الذين قرأوا الكتابين الصادرين أخيراً عن الشاعر السعودي الكبير محمد العلي(1931)، وتطلعوا إلى أن يجدوا ما يكشف لهم سر هذا الشاعر "المستوحد"، ويبدد الغموض الذي يحيطه طوال عقود، لن يعرفوا الطمأنينة، إذ سيظل العلي يطرح نفسه في شكل سؤال إشكالي كبير، تصعب الإجابة عنه، بالنسبة إلى شريحة واسعة من المثقفين: من أين يستمد سطوته على المشهد الشعري والثقافي السعودي؟ لماذا لم يحاول شاعر واحد قتل هذا الأب، في المعنى الرمزي طبعاً، بدلاً من الإقبال على "أبوته" والامتثال لسطوته؟
لعل الكتابين اللذين أعدّتهما الكاتبة المغربية عزيزة فتح الله، وصدرا عن "دار المريخ" ـ (القاهرة)، يكرّسان العلي ظاهرة فريدة، في المشهد الشعري السعودي، على رغم أن الكتابين ضما معظم كتابات صاحب "لا ماء في الماء"، القصيدة التي تعد الأشهر في تاريخ الشعر السعودي الحديث. إلا أن هناك أموراً ظلت غائبة، لم تكشفها الأشعار القليلة، وصمتت عنها مقالاته والدراسات، وهي أمور لا يمكن الإحاطة بها من خلال قراءة ما كتبه، في أكثر من مجال.
ضم الكتاب الأول وعنوانه "محمد العلي شاعراً ومفكراً" (643 صفحة)، مختارات واسعة من مقالاته ودراساته، وكان نشرها في صحف سعودية وعربية ومنها "الحياة"، إضافة إلى قصائد ومقابلات صحافية أجريت معه. فيما الكتاب الثاني "محمد العلي: دراسات وشهادات" (252 صفحة)، تضمن دراسات وشهادات لعدد من الكتاب من السعودية والعالم العربي.
في مقدمة الكتاب الأول، تصف المؤلفة الشاعر العلي، بأنه: "قليل الحركة، تتحكم فيه مشاعره، أسير عواطفه واندفاعات قلبه، سريع الانفعال والغضب، سريع الابتهاج والانشراح، لا يعرف الحقد، يعيش يومه ويفكر في غده ولا ينسى البارحة، متردد في اتخاذ القرارات وخصوصاً تدوين شعره...ً".
ومعلوم أن العلي تلقى دروسه، العلوم الشرعية واللغة العربية، في النجف في العراق. إذ كان والده يرغب في أن يكون ابنه فقيهاً، وسار مسافة طويلة في ذلك الطريق، لكنه اكتشف فجأة أنه لا يستطيع المواصلة، لأسباب نفسية واجتماعية: "فتحولت فوراً إلى الدراسة النظامية، ولاقيت أهوالاً وصعوبات عدة لتحقيق هذا الاختيار". وفي العراق تفتحت ذائقته الشعرية على أسماء كوكبة محددة، كانت تتباهى بها "النجف" مثل الجواهري وسيد حيدر الحلي وسيد جعفر الحلي. استطاعت البيئة العراقية أن تفجر طاقات أدبية في داخله، ما جعله يؤسس مع آخرين "أسرة الأدب اليقظ"، وكانت تهدف إلى معارضة الجو الكلاسيكي، "ولكن لم نستطع أن نصل إلى مرحلة نضج حركة التجديد تلك".
واللغز الذي يمثله العلي في نظر المثقفين في السعودية، سببه تفلت هذا الشاعر من مسألة "التجييل" وعصيانه لها، فلا أحد يستطيع موضعته ضمن جيل معين. وهناك أمر آخر، أنه لم يقم بإصدار أي مجموعة شعرية، تمكن القارئ من قراءته في أثر شعري مكتمل إلى حد ما، وتتيح لدارسيه فرصة تأمل ملامح أو ظواهر جمالية بعينها، في أكبر عدد من قصائده. وتعددت اجتهادات النقاد والمهتمين بشعره، حول الأسباب التي دفعته إلى أن يبقى مبعثراً في كتب نقدية عدة، ودوريات أدبية مختلفة، غير راغب في لمّ شمل قصائده في ديوان مطبوع. الكاتب صالح الصالح، وهو أحد دارسيه، حاول تقديم تفسير لذلك وهو كونه "شديد الاعتزاز بأي مرحلة من مراحل تجربته التي لا تزال مستمرة - مهما تجاوزها الزمن وتجاوزها هو الآخر - وهو شديد الاحترام للقارئ، حاد الوعي برسالة الأديب". فيما يرى أحد الشعراء الشباب وهو مسفر الغامدي، أنه "ربما آثر ألا يترك مخطوطاً له، لأنه يسكن في المستقبل...". لكن الشاعر شخّص الأحوال التي وجد نفسه فيها، ورأى قصائده تنمو وتتبلور ضمنها، قائلاً: "تجربتي لا تنبثق من قيم جيل واحد، فأنا نتاج أجيال عدة... وكنت دائم التنقل من مرحلة إلى مرحلة، وفي كل مرحلة كنت أحس أنني ابنها أو نتاجها. هذا التنقل نفى عني صفة شاعر المرحلة الواحدة، لذا ليست لدي سمات واحدة. ما يطبعني هو السمات المتعددة، ربما سميناها "سمات المراحل". غير أنه يعود ويعتبر أن أي ديوان يقدم للناس: "هو نوع من الإجابة عن الأسئلة، فهل انتهت الأسئلة حتى نطرح الأجوبة؟".
إضافة إلى ذلك، يعد العلي ضمن الشعراء المقلين في كتابة الشعر، فأكبر عدد من القصائد تم جمعه إلى الآن، يكمن في أحد هذين الكتابين، وهي لا تتجاوز الـ50 قصيدة، كتبها، في غالب الظن، خلال الخمسين سنة المنصرمة، ولا يوجد ما يشير إلى أنه كتب كثيراً من القصائد. ولعل السبب في إقلاله، إذ قد تمر سنوات من دون أن يكتب قصيدة واحدة، يعود إلى مزاجه الذوقي والوجداني الذي هو مزاج انفعالي في درجة رئيسة، بحسب تشخيص العلي نفسه، فإذا لم ينفعل عميقاً: "فإنني لن أكتب، شرط الكتابة لدي هو الانفعال". وثمة سبب آخر يساهم في هذا الشح الشعري لديه، هو افتقاده الدائم إلى أي حافز للشهرة أو البروز: "أحيانا أندم على نشر قصيدة، وإذا دار حوار أو جدل حول هذه القصيدة، فإن الأمر يبدو لي وكأنه لا يعنيني".
ككثير من الشعراء بدأ العلي شاعراً عمودياً، فكتب قصائد عدة، معظمها اقترحتها مناسبات بعينها، مثل ذكرى ميلاد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أو ذكرى ميلاد الحسين، أو العيد الألفي للفيلسوف الكندي. والملاحظ في تجربته التي ظل يراكمها ضمن الأطر التقليدية، هو نزوعه إلى التجديد في المضمون، ومحاولاته في صوغ صورة شعرية معاصرة ما أمكن. لكنه سرعان ما وجد في قصيدة التفعيلة مناخاً ملائماً لصوغ مقول شعري مختلف، يواكب اللحظة التي عايشها في منتصف ستينات القرن المنصرم، بعد أن هزته قراءته لديوان "شناشيل ابنة الجلبي" للسياب، وقد حفظ قصائده عن ظهر قلب. على أن أول شاعر شده إلى الشعر الحر، وخلخل قناعاته الشعرية، المستمدة من قصيدة العمود هو السوداني صلاح إبراهيم، عندما اشترى ديوانه من شارع الرشيد في بغداد.
شكلت قصيدته "في الغابة" التي كتبها عام 1965، بحسب الناقد شاكر النابلسي الذي أنجز حول شعره دراسة مهمة، مرحلة شعرية جديدة. ولكن تظل قصيدته الشهيرة "لا ماء في الماء"، التي كتبها في سبعينات القرن الفائت، واحدة من قصائد نادرة، يرددها الشعراء وسواهم في كل مناسبة، ويقول في بعض مقاطعها: "ها نحن جئنا/ ولسنا نريد اللآلئ/ لسنا نريد الذي لم يزل نازحاً في امتدادك/ إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج/ أسماءنا/ أن نسير على الأرض دون انحناء/ وها أنت كالحزن تنداح/ تنداح دون انتهاء.. وبيني وبينك هذا الضباب الجميل". قصيدة استطاعت أن تمثل ثورة في الوعي واللاوعي الشعري، بصوغها المتجاوز وببنائيتها اللافتة وبلغتها المميزة. في هذه القصيدة يستخدم العلي رمز الماء، في شكل لافت للنظر، كما يقول الناقد محمد أبا حسين، وقد تحول عنده من عنصر طبيعي ومصدر للحياة، "إلى رمز للانعتاق والتحرر والسفر والعودة، وإلى زمن شعري تتدفق فيه تجاربه الشخصية الإنسانية، وتجري في نسغه أحلامه المرتقبة". وعلى رغم استخدامه الكثيف للرمز، إلا أنه بقي "مدركاً ومفهوماً، إذ تدرج في تجديده عبر القصيدة الحديثة"، كما يخلص إلى ذلك الناقد الفلسطيني محمد صالح الشنطي. ويرى الشاعر علي بافقيه أن هذه القصيدة، إضافة إلى نصين آخرين، نصّبت الشاعر رائداً لما يسميه بقصيدة التفعيلة الجديدة "تلك القصيدة التي تبلورت في السعودية، أوائل السبعينات الميلادية ومنتصفها، وانزاحت عن المباشرة والتقريرية، وأثمرت لغة شعرية جديدة، وقيماً جمالية جديدة".
لكن السؤال المشكل الذي ما انفك يطرح باستمرار، هو كيف لشاعر لم يصدر مجموعة شعرية واحدة، أن تكون له كل هذه السطوة، ليس فقط على الشعراء، بل على أجيال من الأدباء على اختلاف أعمارهم وفي تنوع ما يكتبون؟ وكأن الحساسية بين الأجيال، والاختلافات الحادة التي تفرق جيلاً عن جيل، ينتهي مفعولها عنده. فهو رسخ، كما ورد في قراءة مهمة للناقد حسين بافقيه حول الخطاب الفكري للعلي، في الذاكرة الشابة في السعودية، صورة أبوية (بطريركية) بمحض إرادتها، "صورة لم تتطلب فعلاً دعائياً منه أو من مريديه".
على أنه وفي الوقت الذي يندفع الأدباء السعوديون، لكسب أبوته وجعله رائداً للحداثة نجده، زاهداً في أي مجد، متواضعاً بل يرى أن الكلام حول أبوته وريادته "مبالغ فيه"، لكنه لا ينكر تبنيه لبعض الأسماء المتميزة. يوصف العلي بالانفتاح على شعر الأجيال الجديدة من الشعراء في السعودية، وعندما بدأ بعضهم يكتب قصيدة النثر، وعلى رغم ذائقته الإيقاعية، لم يرفض هذه القصيدة وظل يتذوقها ويقرأ شعراءها، وإن لم يفتنه أحد مثلما فعل الماغوط عربياً، فهو ظل إجمالاً يقرأ للشعراء الجدد، مثل إبراهيم الحسين وأحمد الملا وسواهما، ويشجعهم ويحتفي بهم على طريقته. غير أن تذوقه هذه القصيدة لدى كتابها السعوديين، لم يجعله يتجاهل ما اعتبره "وقوعاً في الهاوية". فقد قال في مقابلات صحافية: "شعراء قصيدة النثر يعتقدون بأن اللغة مفردات، في حين أن اللغة ليست مفردات... اللغة علاقات وهذه العلاقات محكومة بإرث تاريخي، ولك الحق في أن تطوره، وأن تولد علاقات جديدة، لكن أن تأتي بالمفردات وحدها... فذلك يؤدي بك إلى الهاوية".
أبدى الشاعر وعياً باكراً بقضايا الوطن لا سيما الواقع العربي، الذي يتخبط في الهزائم على الصعد كافة. ذلك الوعي، جعل يلح في كثير مما يكتبه، على ضرورة أن يكون للشاعر قضية، ومسألة القضية لا تنفصل، في اعتقاده، عن كيفية التعامل مع اللغة: "من أهم أبعاد التعامل مع اللغة، هو أن يكون للإنسان قضية يعيشها ويدافع عنها، قضية يحملها في داخله ويؤمن بها حتى العظم... وما لم تكن عند أي شاعر قضية، من أي نوع، ينذر لها حياته ووجدانه وعاطفته، لا يمكن أن يبدع". وانطلاقاً من ذلك فالعلي يولي اللغة الشعرية عناية شديدة، فهي في نظره ليست قاموساً يحفظه، ولا سياقاً شعرياً يقتبس منه: "اللغة هي الإحساس بنبض الحياة، بنبض الشارع والمجتمع. هذا النبض هو التعامل مع اللغة، وما لم تكن لديك قضية لا يمكن أن تحس بذلك".
أخيراً يتيح كتابا الناقدة المغربية عزيزة فتح الله، الاطلاع على محمد العلي عبر وجوهه المتعددة والمتنوعة والثرية، من الشاعر إلى المفكر، مروراً بالناقد "الواقعي" وكاتب المقالات اليومية والأسبوعية... وينبغي أن يمثل صدور هذين الكتابين مناسبة حقيقية لاحتفاء وتكريم فعليين، لشخصية أدبية وفكرية فريدة في مواقفها وسلوكها ووعيها، وفي ما تكتب وتتبنى من أفكار وقضايا مهمة.
الحياة
2005/06/5
إقرأ أيضاُ