أكان يدرك الشاعر الذي نأى بنفسه عن السقوط الجماعي، أنه سيصبح يوماً ضحية هذا السقوط؟ وسواء أكان السقوط سياسياً أم غير سياسي، تمثّله سلطة تحترف القتل، أم لصوص عاديون، فإن مقتله دليل على افتقاد أمنٍ، وموتٍ غير مبرّر سيظل باعثاً على الرجفة أبداً، وعلى التفكير طويلاً.
كتب البريكان مرّة في قصيدته "السقوط الجماعي": وإذ يرتجف الإنسان في لحظة تفكير يكون الأمر قد تمّ وهل للموت تبرير؟
هازئاً بالقوانين "المثبّتة بأطراف المسامير" و"الجماجم الصمّ" و"التواريخ المعاد صنعها بأحدث الآلات" و"الأخبار والتقارير"، وكأنه ينبئ بالمصير: مصيره ومصير آخرين.
ترجع علاقتي بالبريكان إلى بداية الستينات، عندما كنت طالباً في معهد اللغات ببغداد أتعلّم اللغة الفرنسية، غير أني غادرت المعهد بعد أحداث سنة 1963 الدامية، لأكمل دراستي في جامعة دمشق، في قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية. التقينا أنا والبريكان ثانية في البصرة سنة 1968، مدرسين في معهد المعلمين. هو يدرس اللغة العربية وأنا علم النفس، كان لا يخفي سروره من حياد مادّة اللغة العربية، فقد جنّبته الكثير من المشكلات التي اعترضتني أثناء تدريسي علم النفس ولا سيّما علم النفس التحليلي، مفضّلا في كثير من الأحيان أن أرافقه إلى مطاعم المدينة ومقاهيها، لنمضي فترة ما بعد الظهر في أحاديث مختلفة، متثاقلاً من العودة إلى منزله في قضاء الزبير الذي يبعد أميالاً عن البصرة، وكأنه في نزهاتنا هذه، يستعيد عزلته السعيدة في بغداد، حيث يمضي جلّ وقته منفرداً أو بصحبة صداقات قليلة جداً.
كان البريكان، في شعره وفي شخصه، واحداً من شعراء معدودين يؤثرون الصمت على الضجيج، والوحدة على الاحتشاد، والصداقة المتفرّدة على المجموع، وهو إذا كان استثناء في المشهد العام، فإنه ليس استثناء في المشهد الخاص الذي ألفته مدينته البصرة. فإلى جانب البريكان كان هناك محمد خضيّر ومحمود عبد الوهاب المسكونان بهاجس الكتابة وانشغالها بواقع استطاع هؤلاء الثلاثة اختراقه إلى طبقاته الأعمق ليكتشفوا ما هو كامن فيه من جذر أسطوري أو من جوهر عصيّ على الاكتشاف، جوهر يربطهم بماض عريق ومستقبل أبعد، في زمن واحد هو زمن الكتابة الذي ينأى بصاحبه عن زمن الآخرين.
كان البريكان ومحمد خضير ومحمود عبد الوهاب نماذج البصرة البارزة، وخفاءها الملغز، وعبقريّتها التي لا تستنفد، وإدراكها الحصيف. ليس بمقدور أية سلطة عابرة أن تجرّدهم منها، أو تجرّدها منهم، وقد عادت طاقة خلاّقة تحملهم بعيداً إلى مستقبل يتجاوز ما هو آني إلى ما هو جوهري، دون أن تهمل هذا الآني ولا تفصيلاته، لأن هذه التفصيلات هي ما يتجلى فيها الجوهر، ولعل عنايتهم الفائقة بهذا الجوهر الذي يتجلّى عبر تفصيله هو ما جعل فنهم ثورة بحدّ ذاتها.. ثورة ليست في الشكل، كما يظن البعض، بل في صميم التعبير الإنساني عن الوجود، وجودهم ووجود الآخرين، لأن التأكيد على الفن في ظرف ما، هو تأكيد على الإنسان وحماية أعزّ ما لديه: حريته، بعيداً عما يراد له من تحقيق منفعة عابرة أو غرض عابر.
كان يعبّر لي عن الصعوبة التي يلاقيها في قراءة شعراء كثيرين ملأوا الساحة الشعرية بضجيجهم، وعن سوء استخدام لفظة "شاعر كبير"، لأن لفظة "شاعر" وحدها كافية لتقييم أي شاعر حقيقي، وهي لا يمكن إطلاقها إلا على نفر قليل من الشعراء.
إن تفرد البريكان وانفراده لم يشغلاه عن العالم المحيط به، بل جعلاه أكثر إدراكاً لهذا العالم، وانشغالاً به وبموجوداته المهدّدة بالعنف: ليس الحب مستحيلْ ولا الجمال خدعة ـ ولا ندى السحر خرافة.. لكن يفيض مرقص البشر بالعنف والعويل وقد ساعده على ذلك قدرته على المزج بين الإحساس والفكرة، إذ من الصعب، في شعر البريكان، أن تفصل الإحساس عن الفكرة أو الفكرة عن الإحساس، فوراً، كل إحساس مهما صغر ثمّة فكرة، ووراء كل فكرة مهما عظمت ثمّة إحساس متجّسد: على المشهد أسمّر نظرتي، لكن لي حلمي ولائي هو للأجمل والأبعد وعبر الصخب اليومي أنمي صوتي الناصع وألقي وهج الفكر على الواقع إنه الشاعر الذي انتمي إلى وحدته ومدّ جذرها إلى ما يجعلها شجرة تظلل الأشياء والناس بأفيائها.
لم يزعم البريكان أنه الكون أو العالم، بل أعلن عن حضوره في هذا العالم، وولائه لما فيه من جمال وبعد، وهو في نظرته هذه يختلف عن شعراء كثيرين نعوا العالم وأسقطوه حجراً في بئر ذواتهم، وكلما حدّق البريكان في العالم اكتشف حياة أخرى، حياة تسكن حتى الصخر، متجاوزاً، بنظرته هذه، الراهن إلى المصير والمصير إلى الوجود والوجود إلى التساؤل الممض الذي ينتصب في هذا العراء المحيط بالإنسان.. يقول البريكان في قصيدة "صخرة صحراوية": مزولة عظيمة للشمس في الصحراء علامة على رمال التيه إجابة على سؤال الماء شاهد قبر هائل مندرس الأسماء من جهة أخرى، ينكر البريكان على الذات، أيّا كانت عادية أم غير عادية، نزوعها إلى تشكيل العالم كما تريد. ونظرتها إلى تماثله لا إلى غناه وتنوعه وحياته الخبيئة حتى في أصغر كائناته وأبعدها عن الحياة. وقد تتمثل هذه الذات في اليد التي تسحب الطفل إلى الداخل، أي في أدنى تجلياتها كما في قصيدة "نافذة للطفولة": المشهد الطريف مكرّراً: الولد العابث يسلق القضبان منتصراً، تمتد من ورائه يدان يُسحب للداخل أو تتمثل في اليد التي تمارس التعذيب، أي في أبشع تجلياتها وأشدها تدميراً: وذكرت ما أكل المشيب من النواحي في سجونك وجميع ما شرب التراب وما تبخر في الهواء في السحق والتعذيب. يا لذكاء قلبك في جنونك كان انبعاث الرعب أكمل ما تطوّر في فنونك لكن بأي براءةٍ ترنو إلى القمر المضاء في الليل حيث يظلّل الغزل الرقيق على جفونك ويدور وجهك في السماء هذه الرؤية هي التي منحت شعره هذا الامتداد وذلك العمق الإنساني النادر الذي غمر بحنانه الموجودات صغيرها وكبيرها. لنقرأ هذا المقطع المليء بالحنان لـ "صخرة في المحطة": تاركةً بمنتهى الأمومة ذراعها للقادم المتعب صديقة المسافرين، الكهلة الممتعة حارسة الأمتعة حاملة المصباح في الظلام وقد يتجسد هذا الحنو بأشكال أخرى عبر هاجس الشاعر القلق على مصير الموجودات المهدّدة بالتدمير، كما يتجلى ذلك في قصيدة "رحلة قرد"، حيث لا يعرف القرد شيئاً عن موته في المختبر المسوق إليه: رحلة القرد تبدو كشيء من السحر لا ينتهي إنه يتفحص ما حوله كلّ ما يستطيع إن يحدق لا يعرف القرد شيئاً عن المختبر غرفة الأجهزة والمجاهر والمبضع الدموي حيث تصنع من مخه الأبيض المستدير عينات التجارب من فجوات القفص ينظر القرد، يلقي على كل شيء نظرة ساكنه ولعلّ هاجس التدمير ظلّ يسكنه في معظم القصائد التي نشرها أخيراً.@
عن جريدة (الشرق الأوسط) - لندن