أعادت مجلة اللموند الفرنسية عقب الحرب علي العراق نشر مقالة سجالية لأمبرتو إيكو بعنوان (من يقرر بأننا متفوقون) كان قد كتبها إيكو حول أحداث أيلول (سبتمبر) قبل عامين، وإن نشر المقالة هذه الأيام له دلالة متصلة بما يجري في العراق، فمن الواضح أن هذه المقالة قد جاءت بعد الجدال الذي دار في الثقافة الغربية حول جملة برلسكوني الشهيرة عقب أحداث منهاتن بـ أن الحضارة الغربية متفوقة علي الإسلام، وتحت ضغط النخب المثقفة في الغرب التي احتكمت إلي انثربولوجيا الثقافة الغربية، وهو علم الغرب بلا منازع، الذي يقر بأن كل نتاج هو نتاج ثقافي بمعزل عن القيم والمعايير، لا بل أن تنوع القيم والمعايير الثقافية يحرم أية ثقافة من السيادة والتفوق علي الثقافات الأخرى، فقد انسحب برلسكوني وتراجع عن جملته. ولكن إن نحن صدقنا خلاصنا من دونيتنا وصدقنا تفوقنا بموازاة الحضارة الغربية طبقا إلي الانثربولوجيا الغربية نكون قد أغفلنا حقيقة مهمة من حقائق التاريخ، ذلك أن التفوق أمر لا يمكن إنكاره بأي حال من الأحوال، وهذا ما جعل إيكو يبحث عن ثوابت ومعايير حتى في الأنثربولوجيا الغربية كي يقرر من خلال التاريخ، تفوق عنصر من عناصر الثقافة ودونية بعض العناصر من الثقافات الأخرى، وتفوق بعض الثقافات ومنها الثقافة الإسلامية في مراحل معينة من التأريخ ودونيتها في المرحلة الراهنة، مثلما تحدث أيكون عن دونية الثقافة الغربية أزاء الثقافة الإسلامية في العصور الوسطي دون أن يشعر بهذا العار الذي يصفه برونتير بالعار القومي حين يتكلم المرء بخجل عن تخلف أمته وجهلها.
إن الانتقال من العناصر المفردة إلي البنية الكلية للثقافة، ومن الانتقال من البرادم المتصل إلي البرادم المنقطع نسبة إلي إيكو هو الذي يحدد تفوق الثقافة الغربية والحداثة الغربية والغرب أيضا علي دونية المجتمعات اللاغربية والدكتاتوريات اللاغربية والثقافات والأفراد أيضا، وهذه الدونية في نظري هي في غاية الأهمية، وذلك لأنها صحيحة لا بالمعيار حسب، إنما حتى بالنظر المجرد أيضا، ولا سيما إذا أغفلنا أن جل المثقفين الغربيين والنخب السياسية الغربية كانت تتحدث عن الحداثة بوصفها أسلوب حيات (نا )، وحياتنا هنا هي حداثت (نا)، والـ (نا) هنا هي أمر ضروري طالما أن كل غربي يعي وعيا كاملا إلي أية درجة له الحق بالحديث باسم الحداثة الغربية، التي أصبحت منذ نهاية عصر الأنوار لا غربية حسب، إنما هي حكر علي الغربيين، دون النظر إلي أن هدف الحداثة الغربية بالأساس هو هدف كوزموبولبيتاني طورته ونمته حركة التنوير الغربي في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن حقنا أن نتسائل كيف انتهي هذا المتخلل الجذري في الثقافة الغربية إلي تعريف الثقافات اللاغربية ومماهاتها بعناصر مفردة، معزولة عن البنية الكلية للثقافة تحت موضة من الجنون وانعدام الثقة والعنف غير المبرر؟ وسيكون هنالك أزاء كل اجتياح اكتئاب وأسي والتصاق بالعرق والإرث المهجور والرغبة بالموت والعنف، فالهجوم الأصولي كان هجوما بربريا وشاذا ومنحرفا ضد ثقافة وحداثة تشكل جزءا مكونا من مكونات ثقافتنا، غير أن هذا العنصر البارز والذي يمكننا أن نلتقطه بسهولة هو العنصر ذاته الذي يعرض الثقافة المتفوقة لمظاهر الزعزعة والتقويض، وسيكون محالا علينا إن لم ننتبه للمزايا العبقرية لأمبرتو إيكو أن لا يقودنا هذا الأمر إلي التفكير بمهمة العالم المتفوق، وبإنجاز مهمته بأكملها، وبالحداثة الغربية، وبإنجازها لمهمتها بعيدا عن الإدارة النفعية المقززة التي ستنتهي لا محالة إلي العنف الذي لا يختلف بشيء عن العنف الأصولي أبدا، وهو العنف الذي جاءت الحداثة والحداثة الغربية بالأساس لتدينه، ونكون قد عبرنا اللحظات التاريخية القائمة علي العنف ـ في الجهاد أو في محاكم التفتيش ـ التي أحيا إيكو ببراعته روحها التهكمية في مقالته، بشرط أن نعترف أن هذه الحداثة كانت وما زالت الجدوى الوحيدة لمجتمعات عاشت تحت قمع الدكتاتوريات المتواطئ معها من قبل الغرب أكثر مراحل انحطاطها وفراغها وخوائها الأخلاقي، ومع أن هذه المجتمعات ـ وهذه حقيقة ـ لم تكن رافضة بعمق للحداثة الغربية، ولا للمدينة الغربية، ولا حتى في حدود الحداثة والتمدن القصوى والتي تعرض أرثها للزعزعة، إنما وجدت نفسها وقد أعادتها سياسة الغرب المتواطئة بعنف لا يرحم إلي هويتها الثقافية والأثنية والعرقية، وقد أدركت أن الغرب فشل في كونيته الإنسانية، وفي عالميته، وحول الحداثة إلي نزعة عسكرانية مفرطة في المجتمعات اللاغربية، وأنانية تجارية تجاهلت كليا ما جاءت الحداثة بالأساس لإنجازه.
ولم تتبين النخب المثقفة اللاغربية هذا الأمر حسب، إنما ظهر لدي النخب الغربية بجلاء ووضوح كليين، وقد وقفت النخب الغربية ذاتها متقززة من القوة الجامحة للسياسيين المحترفين في بدانها، وجشع إمبراطورياتها وعدم انضباطها، وإن هذا الانشقاق قائم في الغرب ذاته وبين النخب الغربية ذاتها وإلي اليوم، بعيدا عن النزعة التقليصية التي أرادها إيكو والتي لم تستطع مزاياه العبقرية تجاوزها، وذلك باختزال الصراع برمته بين عالم متحضر حافظ علي فائقيته الجوهرية وثرائه وبين مجتمعات وقفت عند بدائيتها وحتميتها.
لقد وصلت مقالة إيكو مرحلة من التجريد بحيث أنها عزلت الضغوط التاريخية والسوسيولوجية من أجل الاحتفاظ بثوابت عامة، تؤكد هذا التفاوت، وتنمي التصورات الضيقة والخانقة للعرقية المركزية الغربية، دون أن يدرك أن العودة إلي الإرث حتى منتصف القرن الماضي لم يكن هو الحلم عند أكثر المثقفين العرب ذيوعا، إنما أوروبا كانت هي الحلم، وقد وقفت النخب المثقفة العربية مع الغرب منذ غروب القرن التاسع عشر طامعة بالحضارة والأمن والحداثة، ولم يكن الإسلام بعيدا عن تجربته التاريخية، فمصادر السلطة الإسلامية قد تنوعت ولم تشكل السلطنة التركية تطورا دينيا في حسها الإمبراطوري، إنما سعت النخب المثقفة المسلمة في ذلك الوقت إلي موائمة الشرائع والأصول مع نظام المعرفة القادمة من الغرب وبشكل مثيودولوجي كامل، وهو ما طالب به كاتب جلبي وبرتف باسلار، ومن ثم محمد عبده الذي طبق جوانب الحداثة الفكرية الغربية بشكل براغماتي علي الفكر السياسي في الإسلام، فلم يكن الإسلام ثيوقراطيا كاملا كما كان ماسنيون يقول إنما كان ثيوقراطيا لائكيا، وهذا ما جعل جاك بيرك يعتقد بأن الإسلام سيندمج في النهاية مع الحداثة الغربية، ولكن ماذا حدث؟
لقد وقفت النخب المثقفة في مجتماعتنا مندهشة أمام تقزز الغرب الصريح والواضح، ووقفت عاجزة أمام تصور الغرب عن حداثته بوصفها قوة للسيطرة وللهيمنة، وبوصفها إقطاعا، أو سلطة إما بالدفاع عن معني معين وفرضه، أو بمصادرة المعني لغايات ومنافع قومية. لقد راعتهم سياسات الاحتكار والنفعية التي شجعت أقلية حضرية متطوعة عن الغرب لترويج حداثة مائعة في الثقافة العربية، وشجعت نمطا معقدا للحداثة في مجتمعات شفاهية وبدوية دون حدود، وبدلا من حوار الحداثة وإثرائها كما كان محمد عبدة ولطفي السيد وقاسم أمين أصبحت الحداثة منقولة ومترجمة، وغدت عقبة أكثر صلابة علي تطور القيم والسلوكيات الأخلاقية وهذا هو الفراغ الذي أحدث العنف الأصولي، فقدمت الأديولوجيا الدينية نقدا جذريا للغرب دون أن تستعير من الغرب جهازه الاصطلاحي أو أطره الابستمولوجية، وقد ألفت هذه الحركات جملة سياسية متسقة انطلاقا من تمثلها للفراغ الذي أحدثه الغرب في العالم الإسلامي. فقد كانت النخب التي طالبت بالاستقلال هي أكثر النخب إيمانا بالحداثة الغربية، وحين وقفت بوجه الغرب بمطالبها العنيدة بحداثة سياسية، لم تقف بوجه التنوير الغربي ولا الحداثة الغربية، وكل تحديد من وجهة نظري خارج هذا التحديد يفيض عن الإطار إما بإسرافه المفرط أو بنقصه الفادح، ذلك لأن هنالك هوة واسعة بين واقع الحداثة وبين تمثلها ثقافيا واجتماعيا والذي يغطي قارة كاملة من الأفكار. ولذلك فإن نقد الثوابت الذي تحدث عنه إيكو أمر يجب تبينه وهو أمر مطروح بعنف علي النخب المثقفة، ولكن لماذا نجد كل مثقف غربي حين يتناول الثقافة اللاغربية يحاول أن يعلي بالمقابل قصر الحداثة الغربية بحجارة متعددة الألوان، وكأن هذه الثقافات لم تكن يوما ولو جزئيا من الثقافة الغربية بعد أن استعارت من الغرب ثقافته وأجهزته الاصطلاحية والفكرية، بل أن كل مثقف حين يتحدث عن الثقافات (اللاغربية) ينطبق عليه ما قاله الفارس جوبير لماكسيم دوكومب في القرن التسع عشر (إن الاشتغال علي الشرقيات دون رؤية الشرق هو أنك تصنع حساء الأرنب دون أن يكون لديك أرنب).
إن هذه المحاججات تعبر عن قوة الظلم والشناعة وفقدان الضمير، لأنها تقلصنا إلي الحدود الضيقة (نحن والدكتاتوريات والحركات الأصولية الجامحة) وتجعلنا ـ جميعا ـ بالمدافعين عن الحدود الهرطقية للعالم القديم، وإن أية مطالبة بحقوقنا في الحداثة والديمقراطية سترد الغرب مباشرة إلي الصورة التي ألفوها عنا والتي أفرغوا كل أشكالها في قالب الاستبدادية والهذيان، وإن ما يجعل هذه الاطروحات مضطربة ذلك لأن الغرب لم يجد المطالبة هذه المرة من داخل العالم الإسلامي، إنما ظهرت الحركات الأصولية كممزق ومطالب مفروض عليه من داخله، وإن هذا الخصم الخطر لا يملك أسلحة متكافئة، ولم يكن جيشا، إنما هو المنبوذ والمهاجر والذي قنع وجهه بالكاغول الإرهابي والذي حذر منه أولفييه كاريه منذ عشرين عاما.
إنها شعوب محتدمة وغير خاضعة، ولا يفسر مقدار العنف غير العادي في مجتمعاتنا سوي هذا الفراغ الذي أحدثه التحول التاريخي الكاذب للحداثة في عالمنا، لأن الحداثة الحالية حبست مجتمعاتنا داخل أشكالها الميتة من جهة، ومن جهة أخري حررتها للدخول إلي الطريق الموصود، مجتمعات محتدمة وغير خاضعة بسبب الحداثة المهلهلة التي جاءت نتيجة لتوطئ نخب جاهلة مع القوة الغربية الجبارة والتي تركت هذه المجتمعات في منتصف الطريق إلي الحداثة، وهي ممنوعة من العودة وممنوعة من الوصول، واستبدلت الحداثة هرطقتها الدينية بهرطقة اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولم تستطع الدكتاتوريات أن تجر هذه المجتمعات الصاخبة والعنيدة إلي نهايتها، ولم يرغب الغرب بمساعدة الديمقراطية والعلمانية من الوصول إلي الحكم، بل فعل الغرب كل شيء من أجل مفاقمة التوتر، وذلك لزعزعة تكويناتها الاجتماعية والثقافية والسياسية.
مما لا شك فيه هنالك شك فاضح هو الذي يغذي مشاعر الإنكار ومشاعر الخوف داخل الحضارة الغربية، والغرب لا يشكك بنفسه فقط إنما ينتابه الوعي بنهايته الممكنة وقابليته علي الانطفاء، وهو يعيش هذا الدوار منذ شبنغلر، فلماذا لم تكن الحداثة هي هذه الهزة المتقددة للكوننة والتي طالب بها بوستل وبودان قبل قرون، لماذا لا تكون الحداثة هي النظرة القائمة علي العطف الإنساني والتسامح بعيدا عن مظاهر القوة والصلف العنصري والعناد المقزز، والتي من خلالها يمكننا أن نطرح وللمرة الأولي الظلام المنفر عن مجتمعاتنا التي ثقبتها الحروب والفوضى والمخاوف والهذيان، وجعلت منها الدكتاتوريات بؤرا للفساد المعنوي والروحي والأخلاقي.
وأخيرا علينا أن لا نغفل حقيقة هامة: وهي سيادة الحضارة الغربية طبقا إلي الراهن، ليس هذا حسب، إنما هي الحضارة الوحيدة التي لها الإمكانية علي تحقيق مظهر واسع لإنسانية كاملة، ولكن هل تبذل الحضارة الغربية الجهد الخارق في تجاوز تمركزها العرقي، وتجاوز اللامعني المحتمل للتاريخ، صحيح إن التاريخ الكوني غير موجود، ولكن الغرب هو الذي أراد صياغة العالم في كونيته المحتملة، فسقط في فخ تفوقه، في الفخ الذي سقطت فيه مقالة إيكو الموسوعية والتي كانت موسوعيتها علي حساب إنسانيتها، علي الرغم من إطلالتها الحيوية علي الثقافات، لكنها سقطت في لامبالاتها العاطفية، وفي اطرادها. و رغم عبقرية إيكو، رغم ذكائه المتقد، رغم مقدرته الهائلة علي التمثل الفكري، رغم فخامة مقالته، رغم روحها، رغم أسلوبها، رغم غرابتها المدهشة، رغم صياغتها المعجمية، رغم سخريتها وتأثيرها، إلا أنها بقيت ناقصة ، ناقصة في فهمها وانضباطها، بيد أنها أفضل بما لا يقاس من مقالات ملهاتية كتبها كتاب متعصبون، وبإقرار صريح بفوريتهم حين يتحدثون عن الشرق المشاكس والجامح والزائد عن الحاجة، الذي لا يشبه سوي (دك القذر) في أعمال ريتشارد برتن.
القدس العربي
2003/08/19
إقرأ أيضاً: