خمدت تقريباً نار المقالات والتحقيقات التي كُتبت خلال الأسبوع الفائت في تقريظ يوم الشعر العالمي. كان ذلك شبيهاً، أكثره في الأقل، بما درجنا على تدبيجه في السنوات القليلة الغابرة، من مدائح ومرثيات وفنون أخرى.
لم يتغيّر شيء جوهري في أحوال الشعر على الأرجح. وليس في الأفق ما ينبئ بأن شيئاً عظيماً سيحدث على هذا المستوى في يوم الذكرى المقبلة. نستطيع إذاً أن نواصل أشعارنا واحتفاءاتنا وأشغالنا بالإيقاع الذي نريده لهذه الحياة، وبذاك الذي تريده لنا. قد نستطيع أيضاً أن نبحث عن أشغال أخرى، وأن نراكمها، كي نتمكن من القيام بأود لغتنا وكتاباتنا وعائلاتنا، وكي نسكّن هواجس مستقبلنا.
الشعراء سيظلّون يولدون ويكتبون وينشرون، وسيظلّون يعيشون أو يموتون باستمرار. دور النشر، قليلها القليل القليل، ستظلّ تنشر شعراً رغم ضيق صدرها بالشعر والشعراء. في الجامعات ستظلّ كليات الأدب ومعاهده تدرّس الشعر وتخرّج طلاباً يتعرفون إلى بعض امرئ القيس وربما إلى جملة من قصيدة لوالت ويتمان أو لبودلير. نادرون هم الذين ستشغلهم أسماء كأسماء لوتريامون ورينه شار وإيف بونفوا وبدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقرا وبول شاوول وسليم بركات ووديع سعادة وبسام حجار، على سبيل المثال، و... هلمّ. الأكيد أن أحداً منهم لن يكون معنياً بالشعراء الجدد إلاّ إذا "أجبرهم" أحد الأساتذة "المشعوذين" على قراءة كتاب صدر حديثاً لواحد من هؤلاء.
لكن يوم الشعر سيظلّ بخير. فعلى صفحات الانترنت سنقرأ أنطولوجيات شعرية كاملة من شتى أصقاع العالم وبلغات الشعوب جميعها تقريباً. بعضها سيرفع رايات التجريب، وبعضها الآخر المراوحة، وكثيرها التكرار. لكنها جميعها سترفع رايات الشعر والأمل والربيع، وإن مجرَّحةً وقتيلة. وهذا شيء حسن.
معهد العالم العربي في باريس سيحتفل هذا العام ب"أنوثة" الشعر، هكذا قيل وهكذا فعل في عهدة الأنصاري. لكنه لم يترك للأنوثة الشعرية سوى نافذة قليلة الهواء. لقد شغلته "ذكورة" المال وسطوة المناصب. سيكون للشاعرة الأميرة كرسيّ الصدارة هناك، وستحتفي بها الأقلام وستُرفع لها اللافتات، بعد أن يكون رافعوها وبعضهم من كبار القوم في الأدب والثقافة قد تأكدوا من أن ضمائرهم لن تبكّتهم بسبب بيع المقالات وتلقّي الهدايا وجزيل الأعطيات. سيفرد لها أصحاب المؤسسات والمجلات والمنابر، المقامَ الأول، ولن يكون في ذلك حرج أو إرباك لهم ما دام الاحتفاء ينضوي تحت يوم الشعر. فلطالما كان أمثال هؤلاء ينالون الحظوات لدى الملوك والأمراء، وإلاّ كيف كان للشعر أن يزدهر ويستمر!
حسناً. لكننا لن نصدّق أن معهد العالم العربي يحتفل حقاً بيوم الشعر. ولن نصدّق أن أحداً من هؤلاء المدّاحين سيقتنع في قرارته بأن هذا "الشعر" وأشباهه هو بالذات وراء إعلان اليوم العالمي للشعر، وبأنه يستحق هذا التبجيل كله حقاً. وما دام الأمر هكذا، لا بأس إذا كانوا سيلطّخون جبينهم وأفكارهم ومواقفهم وآراءهم بعار الاستعطاء الشعري. وتتأكد المعادلة نفسها إذا مدح شاعر كبير شاعراً من المشايخ لأن هذا الأخير صنع جائزة شعرية باسمه. أو إذا أصدرت مؤسسة ثقافية عالمية هذا الكتاب المبرمج أو ذاك، تحت ذريعة توصيل الأدب إلى أوسع القرّاء، وذلك... رداً لدَين أو طلباً لشهرة أو لمنصب أو لمال أو لعلاقات أو ل"سلطة ثقافية". ولا بأس أيضاً إذا لم يتردد شعراء وروائيون ومفكرون آخرون في تعفير كراماتهم ومقالاتهم ...، قصائدهم عند عتبات الملوك والشيوخ والأمراء والسلاطين والطغاة والرؤساء والمؤسسات طمعاً في إصدار أو في منصب أو في نيشان أو لهثاً وراء... جائزة. وما أكثر هؤلاء.
هذه كلها ليست أسباباً للاشمئزاز أو اليأس. موهبة الأمل ووحشية الغريزة والحدس والنبوغ، وحدهما، مقيمتَين في جوهر الشعر ورشد الشعراء، تستطيعان أن تفعلا العجائب. ها شعراء جدد يولدون وهم شعراء حقاً. وها ثمة شعراء رواد وكبار، وشعراء أقلّ ريادةً وعمراً، يصنع شعرهم الغيوم التي تلطّف آلام الظلال والعتمات. هؤلاء وأولئك لا يستطيع شيء أياً يكن جبروت نفوذه أن يحول دونهم في أيام الشعر وغيرها. بل وفي الأيام كلها. فهم مقيمون حيث لا مفرّ من شروق الشمس على نزق أيديهم وكسلهم. وهم يكتبون حيث لا مفرّ من صعود القمر مبلولاً برطوبة أرواحهم.
الشعر سيظلّ إذاً بألف خير. فما من ضير عظيم إذا كان بعضه سيُزوَّر ويُشوَّه ويُطمس، أو إذا كان سيقيم في العزلة. أو إذا كانت الكتب والمنشورات واللقاءات والاحتفالات به وبيومه ستكون محسوبةً وموزونة بموازين ذهب الاتجار والصفقات.
الشعر في حال جيّدة، رغم كل شيء. لأنه نبوغ وعبقرية وضربة نرد فحسب. ولأنه شهادة. وموتٌ أيضاً. فما دام الشعراء يولدون ويموتون ويظلّون أحياء. وما دام بعضهم يظلّ في الضوء ولا يعميه ضوء، وما دام بعضهم الآخر يذهب إلى الظل ليزداد امحاءً ووهجاً وتوهجاً، فستظلّ تنهض الينابيع من سبات غفوتها. فبمثل هؤلاء وغيرهم يورق رغيف الشعر والأمل. ولا ضرورة للموانئ لأن البرّ شقيق اليمّ. ولن تضيع بوصلة الشعر لأن البحّارة يعرفون الطرق والمتاهات. وإذا أعيتهم سبل الوصول فسيجدون أقواس قزح ونجوماً تقود مجوس كلماتهم إلى جحيم القصيدة.
النهار الثقافي
الاحد 28 آذار 2004