كتب الشاعر بوب هولمان في تقديم أنتولوجيا الشعراء النيويوركيين، أو الشعراء النيويوركيين ـ البورتوريكيين.. "ساعدني/ أستطيع أن أرى"، كما تقول عُلبة تبرعات القسّ بدرو بييتري. ان هذا الكتاب يتجاسر بإعلان الشيء الواضح.. وهو أن الراب Rap شعر ـ وأن جوهره المنطوق أساسي لذيوع الشعر.
ان القسّ بدرو بييتري، الذي استشهد بوب هولمان بقوله.. "ساعدني/ أستطيع أن أرى" يحتضر، أو بالأحرى ينتظر الموت بعد أن أخطره الأطباء أنه مصاب بسرطان في المعدة لا يمكن علاجه بالجراحة.
فمن هو هذا القسّ؟ انه شاعر نيويوركي وأحد مؤسسي "مقهى الشعراء النيويوركيين"، والأهم من كل ذلك هو الشاعر الذي كتب القصيدة ـ الكتاب "المرثية البورتوريكية" التي سجّل فيها تناقض الناس الاستوائيين الذين يعيشون في خرابات حضرية.
في أواخر الستينات، بعد خروجه مباشرة من حرب فيتنام، جنّد نفسه في معركة أخرى، وكان في هذه المرة مشتركاً مع فنانين، وكتّاب وشعراء وحركيّين حلّوا تناقض الهجرة بتبني هويّتهم كنيويوركيين وبورتوريكيين. لكن قلة منهم فقط الذين بزّوا في ذلك بييتري الذي التقط عبثاً وآلام وآمال جيل أبويه في قصيدة "المرثية البورتوريكية"، المرثية الملحمية لأقرانه المهاجرين الذين أداروا ظهورهم لتراثهم لمطاردة ما رآه كحلم أميركي مراوغ، وقد جلبت له تقريظاً عالمياً وألهمت الحركة الثقافية النيويوركية.
وقد ساعد بييتري، بإنتاج فيض مُرسل من القصائد، والمسرحيات، والقطع الأدائية الأخرى، في تأسيس وتغذية "مقهى الشعراء النيويوركيين" في الحي الشرقي الجنوبي، أو السفلي، والذي لا يزال بمثابة "كعبة" للشعراء الأدائيين الذين لم يكونوا قد وُلدوا بعد منذ 31 سنة عندما نشر تأملاته عن الموت الروحي الموحش لقوم.
ان الشاعر نفسه يحتضر الآن. كما أبلغه الأطباء على أثر اكتشاف إصابته بسرطان لا علاج له. وكان ردّ بدرو بييتري غير متوقع، أو بالأحرى متوقعاً، على الأقل، ممن يعرفونه حق المعرفة.
ان بييتري، الذي سوف يبلغ الستين بعد أسابيع، يملك تميّزاً شعرياً يتقاسمه مع أولئك الذين تجاسروا بأن يحلموا بيوطوبيا نيويوركية. لقد احتشدوا حوله، وتبادلوا الرسائل الالكترونية وتنظيم القراءات الشعرية لمساعدته على جمع أكبر مبلغ ممكن من الثلاثين ألف دولار التي يحتاجها للعلاج الكلّي في المكسيك.
وفي مقابلة مع دافيد غونزاليس في شقة صديقته في برونكس، أحد أحياء نيويورك الشعبية، قبيل سفره الى المكسيك في الأسبوع الماضي، قال بييتري "لقد يئس أطباء المستشفى، لكن أصدقائي والأسرة لن يدعوني أستسلم. إن كون المرء شاعراً يمكن أن يكون تجربة معقّدة للغاية وموحشة للغاية. فنحن نتّخذ هذا الموقف، وهو أننا الوحيدون، هذا التصور الخاطئ. لكننا لسنا وحيدين".
وقد حدّد الشاعر شخصيته المتميّزة بارتداء ملابس سوداء دائماً وتغطية رأسه بقلنصوة فضفاضة تجمع بين البيريه الفرنسي والكاب الأميركي، وهو يسمّى نفسه El Reverendo القسّ، إذ يرأس كنيسته التي يطلق عليها "كنيسة الطماطم"، ويحمل حقيبة يد مليئة بالعوازل المطاطية الواقية (كوندوم) التي ينثرها أثناء قراءاته الشعرية.
لقد كان السواد اختياراً سياسياً، كما كان تعبيراً ذوقياً لبييتري الذي تبنّاه بعد الخدمة في فصيلة مشاة خفيفة في فيتنام.
العدو
"لقد أدركت من هو العدو، ولم يكن هو الييتكونغ في بيجاماتهم السوداء، بل كان المرتزقة الذين غزوا بلدهم. وهذا (يقصد الزيّ الأسود) هو حداد على ذلك الشخص الذي تُوفي في فييتنام".
والشخص الذي أصبحه كان شاعراً، انطلق في المشهد في 1973 بكتاب "المرثية البورتوريكية"، مجموعة القصائد التي تُرجمت منذ ذلك الحين الى الإسبانية، والإيطالية، والألمانية، على الرغم من صعوبة العثور على نسخة من الأصل الإنكليزي.
وقد تركت المرثية الشعرية أثراً عميقاً في نفوس آلاف البورتوريكيين الذين يرون أسرهم المتكدّسة. والأهم، أنها عبّرت عن عقيدته وهي أنهم لكي ينجوا في أرض الميعاد الكاذبة، ينبغي أن يتطلعوا الى جذورهم وأن يستمتعوا بثقافتهم. ولا عجب أن تنتهي بملاحظة عن الحب. لقد كانت بالنسبة لكثيرين بمثابة تجلّ.
ويقول خوان فلورس، الأستاذ بجامعة هانتر والذي يساعد الشاعر على تجميع أنتولوجيا لقصائده.. "لقد التقط ذلك الموت الاجتماعي والأمل في أن يكون هناك ملاذ للإنسانية في الثقافة البورتوريكية التي تخلّى عنها الناس.
لم يكن الكتاب يتناول الفقر فقط، بل تناول الثقافة المادية القحّ التي تقودنا الى أوهام عن أنفسنا".
ويتمان
ويقول "إنني أعتبره ينتمي الى تقليد ويتمان من حيث إعطاؤه صوتاً ملحمياً للتجربة البورتوريكية. لقد وصفها البعض بأنها ملحمة زائفة، كما لو كان البورتوريكيون لا يستحقون معالجة ملحمية. لكن رسالة الكاتب البورتوريكي اليوم هي أن يجعل المخفي مرئياً. وقد فعل بدرو ذلك منذ ثلاثين سنة بـ"المرثية البورتوريكية".
وقد واصل عمل ذلك في مجلدات أخرى مثل "انتهاكات إشارات المرور" ومسرحيات مثل "الجماهير مغلّفة" The Masses Are Asses، متناولاً عبث الحياة والسياسات بدعابة وتلاعب ذكي بالألفاظ والعواطف. "كنت أستطيع أن أتوقف بعد المرثية، لكن عملية الخلق لا تعمل على هذا النحو"، ويضيف بييترو "ما إن تبدأ لن تكون هناك نهاية. لن تدعك الحياة تفلت من الخُطاف، فليس هناك شيء قد فُسّر بعد".
الآن أصبح لديه كثير من المعاونين بينما يجاهد لتعريف مجتمع في حالة تطوّر مستمرّ. وهو يعرف أن بعض الناس قلقون لأن النيويوركيين سوف يُفقدون من الخليط اللاتيني متعدّد الجنسيات الموجود في المدينة، باستثنائه، وبصفة خاصة عندما يرى كتّاباً حضريين من الشباب، مثل ماديبوسا، أو شعراء الضمان الاجتماعي الذين يجمعون بين الشخصي والسياسي.
ويقول بدرو بييتري "الانقراض ليس وارداً في جدول أعمالنا. ليس هناك استيعاب بالنسبة لنا. وفي الوسع أن توجد على الجزيرتين ـ مانهاتن وبورتوريكا ـ في آن واحد. ولهذا نحن لا نزال هنا".
ان كثيراً من الناس الذين أثّرت فيهم كلماته، سواء كانوا لا يلينون أو رومانسيّين، تواكبوا على القراءات الشعرية في أبرد الجزيرتين، حيث دفعوا تبرعات لعلاج بييتري البديل والذي لا يغطيه التأمين الصحي التقليدي. وقد قام بعضهم بحثّ أصدقاء في مدن أخرى على المساعدة.
تقول ماريا تيريزا فيرنانديز، الشاعرة التي تطلق على نفسها الاسم المسرحي ماريبوسا، "لقد اتصلت هاتفياً ببورتوريكو، وقال لي الشخص الذي تحدثت إليه "تعرفين، سوف يموت من هذا". أوه، لا، ليس لدينا أي وقت لليأس. ان الأمل والفعل إيمان. وفي النهاية، سيكون الحال على ما يرام. وإذا لم يكن على ما يرام، فلن تكون النهاية".
منذ أيام قليلة، ازدحم مقهى الشعراء النيويوركيين بجمهور من الوقوف فقط لحضور القراءة الأخيرة لصالح علاج بييتري، وكان الجمهور جمهور بييتري الحقيقي، متخطياً الحدود والتوقعات. فقد جلس الشعراء والمعجبون جنباً الى جنب سُعاة الفضول وحتى أصدقائه من وحدته بالجيش القديمة. وعلى المسرح، كما يصف دافيد غونزاليس تلك الليلة المشهودة، قدم موكب من الشعراء التحية، بينما كان سبيدو، ابن بييتري ذو الثماني سنوات، يمرّر على الحضور قبعة عالية ـ توب هات ـ.
وعلى الرغم من أن بييتري كان قد سافر بالفعل الى المكسيك، كان لا يزال حضوره طاغياً، بينما كان زميله أدال مالدونادو يعرض يديو قصيراً سجّله قبل بضعة أيام. ويصوّر اليديو الشاعر الناحل وراء ستائر سوداء يتحدّث بصوت أجش، ساكناً مرة أخرى مكانين في آن واحد.
قال بييتري.. "هذا ليس أنا، هذا شخص آخر".
وفي مداعبة، شكر الذين أرسلوا له الماريوانا. ولكنه تعهّد جاداً أنه سوف يعود إليهم ثانية.
"ليس من أجل المخدرات، بل من أجل القُربى".
وقال الشاعر.. هناك الشيء الكثير جداً الذي ينبغي أن أفعله، وأن نفعله معاً.
"وإذا حدث أن مرض أحدكم، فلا تذهبوا الى المستشفى. اتصلوا بأقاربكم. اتصلوا بأصدقائكم. اتصلوا بزملائكم الشعراء، فسوف يجعلونكم تشعرون بتحسّن".
********
المرثية البورتوريكية
خوان
ميجيل
ميلاجروس
أولجا
مانويل
الجميع ماتوا الأمس اليوم
وسوف يموتون من جديد غداً
محوّلين محصّلي فواتيرهم
الى ذوي القربى
الجميع ماتوا
في انتظار جنة عدن
أن تُفتح من جديد
تحت إدارة جديدة
الجميع ماتوا حالمين بأميركا
توقظهم في هزيع الليل
يصرخون: ميرا ميرا
اسمك على ورقة اليانصيب الرابحة
الجميع ماتوا
كارهين محال البقالة
التي باعت لهم شرائح وهمية
وأرزاً واقياً من الرصاص وكراهين
للبورتوريكيين الموتى
الذين لم يعرفوا أبداً أنهم بورتوريكيون
الذين لم يأخذوا استراحة لاحتساء القهوة أبداً
من الوصايا العشر
ليقتلوا، ليقتلوا، ليقتلوا،
ملاّك جماجمهم المشروخة
ويتواصلوا مع أرواحهم اللاتينية.
إقفز أنت أولاً
إقفز أنت أولاً
يقول سكّير للآخر
لا تُخيّب أمل أصدقائك
إنهم ينتظرون أسفل هناك
في حرارة دون الصفر
طوال الـ365 يوماً الماضية ليروك
تمارس ما كنت تعظ به
لا تنتظر حتى يحل الظلام
الأنوار لا تعمل حول
هذا الحي ذي الديانة ـ العتيقة
الذي تشنقه سرينات الشرطة
أسرع قبل أن يغيّر القسّ
الذي دلّك على مكان السطح
قرارك بزجاجة من النبيذ الوردي
ويرحّلك الى مدرسة ليلية من جديد
حتى يمكنك أن تتعلّم كيف تعدّ
وتقفز من بنايات أعلى.
كابينة التليفون رقم 102
أنتَ وقنّينتك
ودُخانك
وكوكايينك
مدعوون دعوة قلبية
لحضور حفلة
إذا لم تتمكن من الحضور
ارسل قنينتك
ودخانك
وكوكايينك
لكي تستمرّ الحفلة
حتى تكون قادراً
على أن تحتفل معنا.
كابينة التليفون رقم 227
لتأتِ
الى شقتي
هذا المساء،
جهاز التليفزيون
معطّل،
يمكننا أن نشاهد شيئاً
مشوّقاً
قبل أن يَستصلح.
كابينة التليفون رقم 507
سأقفز من النافذة
إذا لزم ذلك
لأرضيك جنسياً،
لكن لو عشتِ فقط في
البدروم.
كابينة التليفون رقم 1/2 905
صحوت هذا الصباح
في حالة ممتازة
التقطت التليفون
أدرت رقم
صاحب العمل الذي يتعادل معي في الفرصة
لأبلغه أني لن
أذهب الى العمل اليوم
"هل تشعر بمرض؟"
سألني رئيسي
"لا يا سيدي" أجبت:
إنني في صحة جيدة للغاية
بحيث لا أستطيع أن أذهب الى العمل اليوم
إذا شعرت بالمرض غداً
سوف آتي مبكراً.
(مقتطف من القصيدة التي فجرت حركة شعرية في الثلاثينات)
المستقبل