في الأمس عندما مات إدوارد سعيد، تعلمتُ أن أقرأ الدموع. فقد علّمنا هذا الكاتب كيف نقرأ الأدب والفن والثقافة، لكنه ترك الدرس الأخير ليومه الأخير. العيون تقرأ العيون، والدمع يقرأ الدمع. ونكتشف في هذه القراءة أن الحياة كتاب مفتوح على الحياة، وأن الكتابة تعلن استمرار الحياة داخل الموت نفسه.
في الأمس عندما مات إدوارد سعيد، اكتشفتُ كيف صار الجسد الذي رقّ، جزءاً من الأبجدية التي كتبها. الجسد حروف وكلمات ورحلة في المعاني وسفر في المعرفة. لم يستسلم إدوارد سعيد أمام الموت. قاومه بالكتابة والنضال والإرادة. وحين أغمض عينيه لم يغمضهما يأساً بل رأفةً. هو أشفق على الموت وقرر أن يذهب من أجل أن يثبت له أن معركته مع الحياة باطلة. فالكاتب، حين يموت، يستمر في الحياة داخل العيون التي تكتب بالقراءة، وتصنع المعرفة والخيال.
في الأمس، عندما مات إدوارد سعيد سقط الغصن الأجمل في زيتونة فلسطين. غصنٌ وُلد في حي الطالبية في القدس عام ،1935 وعاش في القاهرة وأقام في ضهور الشوير، وكانت نيويورك مكان عمله وإبداعه. هذا الغصن المتلألىء معرفةً وذكاءً وألمعيةً، هو الأجمل. لأنه كان فلسطينياً باختياره. فقد اختار فلسطين لا لأنها وطنه بل لأنها الضحية. واختار العرب لا لأنهم قومه بل لأنهم يواجهون ظلم القوى الاستعمارية وظلام الديكتاتوريات العاتية. صار فلسطينياً عندما تحولت فلسطين عنواناً للحرية. وصار عربياً لأن الفكرة العلمانية التي كرّّس لها الكثير من أعماله، تعاني الحصار في أرض العرب المحاصرَة.
في الأمس، عندما مات إدوارد سعيد، ظهرت صورة المثقف كما رآها. فهذا الأكاديمي الذي درس الأدب ودرّسه، اكتشف أن المعرفة سلاح وقوة، وأن معركة المثقف هي أن يضع معرفته وعلمه وقدراته في خدمة الحقيقة، وفي مواجهة السلطة.
المثقف الحر، المستقل، النقدي، الذي لا يحترف سوى الضمير ولا يخضع لأي سلطان سوى سلطان العقل والمعرفة والحق.
نفتخر بإدوارد سعيد، ويحقّ لنا أن نفعل. فلقد خلق هذا المثقف حيّزاً للثقافة العربية في العالم، وحرّرها من إقليميتها وحارب عناصر انغلاقها. نفتخر به لأنه استطاع أن يصل الى قلب الثقافة العالمية، ويكون أول مثقف عربي حديث يستطيع أن يكون فاعلاً ومؤثراً.
لا يمكن تلخيص إدوارد سعيد بمقالاته السياسية. فهذه كانت تعبيراً عن مواقفه والتزاماته الآنية. عالمه الشاسع يمتد من نقد الاستشراق الى نقد الثقافة والإمبريالية، ومن جوزف كونراد الى البحث عن البدايات، ومن الموسيقى الى قراءة الأدب العربي المعاصر. كاتب موسوعي ربما كان الى جانب صديقه بيار بورديو آخر أكبر المثقفين في الغرب. كلاهما اعتبر الثقافة سلاحاً في وجه الظلم، وكلاهما قام بنقد جذري للثقافة السائدة.
نفتخر به لأنه ذهب الى الغرب وحقق إنجازاً أدبياً وعلمياً كبيراً. لكننا ننسى أن الأهم من الذهاب كان قرار العودة الى الوطن. بعد هزيمة حزيران ،1967 قرر إدوارد سعيد العودة، وكان في قراره ذاك الفلسطيني الأول الذي يمارس حق العودة على المستوى الرمزي.
لم تكن عودته بحثاً عن الهوية لأنه ينتمي الى فكرة الهويات المتعددة ويعيش على تخوم أكثر من ثقافة ويسعى الى عالم متعدد الانتماء والثقافة. عودته كانت رمزاً لارتباط البحث عن الحقيقة بالدفاع عن الحق. لذا لم يفهم الكثيرون معنى انتماءاته المتعددة التي صار لها اسم واحد هو فلسطين، مثلما لم يفهم الكثيرون معاركه الفكرية والثقافية والسياسية.
كتب إدوارد سعيد كثيراً عن المنفى، لأنه كان يسعى الى تحرير المنفيين ومقاومة الظلم. لذا وُلدت فلسطين في العالم تحت قلمه وصارت وطناً لكل المنفيين واللاجئين والفقراء والشرفاء. كأنما جسّد في سيرته وأعماله الوجه الآخر للوطن. هناك داخل السجن الإسرائيلي كان محمود درويش وإميل حبيبي يصوغان لغة الوطن. وهنا في المنفى كان غسان كنفاني يتلمس حكاياته. وهناك في أميركا كان إدوارد سعيد يبنيه في وصفه ذاكرة الجريمة وحلم العدالة.
بإدوارد سعيد اكتملت فلسطين وصارت وطناً يتسع لجميع الأحرار في العالم. مثقف جمع النقاء الى النبل، والشجاعة الى الحكمة. عاش بين اسمين ولغتين وعالمين، وكان يترجمهما ويكتب فيهما اسم ذاك الوطن الضائع، وتلك المدينة المسوَّرة بالحقد، ساعياً الى بناء قدس الإنسان، حيث المقدس الوحيد هو الألم الإنساني والتوق الى الحرية.
ثلاثة أصدقاء التقوا في أميركا، كان إدوارد سعيد أصغرهم وأكثرهم توتراً. الأول إبرهيم أبو لغد. ولد في يافا ومات في رام الله ودفن على ضفة بحر المدينة التي غادرها شاباً وعاد إليها كي يمتزج بترابها. الثاني من باكستان ويدعى إقبال أحمد. قاتل في الجزائر ومن أجلها، وكتب وحاضر في أميركا دفاعاً عن فلسطين والعالم الثالث، ثم عاد الى وطنه كي يموت فيه. الثالث إدوارد سعيد. ولد في القدس وأنهى دراسته الثانوية في القاهرة وعاش في نيويورك وأشعل الإنكليزية بأدبه ونقده ورؤيته وفلسطينه.
كان إدوارد أول العائدين الى بلاده وثقافته، وكان الأكثر رؤية وجذرية ونقدية وتوقداً ووجداً. أحبّ الحياة وهي أحبته. أعطاها وهي أعطته. وكانت الأمكنة كلها له لأنه كان "خارج المكان".
الحبيب، الجميل، النزيه، المتوقد. أغمض عينيه في نيويورك وقال للمرض أن يحلّ عنه لأنه ذاهب الى حيث يموت الأطفال والنساء والرجال بنيران العنصرية الإسرائيلية التي لا ترتوي من الدم.
في خضمّ اللهيب الذي ضرب الجسد وشلّه، كانت عيناه طليقتين. يفتحهما على الأفق ويغمضهما على الأعماق. كانت الكتابة الأخيرة بأحرف الضوء والعتمة.
وكان صديقي إدوارد يعود الى الأول. الى حيث يستمع الى نداء أمه داعياً إياه الى معانقة الموت.
ملحق النهار الثقافي-
ليس في مقدور أي كلام تكتبه أقلام أن يعبر عن الخسارة الكبرى التي نزلت على الفكر الإنساني بعموم، وفكرة الحرية بخصوص، عندما غاب عن دنيانا ذلك المبدع الحقيقي والمتوهج إدوارد سعيد. وإدوارد سعيد هو بالاختصاص أستاذ أدب مقارن في جامعة كولومبيا، لكنه بالالتزام مقدسي الهوية، ومع أنه لم يعش كثيرا في فلسطين، فإن قضايا وطنه سافرت معه إلى حيث ذهب، وانتقلت بجزء كبير من أثقالها معه عندما هاجر واستقر في نيويورك ويعلم، وأهم من ذلك يقاتل ويستميت.
وكتب إدوارد سعيد عن قضية الاستعمار و"المستشرقين" وتجلياتهما في الآداب والفنون الغربية، وذلك هو عمله الجامع عن "الاستشراق"، وإذا هو ينتزع اعتراف العالم كله من دون منازع بأن القضية التي طرحها حق وصدق، دالة وكاشفة.
وكان إدوارد سعيد محاضرا مؤثرا في دفاعه عن حقوق أمته وشعبه، وكان فيما كتب وقال نفاذا إلى الضمائر، مالكا لزمام التعبير، قادرا على جلاء الفكرة بسحر الكلمة، وكذلك وصل قوله وصوته أشعة من التنوير، وهزة تدعو إلى يقظة.
وتعرض إدوارد سعيد لحملة ضارية شنتها عليه جماعات مؤيدة ل"اسرائيل"، أزعجها تأثيره، وظهرت لها ردود فعل تأثرت بما يكتبه ويقوله، ولم توقفه الحملات، فهو في صميم قلبه طالب سلام، شرط أن يكون سلاما حقيقياً مؤسساً على العدل وقابلا للبقاء.
وكان إدوارد سعيد أول من لمح الخلط الواقع في الصف الفلسطيني وشخصه، وشاركنا معا في اجتماع خاص في جنيف سنة، 1988 هدفه بحث الخيارات المطروحة على القيادة الفلسطينية، مع لحظة تعرضت فيها لضغوط شديدة لكي تقدم ما يطلق عليه "تنازلات"، وكان مقررا أن تنقلنا طائرة خاصة من جنيف الى تونس لقضاء يوم واحد مع القيادة الفلسطينية بكافة فصائلها، وحين جاء موعد السفر أسر إليّ إدوارد بأنه سوف يعود مباشرة إلى جامعته في نيويورك ولن يذهب معنا إلى تونس، واستوضحت أسبابه بينما قضية عمره على منحدر، وكان رده باختصار أنني سوف أفهم موقفه أكثر عندما أذهب إلى تونس وأرى بنفسي.
ثم توافقنا فيما بعد بغير اتفاق على ردة فعل إزاء موقف واحد من اتفاقية أوسلو، وشرحت موقفي لأول مرة في محاضرة في الجامعة الأمريكية، لكن إدوارد في أمريكا كان يتحدث إلى العالم، فقد رفع صوته صافيا، متصاعد الإيقاعات، معبرا بحيوية خلابة، شاهدا بالحق على دور الموقف والمثقف، وحين يختار المعلم أن تصل ذخيرته إلى العالم الأوسع بسرعة دون انتظار التأثير البطيء في المحيط الأكاديمي، فهو يريد أن يلحق الحوادث ويلامس المستقبل، وكذلك يسبق موتاً يعرف أنه في انتظاره، وكان ذلك مشهدا جليلا من أي منظور تقع عليه عين أو يستشعره وجدان.
فمنذ سنوات طويلة كان إدوارد يعرف انه مصاب بسرطان الدم، وكان يقاوم ببسالة، يقعده المرض مرات، لكنه لا يلبث أن يقوم رافعا قامته بكبرياء، مجلجلا بصوته، كاتبا كلمته بتدفق مفكر، ومناضل، وفنان، وقبل وبعد كل شيء بكرامة إنسان، كأكرم ما يكون الإنسان، بحثا عن القيمة والمعنى والمعدن والجوهر في حياة الإنسان، وحواره المتصل مع الكون والحياة والخير والجمال.
وفي أوائل صيف هذا العام، كان إدوارد سعيد مدعوا لمحاضرة في الجامعة الأمريكية، ولقيته قبلها في الفندق الذي ينزل فيه، وأحسست به مرهقاً، وصحبته إلى محاضرته في قاعة "ايوارت" (بالجامعة الأمريكية)، وبعدها كان مستنزفا سواء بما لقي من حفاوة، أو بما بذل من مجهود، وفي اليوم التالي جاء ضيفا علينا ليوم راحة في بيتنا الريفي ومعه قرينته المحبة والحانية "مريم"، وقضينا يوما كاملا، ورغم أنه كان متعبا، ما أثار عندي إحساسا غامضا وحزينا بأن النهاية تقترب، فإنه مع ذلك ظل طوال الوقت يتكلم ويسأل ويناقش ويحاور، كأنه يريد أن يكون آخر نفس في الحياة، حياة في قلب الحياة!
وعرفت قبل أسبوعين أن إدوارد دخل المستشفى في نيويورك، وحاولت أن أتصل به، وكان لسوء الحظ في غرفة الإنعاش، وأحسست بانقباض يمسك أعصابي ويشدها، فقد راودني إحساس بأن أجراس السماء تدق.
وحين وصلني نبأ رحيله في نيويورك، وبيننا بحر ومحيط، تذكرت بيت الشعر المأثور عن المتنبي:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت منه بآمالي إلى الكذب
ومن سوء الحظ أنه لا الأكاذيب ولا الحقائق، ولا الشعر، ولا الدموع تكفي للتسليم بأن المقادير شاءت وحكمت، وجاءت وذهبت ومعها إدوارد سعيد إلى عالم بعيد.
ملاحظة: بقي أن أسجل أنني لا أحب كتابة المناسبة تهاني كانت أو تعازي، لكني في هذا الموقف أجد نفسي أكتب وفيما أكتب نوع من الاعتذار، عن تقصير الصحافة المصرية في نشر خبر رحيل إدوارد سعيد، وفي الحقيقة فإن ذلك التقصير خطأ مهني وفكري وإخباري لا يغتفر، فرحيل رجل مثل إدوارد سعيد لا يجب أن يذكر كأنه حدث عادي مما يجري كل يوم ثم ينسى في اليوم التالي، ولست أعتذر فقط، ولكني أطلب المغفرة للمهنة.. ومن قلبي!
(الخليج) 2003-09-28
دانيال بارينبويمب
(اسرائيل)
لعل أول ما يتذكره المرء عن ادوارد سعيد هو اتساع دائرة اهتماماته. فهو لم يكن متمرساً في الموسيقى والأدب والفلسفة والسياسة فحسب، بل كان احد هؤلاء الأشخاص القلة الذين أدركوا المتشابه من المنظومات المختلفة والفرق بينها، لأنه كان يتمتع بفهم غير تقليدي للروح الإنسانية، ولأنه عرف ان المتوازي والمتباين من الأمور ليسا بالضرورة متناقضين. رأى الموسيقى أكثر من مجرد مجموعة أصوات، وأدرك ان كل معزوفة هي نظرة خاصة الى العالم. وتكمن الصعوبة في ان هذه النظرة الخاصة غير قابلة للترجمة بالكلمات، لأنها لو كانت كذلك لانتفت الحاجة الى الموسيقى. ولكنه في الوقت نفسه اقر بان عدم القابلية تلك لا تعني انعدام المعنى.
وسمح هذا الفكر الفضولي لصاحبه بان يبصر لا وعي الناس، ولا وعي المبدعين. أضف الى ذلك كله انه كان يتمتع بشجاعة الكلمة التي لا تعرف حدوداً، وهذا ما جعله يحصد إعجاب الكثيرين وغيرتهم وعداواتهم. رفض عدد كبير من الإسرائيليين واليهود انتقاداته ليس للحكومة الراهنة فقط، وإنما لبعض العقليات التي استقاها من أفكار الإسرائيليين وتصرفاتهم، لا صيما غياب اليقين بان حرب استقلال اسرائيل عام 1948 التي منحت هوية جديدة لليهود من السكان، هي نفسها التي كانت انهزاماً عسكرياً بالنسبة الى غير اليهود من الفلسطينيين، وكارثة نفسية عليهم. وبناء عليه انتقد عجز القادة الإسرائيليين عن اتخاذ الخطوات الضرورية التي يجب ان تسبق أي حل سياسي. إما العرب فكانوا وما زالوا رافضين لتقبل تعاطفه مع التاريخ اليهودي، حاصرين أنفسهم في دور تبرئة الذات كلما جاء احدهم على ذكر عذابات الشعب اليهودي.
وكانت خاصية ادوارد سعيد تكمن في قدرته على رؤية الأوجه المتعددة لأي فكرة أو حادثة، ونتائجها الحتمية، إضافة الى المزيج الإنساني والنفسي والتاريخ (حسب الحالات) وكل ما يشكل المعطيات "ما قبل التاريخية" لهذه الأفكار والأحداث. كان احد القلائل الذين كانوا دائماً على دراية بان المعرفة هي الخطوة الأولى باتجاه الفهم. ولطالما بحث في ما وراء الفكرة، وابعد مما تبصره العين، أو يتناهى الى الإذن. كل تلك الميزات دفعته معي الى "ويست ايسترن ديفان" الذي يشكل منتدى موسيقياً للعرب واليهود ليتعلموا معاً أصول الموسيقى وتفرعاتها. خسر الفلسطينيون احد ابلغ المدافعين عن قضيتهم. وخسر اليهود عدواً، ولكنه عدو منصف وإنساني. أما أنا فخسرت رفيق روحي.
الحياة 2003/09/27