يجمع د. عبد الواحد لؤلؤة في كتابه «الصوت والصدى» بين الناقد والمترجم، فهو يقدم ما يسميه «دراسات ومترجمات نقدية»، إذ إن نصف الكتاب دراسات نقدية، ونصفه الآخر مترجمات من النقد الأجنبي، لكنه جميعا نتاج ناقد ومترجم فذ يتعمق في عمله وينتج بلغة عربية متينة كما تعودنا على عمله منذ ترجماته لشكسبير وسواه، وبحوثه النقدية الرصينة. وسنقتصر وقفتنا هذه على الدراسات النقدية دون المترجمات.
يخلص لؤلؤة في مقدمة الكتاب إلى أن «الشاعر هو الصوت، والناقد هو الصدى»، وأنه ليس بين النقاد العرب اليوم من يمتلك «نظرية نقدية تختصه دون سواه، بحيث يدعي صفة الناقد»، وأنه «كان لدينا حتى حدود القرن الرابع الهجري أصحاب (مدرسة) في النقد يعنيها اللفظ والمعنى وجرس الكلمة والتخييل والمحسنات البلاغية والبديعية، وبعد ذلك غدت الكتابات النقدية في العربية تمتاح من أعمال قدامة وابن سلام وابن طباطبا والجرجاني.. وجميع ذلك صدى وأصداء».
تبدأ الدراسات الست في الكتاب الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، (2005)، بدراسة «أثر الشعر الأندلسي في نشوء الشعر الوجداني في أوروبا»، وهي من الدراسات النادرة في النقد العربي، وتأتي نتاج بحث مطول ودؤوب في الدراسات الغربية حول الموضوع، طوال ما يزيد على ثلاثين عاما، فقد جمع لؤلؤة مادته من مكتبات الغرب وجامعاته، ولم يجد، كما يقول، عند الباحثين العرب سوى تكرار ما قاله الغربيون في هذا الإطار. ولذا فهو يعتبر أن بعض المستشرقين الأوروبيين أنصف الثقافة العربية أكثر من كثير من الباحثين العرب أنفسهم.
وفي هذا السياق تتحدث الدراسة عن دور العرب في تطوير الشعر الأوروبي عبر الأندلس خصوصا، ومن خلال لقاءات أخرى عموما، لتثبت أن أوروبا لم تعرف شعر الحب إلا بتأثير الشعر العربي في الأندلس، حيث كان الملك وليم التاسع الذي ورث الحكم عن أبيه عام 1085 (وكان في الخامسة عشرة من عمره، وتوفي عام 1127) أول من كتب الشعر الوجداني، ثم تبعه عدد من الشعراء الجوالين )التروبادور= الذين يدورون بالطرب كما يرى بعض الباحثين).
وتبدأ الدراسة بالتأكيد على أن الشعر الأوروبي القديم عرف ثلاثة أشكال من الشعر هي الملحمي والمسرحي والغنائي، لكنه لم يعرف شعر الحب والغزل الذي عرفه الشعر العربي، فقد كان الحب في الشعر الأغريقي حبا شهوانيا وحسيا فقط، وأول شكل من الشعر الوجداني في أوروبا ظهر أواخر القرن الحادي عشر، في العام 1071، وذلك مع دوق بواتييه وأمير آكيتين وليم التاسع الذي ورث الشعر والغناء عن أبيه، ثم من خلال شعراء التروبادور قبل أن يتفرقوا في العالم، وكان أول انتشار للشعر الوجداني الأوروبي باللهجات العامية. ويؤكد لؤلؤة أن شعر هذا الأمير قد بدأ يتغير ويتأثر بالحس الوجداني بعد حملة قادها إلى المشرق، ووصل القدس أو عكا حسب بعض الباحثين ومكث فيها ما يقارب العام ونصف العام. وقد بدأ التأثير العربي في الشعر الأوروبي، كما يقول د. لؤلؤة، بعد ظهور الموشح العربي في الأندلس، وجاء هذا الموشح من بغداد عبر زرياب الذي هاجر إلى الأندلس في العام 822م، وكان للحروب دورها في تواصل العرب مع الغرب، خصوصا مع تكريس ظاهرة الجواري، ونشأ هناك جيل من آباء عرب وأمهات غير عربيات، أو العكس، فبات ذاك الجيل يتحدث لغتين، أو يطعم لغته الأصلية بلغة أخرى. وهنا بدأ التأثير.
وفي مواجهة القائلين ان الشعر الوجداني الأوروبي له جذور لاتينية يرد د. لؤلؤة بالقول إن هؤلاء لا يستطيعون أن يأتوا ببيت شعر واحد في الشعر الأوروبي ينطوي على حس وجداني، بل إن ثمة من يؤكدون موت الشعر اللاتيني في العام 1100، ومن هؤلاء الباحث الفرنسي ألفريد جافروا، وهناك في المقابل عدد من الباحثين يؤكدون أن جذر شعر التروبادور هو الموشح العربي، ويفسرون هذا بالنظر إلى شكل القصيدة وبنائها وموضوعها، خصوصا مع نشوء الشعر المقفى والسوناتا ضمن نظام 14 بيتا مع بترارك وغيره. ودانتي نفسه يعترف أنه قد تعلم الشعر من التروبادور.
كما ينقل لؤلؤة عن المستشرق الهولندي دوزي شكوى مطران قرطبة ألفارو في قوله في العام 850: «إن إخوتي في الدين يتمتعون بقراءة الأشعار والقصص العربية، وبدراسة مذاهب رجال الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليدحضوها بل ليكتسبوا أسلوبا عربيا أنيقا سليما. أين تجد اليوم امرءا خارج سلك الكهنوت يحسن قراءة الشروح اللاتينية على الكتاب المقدس؟.. واأسفاه. إن الشبان المسيحيين المتميزين بالمواهب لا يعرفون غير اللغة العربية وآدابها.. فمن بين ألف منهم لا تكاد تجد واحدا يستطيع أن يكتب لصديقه رسالة بلغة لاتينية سليمة. ولكن إن دعا الأمر إلى الكتابة بالعربية وجدت جمهورا من الناس يحسنون التعبير باقصى درجات الأناقة وينظمون الأشعار بدرجة من الفن تتفوق على ما لدى العرب أنفسهم».
وإلى ذلك تثبت الدراسة تأثر دانتي، لدى كتابته «الكوميديا الإلهية»، بقصة الإسراء والمعراج الواردة في «الفتوحات المكية»، فقد أثبت الباحثان إنريكو جيرولي ومونويز سندينو وجود مخطوطتين من «الفتوحات المكية»، مترجمة إلى اللاتينية والقشتالية والفرنسية، في اكسفورد وفي المكتبة الرسولية في حاضرة الفاتيكان، حيث ترجمها الراهب بونافنتورا عام 1264 بأمر من ملك قشتالة ألفونسو العاشر. وكان برونيتو لاتيني صديق دانتي سفير فلورنسا في طليطلة في ذلك الحين، ولا يعقل، كما يرى لؤلؤة، أن لا يجلب «الفتوحات» لصديقه.
وفي دراسته «حول ترجمة النص المقدس: القرآن الكريم مثالا» يورد د. لؤلؤة ثلاثة أسس ضرورية يجب أن يتوفر عليها المترجمون لتكون ترجماتهم على مستوى جيد، وهذه الأسس هي: أولا معرفة دقيقة بلغة النص وباللغة التي ينقل إليها النص، وثانيا المعرفة الجيدة بتاريخ اللغتين وثقافتهما، وثالثا المعرفة الطيبة بلغات قريبة من اللغتين.
وقال لؤلؤة في صدد ترجمة معاني القرآن إن بعض المفردات فيه لا يمكن ترجمتها كالصلاة والزكاة والحج، فمقابل هذه الكلمات في الإنجليزية لا يفي بتوصيل معانيها العميقة، والكثير من الترجمات تخطئ في نقل هذه المفردات/ المصطلحات. فمن الأخطاء الفاحشة ترجمة العباد إلى عبيد أو خدم، وكذلك في ما يخص الركوع والسجود، وآيات مثل «قل الروح من أمر ربي» بشكل خاطئ.. وغير ذلك من الأخطاء التي تنحرف بالنص القرآني عن معانيه الأصلية.
وتوقف لؤلؤة مطولا عند ترجمته لقصيدة إليوت «الأرض اليباب»، معترضا على من ترجموا العنوان بـ«الأرض الخراب»، مفرقا بين الخراب واليباب لغويا، فأكد أن ما قصده إليوت هو اليباب، أي الأرض التي تكون جافة ثم تتفجر خضرتها حين يهطل المطر عليها. وعاب لؤلؤة على الترجمات الأربع التي سبقت ترجمته لـ«الأرض اليباب» مجموعة من العيوب والهفوات والأخطاء الشنيعة التي لا يجوز أن يرتكبها مترجمون كبار. وذكر أن أحد المترجمين العرب لهذه القصيدة ترجم كلمة:
(swallow)
التي تمر في القصيدة بعبارة «ابلع.. ابلع»، في حين أن المقصود بها هو طائر السنونو.
وفي دراسته «رواد التجديد في الشعر العراقي» يتناول تجارب نازك الملائكة وبدر شاكر السياب والبياتي وبلند الحيدري ومن تبعهم من جيل سعدي يوسف وعبد الرزاق عبد الواحد وسواهما، ويلح على استعمال مفردة «التجدد» لا «التجديد» في الشعر، فالأولى توحي بأنها عملية «نمو ونضج تأتي من داخل الشعر»، في حين توحي كلمة التجديد بـ«عملية مفروضة من خارج الشعر»، ويقف في دراسته هذه على تأثيرات الشعر الأجنبي في شعر كل من نازك والسياب، ويؤكد على أن «التشابه الشكلي واضح بين أقدم قصيدتين في الديوان الأول لكل من نازك وبدر».
وحول سر تميز السياب فهو لأنه كان «ذا ثقافة متنامية، وخبرة في الحياة منوعة..، لكن موهبته كانت أكبر من ثقافته ومن خبرته في الحياة معا. وهنا سر التميز والإبداع». أما بلند الحيدري فهو «يكاد يكون نتاج فطرة وموهبة، فصوره لا تقوم على «مرجعيات» أكاديمية مثلا، بل تمتاح من خيال خصب وتأمل في الواقع حوله». في حين أن تميز البياتي تمثل في انفتاحه على «الأسلوب الصوري» الذي نجد أحسن أمثلته في «مقدمات» من شعر إليوت، حيث نجد ما يذكرنا بالأسلوب الصوري في قصائد البياتي مثل «سوق القرية» و«الحديقة المهجورة» و«في المنفى»..».
أما «أجواد سيدي أم أحمق» فهي قراءة تحليلية لمسرحية شكسبير «تيمون الأثيني» الذي يبدد ثروته على أصدقائه، أو من يعتبرهم كذلك، ثم حين يحتاج إليهم لا يجد سوى الصدود، فيتحول شريرا كارها للبشر. وهذه مسرحية سبق للدكتور لؤلؤة أن قدم ترجمتها بالعربية وصدرت في سلسلة «مسرحيات عالمية» الكويتية، ثم عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت (1984).
كما يقدم لؤلؤة ترجمة لعدد من سوناتات «غنائيات» شكسبير وقراءة في ما يسميه «الغنائيات» بدلا من السوناتات، مشيرا إلى أصولها الإيطالية (بتراركا: 1304-1374)، وأن الشعراء استمروا يكتبونها على النظام الإيطالي (الثمانية) حتى جاء شكسبير الذي جعل الغنائية ثلاث رباعيات تنتهي بمزدوجة. ويذكر بترجمة جبرا إبراهيم جبرا لأربعين من سوناتات شكسبير، وأنه ، كما أخبره، اختارها لأنها لا تحتاج إلى تفسير وشروح، في حين أن بقية سوناتات شكسبير، ومجموعها 154، تحتاج إلى ذلك، وهو ما فعله لؤلؤة في ترجمته هذه، لكن بقليل من الشرح.
وفي دراسة خامسة يقرأ لؤلؤة «جماليات الإبداع في شعر عمر أبي ريشة: الملامح الرومانسية»، ويستفيض في التعريف بالرومانسية والشعراء الرومانسيين بدءا من وليم بليك ووليم وردزورث وصولا إلى شيلي وجون كيتس. كما يقدم قراءة مقارنة بين قصيدة لشيلي تعالج مسألة «القوة» كمبدأ يقف وراء ضروب النشاط في الطبيعة وفي الذهن البشري، وقصيدة عمر أبي ريشة «إفرست»، ليصل إلى وصف الموقف الرومانسي من الطبيعة عند كل من شيلي وأبي ريشة.
أما دراسته «وظيفة الأدب» فهي استعادة للجدل حول هذه الوظيفة أو ما ينبغي أن تكون عليه، تتكئ على آراء تبدأ من شيلر وكروز ونورثروب فراي، ليتوصل إلى أن ثمة وظائف لا وظيفة واحدة للأدب والفن، وأن البحث في هذا السؤال هو «بحث في بنية المجتمع وفي العلاقة بين تلك البنية وبنية النصوص الأدبية، حيث يجب استعمال الطرق التجريبية المعتادة في الاستقصاء، مع ما يناسبها من تجريدات، لأن تحليل المفهومات الصرف لا يستطيع الذهاب أكثر من ذلك»، ويميز بين وظائف الأدب في مجتمع بدائي ووظائفه في المجتمع الغربي، فيرى أن وظائفه في المجتمع الغربي قد تصبح مع مرور الزمن «أقل مما كان معروفا في مراحل سابقة من الحضارة، وأكثر اهتماما بكيفية استطاعة الإنسان التعامل مع أوقات الفراغ المتزايدة وذلك بممارسة قابلياته المتميزة دون التسبب في خطر لنفسه أو لأقرانه ».
جريدة الرأي الأردنية