.
وبينما يذكر لانجستون هيوز أكثر وأكثر، لم يقترب أحد من أعماله الروائية والدرامية العظيمة. ويتساءل أين هي الأعمال المسرحية العظيمة لهانز بري، وبولدوين، وكالدويل، وبولينز، وورد". ويضيف "ولكننا نجد مسرحيات تمجد أجبن قطاعات المجتمع الأسود، قطاع البورجوازية الصغيرة الزنجية، بل إن البعض يقدم الفنانين السود بصور كاريكاتورية أو يعارض التحرير الأفرو ـ أميركي نفسه".
وبركة الذي يشارك دائماً شعراء الهيب ـ هوب الأصغر سناً من القراءات الشعرية الأدائية (سلام)، يشعر بتفاؤل أكثر بالنسبة لحالة الشعر الراهنة "إن الشعر حي وفي حالة جيدة. والشعر الأفرو ـ أميركي و"اللاتينو" قد بلغ نقطة امتياز فني وانتفاضة سياسية.
وهناك المئات من الشعراء السود و"اللاتينو" الشبان، وبعض الشعراء البيض أيضاً، يكتبون قصائد ثورة ومقاومة. وليس هناك نوع من أنواع الفن في الولايات المتحدة، معاد للامبريالية، ومعاد للعنصرية وراديكالي وثوري عن وعي بقدر أعمال هؤلاء الشعراء. ورغم عدم توازن البرنامج التليفزيون "راسل سايمونز يقدم شفر ديف"، فلا يزال يقدم لمحة مثيرة من الغالب عن الشعراء الجدد والشبان، وغير الشبان تماماً الذين يعتبرون الآن هامين أو الذين سوف يصبحون هامين للغاية وأصواتاً مؤثرة".
وبينما ينتقد شعراء آخرون من جيله "الرا" كشكل فن، يؤكد بركة أن "الرا"، من منظور حركة الفنون السوداء يظل هاماً، "لقد بدأ كشكل شعبي وملهم ومجدد بمضمون راديكالي وجياش العاطفة. وقد أثار إعجابي في مرحلة مبكرة جداً لأني كنت أعرف أنه النوع الشعري الذي تنبأت به "حركة الفنون السوداء"، فهو أولاً: فن أسود ثانياً: فن موجه للجماهير، ثالثاً: فن ثوري".
"ولكن هذه الموسيقى الجديدة قد حوربت، وغطيت من طريق الاندماج والادعاءات العنصرية بالمشاركة من التأهيل والتفوق المطلق من جانب آخرين".
وبينما لا يزال حاكم ولاية نيوجيرسي يحاول خلعه بالتعاون مع المجلس التشريعي للولاية من دون نجاح حتى الآن، ورغم تجميد مكافأته الشهرية المتواضعة منذ سبتمبر الماضي، لا يزال أميري بركة يواصل سلسلة قراءاته الشعرية الشهرية بصفته الشاعر المتوج، ويواصل عمله كمنسق منذ 15 سنة لمحترف فنون تشارك زوجته ـ أمينة ـ في إدارته.
لقد قال جيمس بولدوين ذات يوم "يستطيع كاتب أن يعيش لفترة طويلة على كتاب واحد وشهرة". ولا تنطبق هذه الملاحظة على حالة أميري بركة فهو وعمره الآن 69 سنة، وبينما يواجه الإصابة بمرض السكر، لا يزال يشارك في القراءات الشعرية الشبابية من "داون تاون مانهاتن"، ويقدم حفلات موسيقية ـ شعرية مع زوجته، ويمارس هوايته الجديدة: الفن التشكيلي، وقد أقام معرضين حتى الآن. وقد أعد للطبع مجموعة من القصص القصيرة، ومجموعتين من الدراسات، وكتاباً يضم مسرحيات جديدة والأعمال المسرحية الكاملة إلى جانب ثلاث روايات تنتظر الطبع. كما أنه يحضر لرفع دعوى قضائية ضد ناشره القديم، ويليام مورو، لترك كثير من كتبه تنفد من دون اصدار طبعات جديدة لها.
المستقبل
الاثنين 14 نيسان 2003