طفولتك صاحبي أو بالأحرى طفولتنا
نشيد وجع أسيل
أخرسه أحفاد من حرّضوا دمعة أيّوبنا السومري
لتفتح ذراعيها
نهر ألم كوني
يفضح وهن مرامي إقصائنا
بعيدا بعيدا في جحيم الخرس
أيّتها الطفولة.. أيتها البراءة
أفيقي
لا ترتعبي
فأنا سومري أيضا
لي طفولة
مقصيّة ومعتمة
ولي لعب وأحلام
ولكن
غيّبتها العاصفة
لي صبابة أرّقتها الحرب
ولي بقايا قُبل ٍ تبحث عن حنايا خضر
لي رؤى بيض
أبكتها المآتم
ولي وطن
صار نهبا للقططْ
فيا وجعي
على ما لي وليس لي
يا براءات نيام ...
سأوقظ قصائد (حيث الطفولة نائمة) للشاعر ناجي رحيم، تباعا بأنامل تنهل رقتها من جمهورية النعاس، لا من دكتاتورية الأرق. فعساني أكون فاحصا مشتغلا بمخيلة شاعر وفطنة مؤوّل لا يمل.
(البياض) مفتتح إيمائي إلى ذات الشاعر في علاقاتها مع الذوات الأكبر والأخر.. (أنا) يافطة رفعها احتجاجا على من كتب عليها شريعة غيابه. أنا............ وقبل أن نغادر القصيدة، تستوقفنا، زقزقة عصفور أعزب، إشارة إلى روح شفيفة باحثة عن الحب، و صديق ودّعني ثم ثقب جمجمة الوقت... ونام، صورة غرائبية موحية ومؤثرة لإحداث صدمة شعرية بفعل المفارقة اللغوية المركبة بسياق سريالي مفعم بالخصب.
والجملة الأخيرة تستبطن ثيمة الغياب قسرا. ثمة إيغال في وصف رتابة وثقل الزمن من خلال آلته (الساعة) وهي الشاهد على فوضى شريعة الآدميين بعكس دقة نواميس الطبيعة. وإعلان لغياب الحب عن العالم. للحب أغصان تتدلى بعيدا في أنياب الوحشة.. نجد في / أقسم بقوانين العهر... وهي تشكل وخزات الهيكل هذا ظلالك المعلقة في خدر العالم... وحدها تعرف المخبوء. وفي / أود لو أبحر في فرج الأرض.. وأرى العالم. خطابا يحيلنا إلى لوتريامون و شعره الجنوني في أناشيد مالدورور. ولا ينسى أهمية العناية بجمال الصورة الشعرية، كيما تكون أكثر إيحاء" وأشد تحريضا لنصوص ما بعد القراءة. وهذا ما توفر عليه في قصيدة الوقت. للوقت الذي يمرّ، متأبّطا رائحة الموت، حكايات رجل.. تنحسر أثواب عمره، كلّما ازداد إيغالا في البحر. ويا للإيحاء الشفروي عندما اشتغل بعناية لإنتاج صورة شعرية هي غاية في البوح، عملت من خلال المفارقة اللغوية. تستطيع إذا شئت، أن تتمشّى في ذاكرة القتلى. وتراه ينسج علاقات حميمة مع الطبيعة والكائنات لاستنطاق نواميس خارقة تسهم في إضاءة بؤر معتمة في العلاقات الإنسانية، بغية تمرير مراميه الكتابية على جناح الجدوى.
من نثار هبوب أصعد، صوب اخضرار... في مخيلة جناح مكسور. ويعمد إلى تنفيذ أهم سمات قصيدة النثر - حسب سوزان بيرنار - الإيجاز والتكثيف اللغوي، في مقطع استفهامي عن اللغز السرمدي المذهل (العدم). لماذا... في كل لماذا نموت ؟!! ولفرط وهن ثقته بالوشائج الآدمية يجنح لعلاقاته المفترضة مع عوامل الطبيعة، ليشكو لها مآل الآدميين وهول الأسى الذي يهرول على براعم الحياة، وقد أبكى الريح على هلع وكلل الشوارع نكاية بقسوة المشاعر البشرية. أيّتها النجمة معي أتشاهدين العياء في لفتات الشوارع. ذلك ما أبكى الريح. هو شاهد على فداحة الكارثة التي حلّت ببلاده وشاهد أيضا على صمت العالم ولا أباليّته تجاه ما يحدث من جرائم. إن ما يجري مريع ومرعب، فالقبح أفرط في هيمنته على الجمال. وطال مكوث القهر على تلال المهج، إذ يقول. كان سردا موحشا طويلا هدّ تغريد العصافير.. طويلا هذا الدغل عرّش. أنسى الينابيع ضحكتها. الحقول مواعيدها. والكلام أينع فيه الكلس. وإذ تنثال ذكرياته مع بهجة الماضي (الحبيبة) تتلطخ هذه البهجة برذاذ الآلام بسبب منغصات الحياة الفائتة في وطنه المعفّر بالأسى والمنع والقمع والدم. غير انه يصور دروب العشق بمفارقة لغوية جميلة. لمتعته بها وانشغاله بها كان ينسى انه يمشي. وكأن الدروب هي التي تمشي عليهما. لم أنس شيئا لا ولا حتى تلك الطرق التي مشتنا. ما زلت أنزع الوحل عن ثيابي في الذهاب إلى المدرسة وفي العودة منها. وقمل السجن في دائرة أمن الناصرية ما زال يسبح في جرح في الرأس ولهول الحطام والخراب في جوارحه يحدث مقاربة بين عوالم الناس في الغربة وعوالمه هو التي تحترق في دواخله وتتوقّد كما الجمر. ويواصل مناجاته لها من خلال تلصّص وجداني للألق البلّوري الحزين في عينيها. ها هي سماء الناس تهطل مطرا. وفي قلبي سماوات من الجمر. أتذكّرك كلّك أبعد من هذا وعبر شباك الروح أتلصّص عليك. أرى بريقا موجعا في زوايا عينيك. أشبه بالدمع ولم يكن. وفي بوحه لصديقه الشاعر كريم حميد. يومئ إلى رعونة وعمى الدهر , الذي يبكيه كلما قلب لحظة من لحظاته القاسية , مبديا تشفيرا متوهجا في تقشيره للدهر كما البصل..
أهوج زماننا يا كريم .. وأغانينا الصّلعاء هزيلة تقشّر بصل الدهر. ولشدة شعوره بالغربة والتهميش يحسد حتى الأعشاب لاهتمام الآخرين بها من خلال الأكل. ما أهنأك أيّتها الأعشاب وأنت تؤكلين. ويقلّب أيضا في طواحين الذكرى حيث أيام الدراسة وأحلامها بعيدة المنال. وبألم مرير يرى بلاده التي تغور في عتمة صهيل مقطوع بسبب حروبها التي لا تتوقف. ويتذكر شوارعها البائسة والمهملة والتي ترك على أرصفتها طفولته المعذبة والمغيّبة عن مسارب اللهو والأمان. بيد أنه تركها غافية على ذراع شارعهم الكسول. ولإحساسه بعجز اللغة عن تصوير غرائبية الكارثة بكل أبعادها يقول.. في أقاصي النأي حيث أتكوّر كفضاء دخان منبوذ . تطاردني أطياف . ضوء يعانق مهزلة . أشياء لا تملك وجها ترسم وجهي. وكيف . كيف أن نستر لحما مهتوكا في الشوارع. كيف وبأيّ أعجاز لا أدّعيه . أسمعك رائحة الشّواء. وعن آلام كتابة القصيدة يفشي أسرار عنتها ومكابرتها إبّان زمن الكتابة. . عن القصيدة إذ تحكّ جلد الصّمت.. ولا تبوح به. ما ألعنها تتمخطر في عباب الكون.. ولا تراودني عن نفسها.
ويلعن رتابة يومه في الغربة والذبول. هكذا يتحلزن الضّجيج في رئة الساعة. يتورّم قلب اليوم. قبالة الهذر هذا، أتكوّم أنا وانسحب بخشوع إلى كأسي. ويا لفداحة السخرية والتهكّم من التفكير العميق بالآتي والاستغراق في عمل المخيّلة. لا أكتمكم سرّا. لقد تعبت مؤخّرتي.. من التأمّل. وعن حياة الفاقة والعوز التي كان يعيشها، يرسم لتا مفارقة جميلة وفطنة في التقاطتها. كان يأتي فجرا يطلب رغيفا من الخبز.. فأذهب لأطرد الصراصير. ورغم طول وضراوة المأساة يصرخ بعنفوان الواثق. لا .. لم نتساقط بعد. ويوجز لنا اعترافا مهولا في تهكّمه من الوجود، بسبب ظلمة وفساد هذا العالم، إذ صوّره لنا غياب وعدم. أنا بقايا العفن.. في قبر كبيييييير. ويبدي إعجابه ببراعة الفنان ستار كاووش فيلفه هدير الألوان وسحر الدهشة . أدخّن رذاذ الكون . متشبّعا بهدير الألوان. ما أروع أن يدثّرك الأزرق. ما أعذب فرشاتك يا كاووش. وهي تمشّط رموش اللوحة. ولشغفه بأسلوبه في تكوين وتفجير طاقاتها اللونية والحركية ولسحر أنامله في تحريك الفرشاة، يفصح لنا فرحته الغامرة بالعلاقة الروحية بين الرسام ولوحته. أرتجف. أرتجف حبا .. وقد أشعل صديقي أصابعه . حين عانق لوحة جديدة. ما أنصع غربته. مكتفيا به . محتشما. يكشف عري العالم.
وبعد أن لسعتنا جمرات طفولته العارمة بالبوح والفطنة اللذيذتين. نشير بعجالة إلى أهم ومضات آليّة اشتغاله الكتابي المجسدة لبنى المتون المقروءة. حاول تنشيط ذاكرته لاستلال أسفار مرّ بها أو مرّت عليه. بدءاً من صبابات وعيه الجامحة، ومرورا بتداعيات حياته العاصفة بالانكسارات والخذلان، ومن ثم فراره من دكتاتورية القمل والقمع، عبر أفران رفحاء، وانتهاءً بمنافي الذبول القصية. رحلة استلال ٍ لأفدح مآسي حياته منذ غضاضتها إلى الآن، متناولا ثيما إنسانية شتى / الزمان / المكان / الشخوص / الوقائع / الحب / الموت / الألم / الفرح / السّأم / الخير / الشر / وغيرها. ومحاولا الاستعانة بنواميس الطبيعة للخلاص من مأزقه الوجودي. وقد جرب كثيرا من المحاولات لتخطي حدود التجاور اللغوي المألوف بغية إحداث التشفير السيميائي بأنواعه، والذي يخفي تحت طيّاته بنى الثيمي الغائرة، مانحا التلقي فسحة إنتاج نصوص ما بعد القراءة. وعمد إلى اقتناص مفردات محرضة لمرامي التعبير، مما خلق تحولات متباينة في المعنى. كما انه تنقل إلى سياقات عديدة لبث صوره الشعرية / التشبيه بأنواعه / الاستعارة التصريحية / الإستعارة الكامنة / الرموز / التضمين / المحاكاة / التعالق وغيرها. وكل ما يرمي إلى تفجير طاقات الشعر الخلاّقة. للوصول بالنص إلى أقصى فضاءات الكشف والإشراق. نص طموح وحالم، منتج من مخيّلة لا تعرف الركون والاطمئنان لفسحة، تعدو أبدا صوب الغائب والخفي والنائي. مخيلة تستجلي جوهر الأسرار وثنايا الغيب وأغوار المعرفة، بمجسّات الظنون والتوجّس. وأخيرا مخيلة تصل كل حين إلى مناطق إغواء وإغراء للمتلقي كيما يعد العدة لإنتاج نصوصه الممكنة والمحتملة خلال وبعد كل قراءة.
لقد جبنا في فراديس الشعر (حيث الطفولة نائمة) وحاولنا إيقاظها من نومها.
غير أنّها سارعت إلى إيقاظنا نحن، للاحتفاء بها. ثأرا لطفولتنا المرمّلة.
ولسلالات طفولات دنّست براءاتها الأزمنة.
alishward_4a@yahoo.com
أقرأ أيضاً: