منذ ان رأيت الذكورة تحتل المشهد - مشهد الحياة - وأنا ابحث عن نفسي - كأنثى - فيه فلا أجدها. فإذا محصت في اللغة لم أجد الأمر مختلفا، ذلك ان "المذكر" صار هو "الجنس المعياري" فيها. إذ نتحدث بداهة ودون ان يرف لنا جفن عن "مثقف" و"قارئ" و"فنان" و"مبدع" و"شاعر" و"ناقد" و"أستاذ" و"طالب" و"مواطن" و"سياسي" و"رجالات حكم" و"رجالات أدب وفكر" و"شعراء فحول" و"رابطة كتاب" و"نقابة مهندسين" و"أطباء" و"محامين"... و"آخر"..
وقد استدعى فورا وجذريا ان يعمل "الجنس المعياري" المذكر على محو "الأخرى" المؤنث محوا منهجيا، وهو محو وجود، ولن يتم استدعاء المؤنث الا عند التخصيص، فلا يقال "مثقفة" أو "فنانة" أو "مبدعة" أو "كاتبة" أو "شاعرة" أو "مواطنة" أو "قارئة" أو "أستاذة" أو "طالبة" الا اذا كان الموضوع متصلا بالإناث تحديدا. بل ان الأفعال - أفعال الجمع - سيتم تذكيرها بحيث ستصور أفعال الأمر "افعلوا" وأفعال المضارعة "يفعلون" وأفعال الماضي "فعلوا" مجتمعا خاليا من الإناث، وهو خلو ظاهري وخادع عبر عنه أهل النحو بمصطلح "التغليب". واجترحوا له القاعدة الشهيرة: لا يخاطب مجتمع إناث ولو فيه ذكر واحد لم يبلغ الحلم، الا بالتذكير.
وبذا فإن "الآخر" الذي يواجهني هنا هو "الذكر" ذلك ان تحديد هويتي كلون وعرق وثقافة لن يتم قبل ان اطمئن كأنثى الى وجودي في اللغة، وهو أساس اعتراف لوجودي الفاعل المتحرك المتحقق خارجها. وكيف يتأتى هذا الاطمئنان عبر حوار "الآخر".
وهذا "الآخر" يغيبني؟ ولا يعترف بي؟ ويتسيد - من دوني - كل شيء بما في ذلك فضاء اللغة؟؟ فحاله معي كحال الأبيض العنصري مع أفارقة الأصول، قبل إلغاء العبودية وبعدها، وقبل إلغاء التمييز العنصري وإدانته، وبعده.. إذ لم ينته التمييز في الأرض. فإذا كانت "العبودية" البشرية هي إنكار إنسانية "العبيد" وتحديد وجود هؤلاء كخدم وإجراء، فإن "العبودية اللغوية" هي في إلغاء التأنيث في الخطاب، وفي تسخيرها - أي التأنيث (النحاة هم من ذكروا الكلمة) لخدمة التذكير. أي ان التأنيث لن تظهر في الخطاب المذكر الا لاكراهات بيولوجية أو فسيولوجية، كان يخص الموضوع المرأة دون الرجل (كالحمل والولادة والرضاعة الطبيعية والأمومة، أو لخدمة الصورة العليا السيدة للذكر، مثل استخدام النساء الجميلات العاريات في الدعاية للأشياء والمنتوجات الصناعية، أو توجيه الخطاب الى المرأة فيما يتصل بأدوارها التقليدية، .
وقد حاولت التأنيث ان لا تكون كذلك، فارتجلت السيناريو التالي:
التأنيث: أطالب بأن أكون حاضرة في اللغة.
التذكير: انك حاضرة يا عزيزتي، الا ترين ان العربية، على غير كثير من لغات الأرض - ومنها الانجليزية - تكون فيها كل كلمة - ما عدا الحروف وبضعة أسماء كأسماء الاستفهام وغيرها - إما مذكرة أو مؤنثة؟ تذكيرا أو تأنيثا حقيقيا أو مجازيا.. امن حضور أوسع وأعمق وأوفر؟؟
التأنيث: عفوا، انك لم تفهم قصدي! اقصد إنني أريد ان أكون حاضرة في الخطاب، كأن افهم من الكلام انك تقصدني، مثلما نفهم من الكلام إني أقصدك..
التذكير: إنني أقصدك بالتأكيد عندما أقول: "الأطباء والمعلمون والأدباء والكتاب والفنانون والرؤساء والزعماء والعمال والعلماء، ووزير كذا، ومنسق لجنة كذا، ورئيس مجلس أمناء كذا، وأمين عام وزارة كذا، ومدير عام مؤسسة كذا، وضابط، ووال، وعقيد، ونقيب... وغيرها كثير.
التأنيث: اسمح لي ان اعبر عن ضيقي، لأنك إذ تعني ذلك إنما تحشرني حشرا في قميصك أو قنبازك الذكوري الذي بالكاد يتسع لك. وكيف انك تزعم مفتخرا ان الكلمات في اللغة إنما هي مذكرة أو مؤنثة وأنت في خطابك تلغي نصفها - أي نصف اللغة؟؟ ألا ترى انك تعاني أيها الشقيق من فصام إذ يعلن ما لا تبطن؟ وتقول ما لا تفعل؟ وتطبق ما لا تنظر؟؟
التذكير: ماذا قلت؟ الشقيق؟
إنني سأضطر الى تذكيرك بأنك ناقصة عقل ودين، وانك نصف إنسان لأنك بنصف شهادة ونصف ارث؟ ثم كيف تتجرأين على اللغة؟ أنسيت ان العربية لغة القرآن الكريم وان أي عبث بها إنما هو "تآمر" على الإسلام؟؟ انك..
التأنيث: هذا بالضبط ما كنت أخشاه منك!! انتظر.. لدي معك "حوار" من نوع آخر "ملاحظة من الكاتبة: وهكذا ظهرت الحركات النسوية المتطرفة كردة فعل عنيفة لعنف قائم".
* * *
إذن، ان إلغاء العبودية اللغوية للتأنيث لن يتم عن طريق الحوارات الهادئة، لأنها لن تتم أصلا بين طرفين يعترف فيها "الحاضر" (التذكير) "بالغائبة" (التأنيث)، وعمليا "الأعلى" بـ "الأدنى" و "الأصل" بـ "الظل".
وإلغاء هذه العبودية ليس عملية سهلة ولا سريعة لا بمنظور الأدوات ولا بمنظور الموضوع الذي هو اللغة، لان الإقدام على ذلك يعني التصدي لزلزلة عدد من التابوات والمسلمات التي تحمي التذكير وهو ما سنعالجه لاحقا.
* هذه الورقة قدمت الى احد مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب قبل سنوات، وهي ما تزال تصلح حتى الساعة والى سنوات قادمة.. دون عجب!!
(1) ضمير المتكلم هنا هو صيغة أدبية للتعبير عن ضمير غائب هو النساء طرا.
الرأي- الجمعة 28 تشرين أول 2005م
إقرأ أيضاً: