سئل أحد الأدباء الكبار, ذات مرة, عن النصيحة التي يوجهها إلى الأدباء الشباب, فرد بأن "نصيحتي لهم هي ألا يأخذوا بنصيحة أحد". ومثل هذا الجواب يشير إلى أن النصائح أو التوجيهات أو التعاليم لا تفيد في العملية الإبداعية, فهي كيمياء معقدة تتفاعل وتتشكل في دهاليز النفس المعتمة, ناهيك عن أنها تحتاج إلى جملة من المقومات والشروط والعوامل الذاتية والموضوعية التي لا يمكن اختزالها, بأي حال, إلى بنود وفقرات محددة بحيث تشكل الوصفة السحرية لأجل النبوغ في فن الكتابة. ويبدو ان أي محاولة لتوضيح هذا الفن الملغز والملتبس لا تشكل إلا مزيداً من الغموض. فالكتابة كما يقول ارنست همنغواي "عملية سهلة, غير أنها في الواقع اشق الأعمال في العالم" في حين يرى جورج برنارد شو في السياق ذاته "ان ملكوت الرب في داخلك, ولا بد من مشقة هائلة لإخراجه من أعماقك".
من هنا, فإن معظم الكتب التي تسعى إلى هذا الهدف, إن لم نقل جميعها, لا تقدم أجوبة ناجزة حول ماهية الكتابة وأبعادها وطبيعتها, بل هي في حقيقتها لا تعدو كونها مجموعة من التوجيهات والنصائح المتفق عليها مسبقاً, كأن ينصح المؤلف الكاتب الناشئ بالقراءات الكثيرة وأن يستفيد من تجربته في الحياة وأن يتمكن من اللغة وغيرها من النصائح التي تبقى في الإطار النظري الذي يصعب تطبيقه بسهولة, "فما إن نشرع في الكتابة حتى تتحول الأفكار وتتشوه ويصبح كل شيء زائفاً بسبب الكلمات" بتعبير بطل رواية "أمس" للروائية المجرية آغوتا كريستوف, فجذر الإبداع يكمن في نفس الفرد ولا أحد سواه يستطيع رعايته وتشذيبه وإبرازه. وحتى التحريض على فعل الكتابة لا يجدي غالباً, لأن الكتابة ضرورة ملحة تنبع من ذات الفرد كما يعبر الشاعر الألماني ريلكه: "إذا كنت تظن انك قادر على العيش من دون كتابة, فلا تكتب".
على رغم ذلك ثمة مقاربات كثيرة تسعى الى فك شفرة الكتابة منذ فن الشعر لأرسطو وحتى الآن, وهي محاولات تهدف إلى خلق حال من الألفة إزاء فعل الكتابة, كما هي الحال مع الكتاب الذي حمل عنوان "فن الكتابة: تعاليم الشعراء الصينيين" للناقدين توني بارنستون وتشاو بينغ الذي صدر أخيراً بترجمة د. عابد إسماعيل عن "دار المدى" (دمشق - 2004) والذي يشير الى صعوبة المهمة. ففن "الكتابة لا يمكن القبض عليه حتى بأجمل الكلمات... ولا يمكن الكتابة ان تعبر عن ماهية الكتابة لأنها تمثل أكثر من ذاتها. أنها علاقة جوهرية ورحلة روحية تربط بين الهاجس والفعل, الكلمات والموسيقى, الذات والعالم".
يحمل الكتاب خصوصية المكان الذي قدم منه. فعلى نقيض التعليم الغربي في فن الشعر الذي يتصف عادة بالصرامة والجدية, فإن الكتاب الصينيين الذين لا يقلون حرفية أكاديمية جعلوا آراءهم حول الأدب ذكية ومكثفة, ساحرة وعميقة, وهم يرون ان الرؤية المغلفة بنبرة روحية يمكن في الحقيقة ان تكشف النقاب عن المصادر المعتمة للشعر أكثر مما تفعله تلك التي تتصف بالدقة الصارمة, وهذه الروح مجسدة في صفحات الكتاب الذي جاء بمثابة هدية رقيقة وهادئة تهدف الى جعل القارئ شاعراً, وإن اخفق الكتاب في تحقيق هذا الهدف, إلا انه نجح في اصطحابه الى أرض القصيدة البكر ليحذره من أن "التابو الأول في الكتابة هو أن تمشي خلف الآخرين", منبهاً إياه: "إذا ظننت ان قصيدتك هي الكلمة الأخيرة في الموضوع يعني هذا انك لست شاعراًَ".
يتناول الكتاب الذي يمكن تقسيمه الى أربعة أقسام النواحي الجمالية والفنية ويختار نماذج تطبيقية في حرفة الكتابة وتحديداً في مجال الشعر الذي مثّل عبر تاريخ الصين المسلك الأوسع لتحقيق النجاح السياسي والاجتماعي. فالشعراء هم "مهنيو حرفة إلهية". ومن هنا, فإن الصينيين يعزون الى الشعر قوى خارقة, فهو "يقوِّم الخطأ, ويحرك السماء والأرض, الأرواح والآلهة". وليس هذا فحسب, بل ان هذا الصوت الشعري المقبل من مخبأ سري وعميق "يستطيع أن ينقذ حكومات متهاوية وجيوشاً ضعيفة/ ويمنح صوتاً لريح الفضيلة الإنسانية المحتضرة".
يفتتح الشاعران التاويان لو جي (261 - 303) وسيكونغ تو (837 - 908) هذا الكتاب بقصائد تعلم وتشرح في شكل جميل حرفة كتابة الشعر وتجمع على أهمية الشعر وقوته. ففي حين يرى الأول ان "الشاعر يبتكر حياة جديدة في الفراغ,/ ينقر على الصمت لكي يصنع صوتاً,/ يثبت المكان والزمان على صفحة من حرير/ ويسكب نهراً من قلب صغير", فإن الثاني يكتب "أحد ما خفي يسيطر على العالم". ويضيف: "في عالم القصيدة يكون الشاعر هو الخالق الخفي", والملاحظ ان هذه الآراء كتبت على شكل قصائد تأخذ القارئ في رحلة ساحرة الى متاهات النفس ومفاتن الخيال والطبيعة الجميلة بكل عناصرها وحيويتها وألوانها حتى ليحيل الى القارئ, وهو يقرأ هذه القصائد ـ التعاليم انه يسير في حدائق غنّاء ووهاد خضر في تضاريس الصين التي تتمتع بخصوصية المكان والعوالم والأجواء, فيستحضرها الشاعر باحثاً عن ينابيع المعرفة والحكمة الصينية الزاخرة بالميثولوجيا والرموز والدلالات مثلما يتبدى في تعاليم الحكماء والفلاسفة الصينيين, ولعل أبرزهم كونفوشيوس, ولاوتسه الذي عاش في أواسط القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. ويبدو من خلال صفحات الكتاب أن هذا الحكيم الصيني (لاوتسه) حاضر ليملي على الشعراء هنا مبادئ الفلسفة التاوية التي تكاملت على يده والتي تنص على أن "خير الإنسان يتحقق عندما يوائم حياته مع الطبيعة ويكف عن مناقضتها, وبذلك يكون حقق الانسجام مع التاو أو الطريق الكوني, والتاوي عموماً يتمتع بمحبة لا متناهية للكون ولكل ما يعيش فيه. وكل شكل من أشكال التدنيس أو التدمير هو أمر يعده التاوي معادياً ويجب الوقاية منه". ولعل هذا ما يسعى إليه الكتاب الذي تتراقص الكلمات على صفحاته بأناقة. فها هو أحد الشعراء يقول: "دائماً اترك فتات الأرز للفئران, وأعطف على الفراشات, حتى أنني لا أشعل شموعي", بينما يقول شاعر آخر وتحت عنوان "طرق لقتل منظر طبيعي": "اغسل قدميك بنبع صاف/ وجفف مئزرك فوق الزهور/ ابنِ بيتك قبالة الجبل/ واحـرق قيثـارتـك لكي تـشوي طائـر الكركي".
الى جانب ذلك, ثمة شروح فطنة وعميقة ومرحة وأقوال وتعليقات بليغة حول فن الكتابة عبر نصوص قصيرة لكتاب صينيين قدّموا خلال أكثر من ألف عام عصارة تجربتهم وخبرتهم. وعلى رغم ان بعض النصوص لا يتجاوز بضع جمل, إلا انه يستلهم التكثيف الموحي للقصيدة الصينية القديمة, كما نجد تعليقات تلامس تخوم القصة القصيرة والتاريخ من خلال وصفها حالات العشق والمآدب والفتوحات والمواجهات على قارعة الطريق التي كانت تجرى في العهود الضائعة للسلالات الصينية.
يقدم الكتاب بهذا المعنى خلاصة تجربة عاشها الشعراء الصينيون وخبروها. وهذه الخلاصة تقدم في قالب فني جميل فتحت عنوان "إحراق الشعر" نقرأ: "أنّى رأيت عملي القديم أريد أن أحرق القصائد التي اكره, مي ياو تشن يهنئني قائلاً إنك تحرز تقدماً". وتحت عنوان "الطريقة اللماحة" نقرأ بيتين حول الأسلوب غير المباشر كأن نكتب حول الأوراق المتساقطة: "من الصعب على النمل العائد ان يجد أوكاره, ومن السهل على العصافير ان تجد أعشاشها". وللسرقات الأدبية - كما يبين الكتاب - ثلاثة طرق: الأول يسرق الكلمات, الثاني يسرق الأفكار, الثالث لا يترك أثراً, وثمة أمثلة مدرجة حول كل طريق.
وعلى رغم هذه اللمحات الذكية والطرائف والقصص الممتعة, إلا أنها تستطيع أن تدخل القارئ الى ذلك العالم السري للكتابة, وثمة حكاية مدرجة في الكتاب تختصر فحواه, وهي حكاية شعبية عن شاب يعمل لدى سيده يريد ان يتعلم مهارة يكسب منها قوت يومه, هذا السيد يعلمه جميع الطرق التي يذبح ويسلخ فيها التنين. وبعد بذل جهد كبير والكثير من النفقات يعود الشاب الى أبيه ويخبره بشموخ عن مهارته الجديدة, ويرد أبوه: "عظيم, ولكن لدي سؤال واحد: أين يمكنك أن تجد تنيناً؟", والشعر في العرف الصيني "تنين" لا يمكن القبض عليه!
الحياة
2004/05/21
إقرأ أيضاً:-