عزيزي خوان،
يأتي كثير من الأدباء إلى مراكش على حبل الدعوات والميكروفونات وبياض اللباس ودلال التعرف على الأمكنة.
أدباء بهالة زائدة عن اللزوم. ينزلون بأرقى الفنادق. يقتصدون في كلامهم، فيما يعطون الانطباع بأنهم يكتشفون عالما غريبا عليهم. وحين يقصدون مكاتبهم، هناك بالشمال، يضيفون لياليهم المراكشية إلى حكايات ألف ليلة وليلة.
أما أنت فتكتفي بمجالسة ومعاشرة البسطاء بمقهى فرنسا والقنارية.
تتكلم كأب، وتمشي بين الناس كشيخ وقور.
أنت الذي منحتك اليونسكو شرف كتابة نص إعلان اعتبار ساحة جامع الفنا ضمن التراث الشفوي الإنساني، اعترافا منها بجهودك في الدفاع عن حق الساحة في إعمال الخيال والتحلي بكثير من الحس الجمالي عند كل محاولة لتوسيعها أو التغيير في ملامحها.
عزيزي خوان،
مضى نحو أسبوع على الحفل الغنائي الذي أحيته نانسي عجرم بساحة جامع الفنا.
أتخيلك الآن جالسا بمقهى فرنسا.
أتخيلك جالسا إلى الطاولة ذاتها والبسطاء أنفسهم.
سترتك البنية. حركاتك. صمتك المتواضع.
غير أني أتخيلك اليوم صامتا أكثر من اللازم. ربما كان في صمتك شيء من الحسرة والألم.
أتخيلك تعيد ترتيب نظراتك والتمعن في الخراب الذي خلفته نانسي عجرم في الساحة أمامك.
أتخيلك مثل قائد عسكري خسر موقعة حربية في انتظار مواقع أخرى.
أتخيلك منشغلا بتجميع ماتبقى من قواتك وبدفن القتلى وتضميد جراح المصابين.
أتخيلك تعد الخسائر. متخوفا من المستقبل. أنت الذي تعرف أن نانسي عجرم ليست وحيدة في مشهدنا الفني، وأن الاستنساخ الفني سيحل على الساحة ضيفا، يوما ما، من خلال وجه فني آخر.
ومن يدري ... فربما هجمت عليك وعلى قواتك المنهكة ... روبي وهي في لباس الرقص الشرقي، أو كارول سماحة وهي في لباس عصر العنب، أو ... ربما هجمت عليك شاكيرا بخيولها وقدها الثائر؟؟
فاتنات في نصف لباس ... كل واحدة منهن تعطي الانطباع بأنها لاتكن ودا عميقا للثياب.
عزيزي خوان،
ألفنا رؤيتك جالسا بمقهى فرنسا، مادا ناظريك نحو الساحة، التي بدا أنها أكرهت على الدفع بشيوخ الحلقة والحكي إلى الهامش.
أنت الذي تلخصت فيك كثير من المزايا الدافئة.
أنت الإسباني "الغريب" أو "الإسباني على مضض". الذي تبدو في عينيه أمارات التواضع. الذي رسم كثيرا من الخطوط الرابطة بين مآسي القصف في البوسنة والعراق وفلسطين وغيرها من نقط الدمار، وراكم الزيارات إلى دم العالم المراق هنا أو هناك.
نفس المقهى، التي اعتدت ضبط جلوسك بها، في الغالب، على الساعة السادسة مساء، سيكون عليك أن تتحاشاها يوم أخليت الساحة من عناوينها وأعدت لنانسي عجرم لتفرح وترقص فيها ؟
تخيلتك تلك الليلة ... ونانسي عجرم تتلوى على إيقاعات الآه ونص ... جالسا إلى نفسك في أقسى حالات الضجر وأشد حالات الإحباط.
ولك الحق في كل ذلك ياصاحبي. إذ كيف لك أن تستسيغ أن تأتي نانسي عجرم .. هكذا في غفلة منا ومنك ... وحتى من دون أن تكمل لباسها ... لتمسح عن الساحة كل رمزيتها ... وكل من اعتادوا التأثيث لفضائها ؟
عزيزي خوان،
أعرف أنك لست ضد نانسي عجرم،
ولايهمك أن تأخذ خبرا عن المبلغ الذي تقاضته مقابل غنائها بالساحة،
ولا عن عدد عمليات التجميل التي خضعت لها،
ولا عن جهلها بأن سميرة (بنت) سعيد مغربية،
وأعرف أنك لاتهتم برصد المرور من "واقع" الأداء المصور إلى "واقع" الأداء الحي، وبالتالي البحث عن الفوارق الجمالية والصوتية للفنانة في الحالتين،
كما لايهمك في شىء هذا الحديث عن وضع المقارنات بين قدرة نانسي عجرم على "استقطاب" الآلاف لحضور حفل غنائي، وعدم قدرة زعمائنا النقابيين والسياسيين مجتمعين أن "يستقطبوا" ولو واحد في المائة من كل ذلك.
كما أخمن أنه لايهمك أن تعرف أن مجلة النيوزويك صنفت نانسي عجرم ضمن 43 شخصية عربية لها علاقة بمؤشرات التغيير في العالم العربي.
كل هذا الكلام لايهمك في سياقه المباشر طالما ظلت نانسي عجرم بعيدة عن شاطئك الجميل.
أنت الذي تهتم أكثر بأن تبقى الساحة مفتوحة أمام زوارها وناسها، محتفظة بدفئها ورائحتها وبطعم الفرح والبهجة التي تقدمهما لزوارها.
ساحة جامع الفنا التي ظلت دوما تصنع بهجتها. ولم تكن في يوم من الأيام في حاجة إلى أحد لكي تعرف طعم الفرح. ففي جامع الفنا ظلت الحياة متواصلة عبر حلقات الحكي والغناء والفرجة الشعبية وكل مايرافق النقش بالحناء وقراءة الكف ... والدعوة إلى تناول وجبة عشاء في الهواء الطلق.
عزيزي خوان،
ستبقى ساحتنا متروكة لبساطتها وروادها. أما نانسي عجرم ... فلها كل المساحات والساحات التي تليق بها وبشكل الغناء والفرح الذي تتقمصه.
ستبقى ساحتنا أبدا في مكانها شامخة تبادلك وتبادلنا نفس النظرات، فيما تفسح مكانا متواصلا للتاريخ ليضيف القادم إلى السابق، مع حاجة متواصلة منا للدفاع عن حقها في إعمال الخيال والتحلي بكثير من الحس الجمالي عند كل محاولة لتوسيعها أو التغيير في ملامحها.
عزيزي خوان،
بالله عليك، … أين شربت قهوتك ذاك المساء ؟
مع سلامي وتحياتي
الأحد 01 / 05 / 2005
مراكش
Kebir05@hotmail.com
إقرأ أيضاً: