"أهلُ الحبرِ الضُعَفاءْ
ما أجملَهم!
يبنونَ بيوتاً بدخانٍ ورقائقِ غيمٍ
ويقولونَ لنا:
ما أبهجَ أن يحيا الإنسانْ
كالدودةِ.... حُرَّاً ونبيلا
يحفرُ بين الأعشابِ كنائسَهُ... ويصلي
كي تبقى أقمارُ الحبِّ
تُضيءُ خرائبَ هذي الأرضِ العمياء ..."
.... هكذا أنشد "نزيه" ليلته تلك [2].... كانت "مرمريتا"، مسقطَ قلبِ الشاعر أو كما قال، هي حاضرةُ النشيد ....
كانت دارُ أهلِ "نزيه"، هُم أيضاً / أهلُ الحبرِ الضُعفاء / هي البقعة، أو فـ"القلعة" التي تشهد هطول مطر الحنين.....
..... الطفولة هي المحطة الأولى .... الطفولة بمعناها الذي أ راده "نزيه" لها / الإنسان طفلان، طفل صغير بحلم أن يكبُر .... وآخر يحاول أن يستعيد تلك الطفولة التي ذهبت مع الأيام...
... يحكي عن صديقه "فاتح المُدرِّس"[3] [الذي أهداه فيما أهداه قصيدته "ساعة الذئب" .... يقول عنها، أي "ساعة الذئب"، حسبما يقول "إنغمار برغمان"، هي الساعة التي يولد فيها معظم الناس، وفيها معظم الناس يموتون .....] .... يقول "نزيه" / عندما أحس "فاتح" أن ساعته دنت قال / *خذوني على مرجوحة "فادي"* - ابنه الصغير - وفعلاً أخذوه إليها.... كأنه يستعيد طفولته .... بعدها أنزوله، وكان نزوله الأخير ....
"*جئتُ أسألُ عن رُكنِ أُرجُوحَتي في الممرِّ الطويل* ..."، هكذا يقول "نزيه" في قصيدة "القلعة"....
وعن قصيدة "القلعة" يقول الشاعر أنها قصيدة مركزية لديه أو ما يشبه ذلك.... /
"هو ذا البيتُ:
أُوشِكُ أنْ أتلمَّسَ أجزاءهُ
وأعُدُّ تفاصيلهُ في شغَفْ
هو ذا.. يتَفتَّحُ قُدَّام قلبي ويطرحُ أسراره:
حجرٌ ما،
حِذاءٌ أطاحَ بهِ أحدٌ ما،
مِغزلُ الصوفِ ملقىً إلى جانبٍ ما،
القدورٌ، القواريرُ، خابيةُ الماء
ركنُ فِراشِ الطفولةِ، حيثُ يروقُ النعاس لجَدّي،
فيبيضُ شاربهُ .. وتطولُ ذِرعاهُ
أيقونةٌ للعشاءِ الأخيرِ معلَّقةٌ فوقَ رأسِ أبي
تدفعُ الخوفَ عنهُ وتحرسُ أحلامهُ
وتدٌ غامضٌ
كان في زمنٍ غابرٍ مشجباً لملابسنا
لم تزلْ تتسرَّبُ منه روائحُ أجسامِنا
وعطورُ ثيابِ الأحدْ
ثغرةٌ في الجدار
(وُجِدتْ هكذا ..)
جعلتها نباهةُ أُمّيَ مصيدةً للغبار
وحصَّالةً لنقودِ الولدْ .."
... وقارن إن شئت "ركنُ فِراشِ الطفولةِ، حيثُ يروقُ النعاس لجَدّي" وقول "نزيه" أن الإنسان طفلان ... وقول "فاتح المدّرس" / خدوني على مرجوحة "فادي" ....
... يحكي الشاعر عن قصيدة القلعة، كيف أنه استقل "تاكسي" وقد انتصف الليل وقال لسائقه / خذني إلى "مرمريتا" ... حين وصل إلى البيت ... إلى القلعة، وقف عند الممر ورأى أخيه من خلف نافذةٍ في البيت وهو يقرأ "*وأخي يترنّحُ في مستطيلٍ من النور*".. فاستدار وعاد إلى سائق "التاكسي" ليقولَ له / خذني إلى "حمص".. لم يستطع الأخير أن يكتم حيرته فقال لـ"نزيه" هل جئت من هناك إلى هنا في هذا الوقت من الليل والمطر لتعود وما مكثت سوى لمحةٍ من زمن...؟! .... وما درى أنها القلعة / القصيدة والقصيدة / القلعة البيتْ.اعر يردِدُّ وهو في طريقه إلى "حمص" / إنَّالبيتْ.ْ ... إنَّهُ البيتْ ...
"إنَّهُ البيتُ
حارِسُنُا الشهمُ
مسندُ أرواحِنا الذاهِلاتِ
ينامُ الجميعُ
وتغفو قلوبُ الجميعْ
وحِجارتُهُ لا تنامْ ..."
.... الحنين "يفلتر" الذكريات، هكذا يفرّق "نزيه" بين الحنين والتذكر .... وكيف أن الأول هو تَذكُّرٌ بروحٍ بيضاء كما يقول، يجعلك تحِنُّ إلى كل شيء بما في ذلك الآلام الأولى، وحتى عَصا مُدَّرِسيك.....
.... هل الأمومة صنو الطفولة...؟! أو فالوجهُ الآخرُ لها ...؟! يحكي "نزيه" عن تنازُعِ الأُمِّ وهي تحمل بين جنبيها جنينها / الحياة.... لكنَّ الموتَ يتهدَّدُ هذي الحياة في كل آن ...
أهو إذاً ما دفع "نزيه" ليحكي عن تلك الأم التي فُقِدَ ولدُها في الحرب.... لم يمت ... لم يؤسر .... بل فُقِد .... غطّاها الليل فرفعت كفيها ضارعةً إلى السماء / *أنا ما بِدِّي قولك شِي، إنتَ بتعرِف .... هكذا ودون مواربة - وكيف لها أن تواربَ أو تواري أو تُداري أو... - واجَهَتْه ....
.... أو تلك التي امتدتْ يدُ الموتِ إلى صَبِيَّتها بعد أن أخذت ولدها من قبل، قالت للأخير وقد دَنَتْ صَبِيَّتها من حافة القبر /خي دِير بالك عليها .... إذاً فليقرأ الشاعر قصيدته "أُم ..." /
"مصنوعةٌ، كأيّةِ أُمّ،
من يدين عاديتيّن ..
وقلبٍ عاديّ ..
وآلامٍ غيرِ عاديّة
مصنوعةٌ من شقاءٍ، وصبرٍ، وتضرّعاتِ ليل...
من تنهدّاتٍ، ودخانِ آمال .."
.... أجل، تضرّعات ليل هي تضرّعات / *أنا ما بِدِّي قولك شِي، إنتَ بتعرِف*.... أمَّا وصيةُ الأُم الثانية لولدها / خي دِير بالك علي، فهي لا شك صورة ثانية، أو إن شئت فهي الصورة نفسها، لـ"فاتح المُدرِّس" حين قال عنه "نزيه" /
"... كان عابداً للطفولة،
في رثائهِ لأُمَّهِ لم يقل: يا أُمِّي ... بل خاطبها بـ: "يا ابنتي الصغيرة"! ...
.... يمرُّ الشاعرُ ومُحاوِرَتُهُ[4] من تحت ما يُشبِهُ قنطرةً على شكلِ قوسٍ ما.... يقولُ لها / كانت هنا في السقف الداخلي حلقَةٌ معدنية، كان أصحابي من هم أقوى جسداً يتأرجحون عليها .... كنت اشتهي أن أتأرجح عليها مثلهم ولكي لم أكن أقدر ... الآن كما ترين لم تبق إلا الحفرة التي كانت الحلقَة المعدنية مغروسةً فيها....
.... يَدُقُ جرسُ الكنيسة .... يُمسِكُ "نزيه" بالحبل الذي يقرعُ الجرس لينادي على رغبةٍ قديمةٍ راودته في صباه: أنْ يقرعَ جرسَ الكنيسة.... يتردد وهما يدفعانِ الباب، يُسِرُّ لها: أخشى أن أجدها - الكنيسة - على غيرِ صورتها التي في داخلي.....
إذاً /
"سعداءُ
نعيشُ كما لا يعيشُ أحَدْ
قبرُنا واسِعٌ وجميلْ
عصرُنا غامضٌ وثقيلْ
سقفُنا غيمةٌ، ولِحافُ بَنِينا زَبَدْ
ندفعُ اليأسُ بالأغنياتْ
ونُداري كآبتَنا بالجميلِ من الكلِماتْ
ونُحِبُّ -على قدرِ ما نستطيعُ- الحياةْ
ولكنّنا .. حين نُدعى إلى موتِنا
سنموتُ .. كما لا يموتُ أحدْ.." [5]
إضاءات:
[1] ابن ذاكرته ... قتيلُ أحلامه: ذلك هو الشاعر - عنوان شهادة "نزيه أبو عفش" الشعرية في "ملتقى الشارقة الرابع للشعر العربي" الذي انعقد في يناير 2005
[2] الأربعاء 6 تموز الساعة 10.30 ليلاً، كانت الحلقة الأولى من "حياة وذكريات" - الفضائية السورية، وتليها حلقتان في ذات الموعد يومي 20 تموز و 3 آب
[3] نص "كتاب الغائب / ربيع "فاتح المُدرِّس" الأبدي"، مجلة "المدى" العدد /44/(2).... 2004
[4] أعدت الحوار وقدمته "مُنى دريباتي"
[5] كل المقاطع الشعرية الواردة هنا هي لـ "نزيه أبو عفش"
essam.rajab@gmail.com