شمن اللافت للنظر في الكلام الدائر في المناظرات والمحادثات العمومية، أن مصطلح (القراءة) بات من أكثر المصطلحات تداولاً، بعد أن تعدّى المجال الذي وضع له في الأصل اللغوي: القراءة في الكتب عامة أو نقد النصوص بصفة خاصة.
وما استجد أن المصطلح يستخدم اليوم، بمعنى أوسع لكي يشمل الوقائع والتجارب والأفعال التي هي المادة التي تنتَج حولها الكتابات والنصوص، بل بات يشمل أي معطى كان لكي يتصدَّر مفردات الخطابات المتعلقة بالفهم والتشخيص أو بالتقييم والتقدير.
من هنا أصبحت كلمة (قراءة) شائعة على لسان الخبراء والمعلقين والاستراتيجيين، وكل من يهتم بدرس واقع معين وتشخيصه لرصد دلالاته أو تقدير احتمالاته أو استخلاص دروسه أو التأثير في مجرياته، على ما تُعامَل التطورات السياسية أو الأزمات الاقتصادية أو المعضلات الأمنية.
على هذا النحو يقرأ الاستراتيجي الموقف الجديد الذي يتخذه أحد اللاعبين الفاعلين على المسرح السياسي، أي يعتبره بمثابة رسالة موجهة الى الخصوم والحلفاء على السواء، عليهم أن يحسنوا قراءتها؛ كذلك الحال بالنسبة للأعمال الإرهابية: إنها تقرأ كإشارات موجهة من طرف الى آخر، يفترض فيه أخذ العلم أو ردّ الجواب أو اتخاذ الرد المناسب.
حتى في مجال لعبة الكرة، التي صار لها نقادها وخبراؤها، إنما تستخدم كلمة (قراءة) لتقييم أداء اللاعب الجيد الذي يحسن قراءة الموقف واستباق الأمور، إما بتوقع وجهة الرد من جانب خصمه، أو بمفاجأته بما هو غير متوقع من الردود.
وهكذا أصبح الواقع يعامل كنص ويقرأ بوصفه مثقلاً بالمعاني محمّلاً بالدلالات، تماماً كما يُعامل النص في المقابل بوصفه واقعة خطابية أو معرفية. ولذا صار التقييم، سلباً أو إيجابا، معياره القراءة للمعطيات على سبيل المفاضلة بين من لا يحسن القراءة، وبين من يحسن، باستقراء واقعة أو رصد ظاهرة أو فهم حدث أو تحليل موقف أو تفكيك نصّ أو معالجة أزمة...
هذا شأن اللاعب الجيد، القادر على الخلق والابتكار، في الأسلوب والأداء، على ساحته، أيّاً كان حقل اللعب. إنه يلعب على نحو يخربط الحسابات ويخلط الأوراق، فيغير في مجرى اللعبة، بقدر ما يحسن إدارتها بخلق وقائع لم تكن بالحسبان، أو بقدر ما يقرأ، في ما يقع، ما لا يحسن قراءته سواه من الوجوه والأبعاد والاحتمالات.
هذا التوسع في استعمال مصطلح (القراءة) الذي يتعامل مع الواقع كنص، يقلب قواعد التصنيف، بقدر ما يجعل مفردة (القراءة) تكتسح ساحة الرؤية الى حدّ يكاد يزيح مفردة (الحقيقة) من مركز الصدارة، وينزلها عن عرشها الذي تخلَّع، من فرط التسبيح بحمدها والمتاجرة ببضاعتها، لدى عشاقها من الفلاسفة والمنظّرين أو الدعاة والمثقفين.
وهذا مآل البحث عن حقيقة مطلقة أو متعالية على الأحداث والوقائع والمجريات: الجهل بالحقيقة أو الوصول بها الى باب موصود، أو تحويلها الى أيقونة مقدّسة أو سلطة مستبدّة، وفي الحالات القصوى الى يقين فاشي.
ذلك أن المعيش والمتاح على ارض الممارسة وفي أتون التجربة هو القدرة المستمرة على الخلق والتشكل أو على التحول والتبدل، سواء تعلق الأمر بمسلسل الإحداث أو بتسلسل الأفكار، بكتاب الطبيعة أو بعالم الفكر.
حتى في الميادين العلمية الصرفة، لم تعد القضية تتعلق بنظريات نهائية نقبض بها على حقيقة الواقع، بقدر ما تتعلق بفتح حقول ومجالات أو بناء صيغ ونماذج تفسر الظاهرات وتخضع للتطوير أو التغيير، بقدر ما يعاد معها بناء الواقع باستمرار. هذا ما تشهد به المقولات العلمية كالجينة والذرة. فعندما تتحول الواحدة منها الى مبدأ مطلق للتفسير، تمسي كالمبدأ الغيبي الأوحد، أي تدّعي تفسير كل شيء، لكي لا تفسر شيئاً. وهكذا فالعالِم ليس مجرد محقق، بقدر ما هو أيضا خالق وصانع للمناهج والنماذج والنظريات وسوى ذلك من الوقائع المعرفية.
في أي حال ما نستخدمه اليوم هو عبارة (قراءة الوقائع) أكثر مما نستخدم عبارة (معرفة الحقيقة). وثمة فارق بين العبارتين من غير وجه:
الأول أن المعرفة بمعناها التقليدي أو الحداثي تهتم بالوصف والعبارة أو بالكشف والبرهنة، في حين تتعدى القراءة ذلك نحو المجاز والإشارة وتُعنى بالأثر والفاعلية، أي بما يتركه الكلام من الأصداء والظلال أو بما يخلقه من التفاعلات والتداعيات.
الوجه الثاني أن نظريات المعرفة تنتمي الى الأطوار التي سيطر فيها الفكر الماورائي أو المتعالي، حيث التطابق بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، وحيث الشاغل هو البحث عن الأسباب الأولى أو الأحكام الضرورية والكلية المنتجة لليقين الجازم والحاسم. في حين أن فِعل القراءة يتجاوز العلم بالأسباب ومعرفة الشروط المسبقة، باجتراح إمكانات يجري معها خرق الشروط وخربطة سلال الأسباب أو مسلسل الاستدلالات، وبصورة تتغير معها خرائط الفهم ومبادئ التصنيف بقدر ما تتغير علاقات القوة وقواعد اللعبة.
الوجه الثالث أن ما يهم في نظرية المعرفة هو كشف الحقيقة ووصف الماهية وثبات المعطى أو صحة المقولة ويقين النتيجة، في حين أن الأهم في استراتيجية القراءة هو واقعة الخلق وبناء الحقل أو موقع القارئ وزاوية الرؤية أو إدارة القضية وتداول الفكرة.
الوجه الرابع أن معرفة الحقيقة تتجه نحو الماضي لكشف ما جرى أو معرفة ما حدث بصورة بعدية. فالحدث يسبق هنا المعرفة التي تتشكل بعد فوات الأوان. في حين أن القراءة قد تستبق الحدث وتسهم في صنعه، ولذا فالذي يقرأ جيداً، قد يغير أفكاره وأدواته، لكي يكون على مستوى الحدث وعلى قدر المسؤولية، بحيث يشارك في إنتاج الحقائق وسط المشهد لإدارة اللعبة على المسرح.
وهكذا فالحقيقة تنتمي الى مملكة الهوية والماهية والثبات والمطابقة والتطبيق، بقدر ما يجري البحث عنها بعقل أحادي أو حتمي أو طوباوي أو فردوسي أو قُدسي؛ في حين أن القراءة تنتمي الى عالم الاختلاف والتعدد وتمارس بمنطق الخلق والتحول، بقدر ما تصدر عن عقل استراتيجي، تركيبي، ديناميكي، تداولي، اجرائي. ولذا، فكشف الحقيقة هو شأن الباحث المحقق، أما القراءة فهي من شأن الاستراتيجي الخالق (*).
ولا يعني ذلك أن مفردة (القراءة) تلغي مفردة (الحقيقة). من يفكر بمنطق الإلغاء، يغرق في ثنائيات ماورائية عقيمة تشلّ طاقة الفكر على الإبداع والتغير. بهذا المعنى يشكل فعل المعرفة أو الكشف، وجهاً من وجوه فاعلية القراءة، بما هي رهان على إحداث تحولات خارقة أو إجراء تغيرات بناءة في نظام الأشياء وصورة الواقع.
الحقيقة والهوية
بالطبع قد يثير الكلام على الحقيقة، على النحو الذي سبق، الاعتراض أو الاستغراب، من جانب ذوي العقل الأحادي، في وقت تضجّ فيه الشاشات والبلاد والآفاق، بالتأكيد على كشف الحقيقة، في ما يخص جريمة العصر:
اغتيال الرئيس الحريري، وما تلاها من الجرائم.
ولكن الحقيقة يجري تناولها على غير مستوى بحسب الفكر التركيبي. ولذا قد يكون مصطلح الحقيقة أكثر مصداقية وإجرائية على الصعيد الحقوقي أو الجنائي. ولكن حتى في هذه الحالة، تشكل معرفة الحقيقة واقعة مفتوحة على التعدد والاختلاف في التفاسير والقراءات، باختلاف المواقع والهويات أو المدارس والاستراتيجيات. وإذا كان من المهم، بل من الضروري، معرفة الحقيقة، في القضايا الجرمية، بحق الأفراد أو الإنسانية، بقصد الجزاء والقصاص، أو النقد والمحاسبة، لاستخلاص الدرس والعبرة، كما هي الحال في التفجيرات الإرهابية المُغفلة التي لا تُعرف هوية أصحابها، فإن من المهم أيضا، على الصعيد الوجودي، الالتفات الى ما تفتحه هذه الأعمال من الإمكانات للتفكير والعمل، أو ما تخلقه من المفاعيل والأصداء والتداعيات، التي تتغير معها قواعد اللعبة أو تنقلب الموازين بقدر ما تتخربط الحسابات الإستراتيجية، خاصة عندما تستهدف الاغتيالات والتفجيرات الفظيعة القتل المعنوي والرمزي.
والقتل الرمزي، تحت هذا الشعار أو ذاك، على سبيل التخوين قومياً أو التكفير دينياً، والذي يمهّد أحيانا للتصفية المادية، هو عملة إيديولوجية أو سياسية رائجة في غير بلد عربي وإسلامي، في مواجهة التحوّلات والتحديات والأزمات. مع أن ما يسقط ويتداعى أو ما يحدث ويتغيّر، إنما يشكل فرصة، أمام اللبنانيين والعرب، موالاة ومعارضة، لتغيير شبكات القراءة وإعادة النظر في الأنماط والأشكال والقوالب التي تُدار بها القضايا والشؤون، إلا اذا كنّا نُتقن هدر الفرص واستنزاف الطاقات ونصب الفخاخ، أو اذا كانت القضايا والأنظمة التي ندافع عنها أو ندافع بها، قد أصبحت مستهلكة مفلسة، لكي تعود بالفشل والإحباط أو بالضرر والخسران على البلاد والعباد.
في أي حال، إن الأحداث، أيّاً كان فاعلوها، قد ترتد عليهم وقد يفيد منها ضحاياها، كما تشهد تفجيرات أيلول 2001، وكما تشهد بشكل خاص حادثة اغتيال الرئيس الحريري (شباط 2005)، سواء انكشفت الحقيقة أو لم تنكشف. فإذا كان الذين قاموا بتفجير مراكز التجارة العالمية، قد أعلنوها حرباً على المشركين والأميركيين، فإن أميركا، بعد الحدث، ازدادت توسعاً وضغطاً، فغزت أفغانستان والعراق، لإسقاط نظام طالبان وحكم صدام، بما يشبه عودة الى الاستعمار بشكله السيئ والمدمر، بالرغم من الأطروحات حول الديمقراطية والحرية. وفي المقابل، إن احتلال العراق، في معرض الحرب على الإرهاب، قدم فرصةً للتنظيمات الإرهابية لكي تحول هذا البلد العربي الى بحار من الدماء أو الى أكوام من الجثث والأشلاء، أو الى وطن تمزقه العصبيات الطائفية والعرقية المتناحرة.
كذلك الحال بالنسبة لاغتيال الحريري. فقد ارتد سلباً، على النظام الذي كان متحكماً بالمقدّرات والمصائر، لتحميله، على الأقل على المستوى المعنوي والسياسي، مسؤولية ما حدث. وإذا تطابق القاتل الرمزي والفعلي، أو إذا لم تجرِ لبننة مهمة المحقق الدولي ميليس، ولنقل إذا انكشفت الحقيقة، لكي تشكل بدورها حدثاً كبيراً بوقائعه ومفاعيله واحتمالاته المفتوحة، فهل يكون المطالبون بكشفها على مستوى الحدث وعلى قدر المسؤولية، من حيث إرادة التخطي والتغيير، باتخاذ المبادرات الفذة وبناء القدرات الخارقة التي تنفتح معها آفاق وأبواب جديدة لممارسة العمل الوطني والسياسي والتنموي على أسس وقواعد جديدة، دستورية، مدنية، ديمقراطية، تداولية، بحيث تتغلب مفردات الكفاءة والجدارة أو الإنتاج والانجاز أو المواطنة والشراكة أو الشفافية والمحاسبة على عصبية الطائفة ومصالح القبيلة وعلاقات القرابة والممارسات المافياوية على أنواعها المالية أو الأمنية أو المقدسة، الدينية أو الأيديولوجية عامة، وهي التي يشتغل أصحابها بمفردات الله والشيطان والقديس والملاك لكي يحيلوا الحياة الى جحيم.
إن الحقيقة ليست مجرد اكتشافها، وإنما هي أيضا وخاصة طاقتنا الحية على أن نتحول بها، بعد معرفتها، بصورة خلاقة، على سبيل التجاوز والتركيب والبناء، وبصورة تتغير معها العقليات والأنظمة والسياسات. وهذا هو الرهان: أن نتغير عما نحن عليه، بخلق الوقائع وإنتاج الحقائق التي تسهم في توسيع أو تعزيز أو اجتاح ما يحتاج إليه العمل العام أو البناء المشترك، من الأطر والصيغ أو الأدوات والتوسطات. فهل نأمل بشيءٍ من التغيير أو التعديل أو الزحزحة؟ ربما. قد يكون هناك بصيص وسْط العتمةِ عند مَن يتأمل في المواقف، ومن أبرزها موقف الرئيس فؤاد السنيورة، في غير مسألة، إذ يبدو أنه بعد درس وتأنٍّ، قرأ جيداً ما يحدث، فحزم أمره باتخاذ مبادرات أو إطلاق مواقف تكسر منطق النظام السائد منذ عقود، وكما تجسّد ذلك في قوله: لن أرضى بأن أعامل كما كان يعامل الرئيس الحريري، الذي كان عليه أن يقدم كل يوم شهادة، فحص دم، تثبت أنه وطني، عروبي، قومي... (راجع تصريحه في صحف الجمعة 23/9/2005).
هذا أهم كلام يقوله سياسي أو مسؤول حكومي منذ اغتيال الرئيس الحريري، إذ هو يشير الى الانتقال من حِقبة الى أخرى في ممارسة العمل الوطني والسياسي. إنه يشق أفقاً للتغيير بقدر ما يكشف مدى الخداع والزيف في ثنائية الوطني وغير الوطني التي تحكمت طوال عقود في تقييم الأعمال والمواقف السياسية، لكي نصل، تحت شعارات العروبة والقومية والوطن، الى ما وصلنا إليه من الضعف والتخلّف أو من التردّي والتفكك. وكذلك الأمر في الموقف الواضح ولكن المركب في المسألة الفلسطينية: الوقوف ضد حمل السلاح خارج المخيمات، مع الاعتراف بما للفلسطينيين من حقوق الرعاية من جانب الدولة على الصعد المختلفة المدنية والاقتصادية والاجتماعية... وهكذا لم يرضَ الرئيس فؤاد السنيورة بما كان يرضى به الرئيس الحريري أو يسكت عنه لاختلاف المُعطى والظرف. ولذا لا عودة الى ما سبق إلا على نحو سيئ أو مدمّر.
أما حديث الاستقلال والسيادة والوطنية، فإنه حديث خرافة، لأن لبنان كما تشكّل منذ البداية هو بلد معرّب ومدوّل، بقدر ما هو نتيجة تسويات وتوازنات بين مجموعاته في الداخل وبين القوى الفاعلة من الخارج العربية والأجنبية. ولذا فهو محكوم بالتسوية المركّبة الداخلية والخارجية، العربية والدولية.
ومن حسن حظ لبنان أن يكون اليوم تحت نظر العالم وهيئاته، حيث لا تنمية من غير مقوّماتها وأبعادها الإقليمية والدولية، وذلك بعيداً عن الادعاءات والتهويمات من جانب القوى المتعارضة، سواء لدى أصحاب السيادة الكاذبة والاستقلالية المستحيلة، أو لدى أصحاب الوطنية الزائفة والعروبة العاجزة والمستبدّة. فلنتّعظ من ماليزيا والصين وتركيا، حيث تُمارس السيادة بصورة عالمية، وحيث يدافع عن الهوية بالابتكارات والإنجازات التي تتحقق في مشاريع التنمية أو في مجالات ممارسة الحرية. فكيف ونحن اليوم في عصر الاعتماد المتبادل، حيث ليس بوسع دولة أن تكفي نفسها بنفسها، سواء كانت الدولة عظمى أو دولة صغرى. ولعلّ لبنان سوف يشكّل نموذجاً، إذا استُغلّت الفرصة المتاحة لما سوف يكون عليه المستقبل، حيث تتزعزع الأمكنة المسيّجة والسيادات المصطنعة والهويات المتمترسة والخصوصيات العنصرية التي تجرّ العالم الى الهلاك والخراب بأوطانها وعقائدها وشعاراتها وأشيائها المقدسة.
أي وطن، أي عروبة
مهما يكن، فبعد كل ما جرى من انهيارات وإخفاقات، باسم الشعارات الكبرى والقضايا المقدسة، لم تعد المفاضلة بين وطني وغير وطني، أو بين عروبي وغير عروبي، بل المسألة هي: عن أي عروبة ندافع، أو أي وطن نريد، أو أي بلد نبني؟ أو أي حياة نصنع بل أي إنسان نكون أو أي صورة نكوّن عن أنفسنا لكي نتحول عما نحن عليه عرباً وبشراً؟ الأمر يتوقف على نمط الوجودِ الذي ننخرط في تشكيله نظراً وممارسةً، فهماً وتدبّراً، معياراً وتقييماً:
ثمة هوية، وطنية، أو قومية أو دينية، أو ثقافية، أو بشرية، تمارس بصورة عنصرية، متحجّرة، أحادية، عدوانية، انتقامية، جهنمية، بربرية، مدمرة، بقدر ما يسير أصحابها وراء أنظمة ديكتاتورية أو برامج شمولية أو حلول قصوى أو دعوات مستحيلة أو استراتيجيات قاتلة ومدمّرة ... وبالعكس، ثمة هويات ينخرط أصحابها في صناعة الحياة، بعقل مدني، حضاري، ديموقراطي، نقدي، تداولي. ولا يعني ان هؤلاء هم الأخيار والأطهار والصالحون، بطبيعتهم، أو لأن الله قد اصطفاهم، بل لأنهم يعترفون بتناهيهم ومحدودية قدراتهم ونسبية أعمالهم، وبقدر ما يمارسون أعمال النقد والمحاسبة والمراجعة، تجاه الذات قبل الغير، بحيث يعملون على تغيير أنفسهم، ويسهمون في تغيير سواهم، وفي تغيير مشهد الواقع، بما يعود بمردود ايجابي أو بنتائج مثمرة، على مجتمعاتهم وعلى الناس أجمعين، من حيث نظام التمثيل ومعايير التصنيف وقواعد المشاركة، أو من حيث فرص العمل ودوائر توزيع العدالة، أو من حيث طرق وآليات استثمار الموارد وتنمية الثروات المتروكة للسطوِ والهدر. هذا فضلاً عن التشريعات المدنية التي يطرحها فريق من اللبنانيين يطالب بأن ترعى الدولة أحوالهم الشخصية، الا اذا كنّا مع الطائفة لا مع الدولة، أو لا نُحسن قراءة المدلولات المدنية لحركة 14 آذار التي ندّعي أنها باتت مرجعية وطنية جامعة.
ولا مهرب من أن نتغير، فكراً وممارسة، عدة ومنهجاً، مهمة وإستراتيجية، بعد كل هذه التداعيات السلبية التي أنتجت المساوئ والهزائم والكوارث. من غير ذلك يقتل الرئيس الحريري أكثر من مرة: الأولى باغتياله والافتقار الى خبراته وقدراته التي أسهمت في إنهاء الحرب وأعمال الإنماء، والثانية بالعجز عن تغيير النهج الذي أوصل الى الكارثة، والثالثة بتحويله الى وليّ أو قديس فيما كان رجلاً مؤمناً يخشى ربه الذي أكرمه بما وصل إليه من الجاه والسلطة والمكانة والثروة.
خلاصة القول، لا أحد فوق رأسه خيمة تمنحه سلطة استثنائية، في ما يتعلق بالقيَم والشؤون العامة، ما دام لا أحد يتمتع بالقداسة والعِصمة، وما دام لا أحد يمتلك مفاتيح الحقيقة والخلاص والسعادة، بل ما دام لا احد ينجح في أي عمل من دون توسّط سواه أو الاعتماد عليه، ولذا ليس لأحد أن يحتكر المشروعية أو أن يستحوذ على المجال العام، الرمزي أو الفعلي، سواء تحت هذا الشعار أو ذاك، وسواء تعلّق الأمر بالله أو بالحرية، بالدين أو بالحداثة، بالتنمية أو بالمقاومة. فالأجدى فكّ ممارسة الوصاية الأحادية على القضايا والمصالح والحقوق، لأن الأمر في أعمال الإنماء والبناء والإدارة هو في النهاية محاورة ومناقشة أو مداولةٌ ومبادلةٌ أو مشاركة، كلٌّ من مجاله اختصاصه وفي دائرة عمله، لتركيب الحلول التي تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع بتعدّد مستوياته وخطوطه أو قواه وأقطابه. من غير ذلك نمارس الشعوذة والتشبيح، ولا نُحسن سوى انتهاك الشأن العام أو المشترك بالاعتداء عليه واحتكاره بصورة غير مشروعة، مافياوية أو ميلشياوية، استبدادية أو بربرية.
(*) راجع بهذا الخصوص كتابي: هكذا أقرأ، ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
السفير- 2005/10/14
إقرأ أيضاً:-