أسوج...
في محاولة لجمع شتات الذات المبعثرة، اكتب وربما في محاولة لبعثرة هذه الذات. الكتابة في البدء تشبه نداء امرأة ذات جمال وحشي تُغري وتُغوي. الكتابة استبطان واكتشاف للذات والعالم وموقف منه. غير أن السكنى في المنطقة الأخطر من الكتابة، أعني بها منطقة الشعر، اغتراب وعذاب دائم ومتصل. الشعر هو مجاورة بركان على أهبة الانفجار بل ان الشاعر هو الانفجار ذاته:
"قلبه انفجار/ بفصل واحد طويل/ من البراكين" (على سبيل الهايكو) .
* كيف جئتُ الى الشعر؟
سؤال لم يسبق لي ان طرحتُه على نفسي، اذ ما على الشاعر الاّ ان يندغم بقصيدته، مثلما يندمل الجرح، ويذهب الى نهايات صمته: حتفه.
لكن في مسافة ما من الكتابة، لا بدّ من التوقف ملياً والنظر بشيء من الحنين الى الوراء، حيث ارض الشعر الأولى، المسكونة باندهاش الطفل وفرحه، والذي أفاق فوجد عند وسادته لعبة. الكلمات لعبة، لكنها لعبة قاتلة في أحايين كثيرة. الكلمات لها مقدرة ان تنفجر بين أيدينا. الكلمات قادرة على تفجير العالم برمته. فكم جميل لو ان القصائد تقود الشعوب.
هو حلم قديم لناظم حكمت، حين حلم بعالم يحكمه الشعراء والفلاسفة.
عاريَ القلب، جئتُ ارض الشعر. عاريَ القلب الاّ من إيماني وقصيدة اسمي، هذا الاسم الذي صرت انقشه على حجر بيتنا، مسبوقاً بكلمة "الشاعر". فقد كنت مفتوناً ومسكوناً بهذه الكلمة. كان الشاعر يعني لديّ كل ما له علاقة بالحلم وهو يمثل وهجاً سحرياً، نبوئياً، او كما كان اليونان يقولون: الشاعر واسطة بين السماء والأرض.
إذا عبر هذه الغلالة الغامضة التي تحيط بالشاعر وعالمه، وعبر قوام هذا العالم، ألا وهو الحب، ابتدأت علاقتي بالشعر.
كان ذلك مطلع فتوتي، حين يتوثب القلب متشمماً رائحة الطبيعة والأنثى، باحثاً عن موطئ جميل له، حيث في تلك السنوات او الأعمار، ليس من منبع للتفكير سوى القلب. فالقلب هو الذي يقود خطانا. هكذا نقع في القصيدة الأولى والمرأة الأولى.
أجمل فتاة في المدينة أحببتُ، وأجمل القصائد والكلمات، حاولتُ ان أقول. كانت أشبه بشرارة خضراء او نغمة انقدحت في الروح.
الآن لا يأتيني من تلك السنوات او الأمكنة، سوى حفيف الكلمات الأولى بين عاشقين غضّين واسطر تندرج في النسيان لكتب شعرية أنيقة ورسائل زرق مرتبكة، بُدّدت في الزمن من دون هوادة، قبل ان نُكمل كتابة اسمينا كعناق نرتشف فيه فاكهة الحنين في ضوء قمر عسلي.
هذه المرأة ذاتها، هي التي صارت تظهر في قصائدي، في ما بعد، بل أصبحت هي نفسها قناع نفسها:
"أنا أسطورة/ يكتبها اسم ليلى/ وليلى طيور تتضاعف كاسمها/ تضجّ في صدري" (من قصيدة "ابتعدت عن أسطورتي").
* مَن أنا من دون القصيدة؟ السؤال الجريح؟
مَن أنا من دون القصيدة؟ هذه القصيدة التي شدتني إليها بداية، أنواع شتّى من الكلمات، شعراً ونثراً، فما كنت ابحث عنه هو الكلمة المليئة. الكلمة الجميلة التي تُطلق أحصنة الخيال في مداها الأقصى وأفراس خيالي، وجدت ضالتها في مراعي جبران الساخرة، في نثره المتدفق كأنه شقيق الطبيعة بتعاقب فصولها وازدهارها. ركنتُ الى جبران ورومنسيته المعافاة، زمناً، كما وقعتُ في الوقت ذاته على كلمات نزار المتفجرة أناقة وسحراً، حيث الكلمة الأنيقة تُشعل حواس الفتى وتدير قلبه. هو الفتى الذي وجد في هذه الكلمات عوناً له على جس عالم المرأة بمفرداته المغرية الفائحة عطراً وهمساً حميماً.
لكن كلمات نجيب محفوظ تقود الوعي نحو مسار آخر. مسار يشق طريقه في صلب الواقع. ولشدة حرفية هذا الكاتب نجد أنفسنا كقراء أمام شخوص حقيقيين من لحم ودم، عكس الروايات الفاشلة التي يحنّط فيها كتابها الأشخاص الحقيقيين، كما في بعض الروايات التي لها سمة التسجيلية او الوثائقية، ويحركونها كمومياءات.
أحببتُ كتب نجيب محفوظ وعوالمه، الى درجة صرت استنجد بأقوال شخوصه واستعيدها في حياتي اليومية. فقد سيطرت عليّ كتبه بورقها الأسمر، بأغلفتها الكلاسيكية الموقعة من جمال قطب وقد صار أبطالها أصدقائي.
أعود الى السؤال الجريح: مَن أنا من دون القصيدة؟
استدرك فأقول: ليتني من دون قصيدة! اذ ما أشقّ هذه الحرفة، حرفة الشعر. حرفة تحترفها اليد والقلب وكامل الحواس، بل تحترب بها. فالشعر الذي هو نشدان سلام في معناه الأصفى والاعمق، يغدو في الواقع، حالة حرب الشاعر مع ذاته وقطعاً مع العالم. العالم الذي يتردى ويتبدى في كامل مثالبه.
يمضي الشاعر حتى آخر كلمة في دمه
عيناه في النجوم وفي ثيابه يعلق غبار الحياة اليومية. هذا هو الشاعر: ذات مشطورة، تكافح لردم الهوة الفاجعة بين واقع جحيم وحلم مستحيل وهو يدرك سلفاً عبث مثل هذا التصدي، غير انه يمضي حتى آخر كلمة في دمه!
أهو الفصام إذا؟ في مهنة على مثل هذه الدرجة من الخطورة، اي مهنة الكتابة التي هي مهنة الخطر ذاته، لا بد من الفصام والتشقق:
و"الأيام تذهب وتأتي، تدق عليّ بالسؤال:/ - ما الذي قبضت؟/ مُشفقاً أنظر لي - وبلا تشفٍّ - أحيل/ السؤال على: باسم المرعبي" (من قصيدة "الحياة" طبعة ثانية).
هكذا تصبح الكلمات ترميماً للصدع الهائل القائم بين السؤال والجواب. تصبح تأسياً حين لا ينفع الأسى بشيء، ولا عزاء حتى حين يُنحي الشاعر باللائمة على أناه الشعرية التي نسفت سلام أناه الاجتماعية وطمأنينتها. فالأولى باختيارها مهنة الخطر، حكمت على الثانية، اي الأنا اليومية التي تكتفي من الزمن والحياة بالقليل، حكمت عليها بالشقاء الى النهاية. فهل من رضا او هدأة لمن يضج دمه ب:
"أريد من زمني ذا ان يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
او: يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما ابتغي جلّ ان يسمى"
ما الذي يبتغيه الشاعر؟ ما الذي يكتبه؟
تاريخ الروح: هذه هي مهمة الشاعر. لقد انقضى الزمن الذي يكون فيه الشاعر لسان حال قبيلته او حزبه. الشعر ديوان الذات. صحيفة عذاباتها وآلامها وتطلعاتها. ما الشاعر، من دون الإصغاء للذات وانشغالاتها! وما الشعر، إذا لم ينبع منها ويعود إليها! ما من ذات معزولة عن العالم، فهذه حتى في اشد حالاتها اضطراباً وفصاماً ليست سوى وجه من وجوه هذا العالم، بل تعبير عن روحه، وفي المحصلة لا تكون الذات سوى مرآة له، او ربما يكون العالم انعكاساً لها.
ولكني أنا العالم، قالها شاعر هو ايميه سيزير.
واذا كنا قد ورثنا مقولة ان الشعر ديوان العرب، لان فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم كما يقول ابن خلدون، فلا بد ان نُقرّ اليوم بعد اندثار عوالم ونهوض عوالم جديدة بقيمها ومفاهيمها وبعد انحسار أهمية الإنسان كفرد وتوالي كل هذه الخيبات والهزائم، لا بد ان نُقرّ بأن الشعر هو ديوان الذات بهواجسها ونزقها وحكمتها. طبعاً فالشعر الذي يُعنى بما عدا ذلك لا مكان له سوى المتاحف وخزانات المؤرخين.
لكن التربية الشعرية المنحرفة والتربية الحزبية الصحيحة على حد سواء، تعلّمان الناس العكس. فالشعر الذي يعنى بالروح ويتخذ من الذات فضاء عالياً لها، تحتقره الذائقة الجماعية الباحثة عن الضجيج والهتاف في مباشرة يترفع عنها الشعر. لكن يا للمفارقة. هذا هو السائد الذي ساهم في تكريسه شعراء هذا النوع من الشعر، محطّمين الذائقة السوية التي كان يجب ان يتحلى بها الجمهور، قبل "تلغيمه" بخطابات نثرية بائسة متنكرة بإهاب الشعر.
كلما طفا نثر العالم وازدادت شراسته، انكفأ الشاعر الى داخله محتمياً بضوئه إزاء وحشة العالم وظلامه.
ملحق النهار
الأحد 25 كانون الثاني 2004