طيف المفكر والكاتب الفرنسي رولان بارت (1915 ـ 1980) يسكن العاصمة الفرنسية باريس هذه الأيام بمناسبة معرض شامل يقيمه مركز بومبيدو ويستمر حتى شهر آذار (مارس) المقبل. فبعد مرور اثنين وعشرين عاما علي اختفائه تحول دارس الأساطير ومُشَرحها الى ما يشبه الأسطورة الأدبية في أوساط المبدعين الفرنسيين لاسيما الشباب منهم. إنها فرصة ثمينة لمن يزور باريس كي يغوصوا من دون تأشيرة في عوالم بارت الفسيحة والغنية لإعادة اكتشاف هذا المثقف المبدع هدام الحدود والمواضعات رافع شعار متعة النص ولذته وربما هي أيضا مناسبة لقراءته من جديد خصوصا ان دار سوي للنشر أصدرت بمناسبة هذا المعرض طبعة منقحة لأعماله الكاملة. في هذا الملف مقال يستعرض ابرز المحطات في مسيرة رولان بارت الإبداعية وحوار مع صاحبة فكرة المعرض ومحافظته الآنسة ماريان الفان وأيضا شهادة للناقدة اللبنانية يمني العيد.
عندما يسمع الزائر صوت رولان بارت وإيقاع جمله الساحرة في إطار المعرض الضخم الذي يخصصه له مركز بومبيدو يدرك الى أي حد كان هذا الرجل قارئا بارعا ويتفهم افتتان جمهور الطلبة والمثقفين به، هؤلاء الذين كانت تزدحم بهم قاعة المحاضرات الثامنة في الكوليج دو فرانس في الفترة الممتدة بين عامي سبعة وسبعين وثمانين حيث كان يواظب علي إلقاء محاضراته كل يوم سبت. والواقع ان عددا كبيرا من الذين كانوا يحرمون أنفسهم من لذة النوم المتأخر ويستيقظون باكرا لحضور دروس السبت الصباحية كانوا خليطا من المثقفين والمبدعين والباحثين الشباب الذين كانوا وما يزالون يرون في بارت مثال المبدع الفذ العصي علي التصنيف العابر للحقول المعرفية المختلفة الذي يحول المحاضرة الى تمرين علي طقوس العيش الجماعي وكأن الأمر يتعلق بقبيلة فكرية تربط بين أفرادها متعة الكتابة والقراءة ومن هنا عنوان احدي محاضراته الشهيرة : كيف نعيش مجتمعين.
ورغم مرور اثنين وعشرين عاما علي اختفاء رولان بارت فكتاباته مازالت تحظي بحضور قوي بل إنها تكتسب مع مرور الزمن راهنية متجددة وقراء جددا يستلهمون أفكاره وطروحاته في تناولهم لمواضيع كان بارت سيهتم بها لا محالة لو أمهله العمر عقدين إضافيين من الزمن مثل الهاتف النقال أو العولمة أو موسيقي الراب الخ... والطريف ان اسم بارت بالفرنسية Barthes ينتهي بحرف السين الدال علي الجمع. وهذا يعكس فعلا حقيقة هذا المثقف المتعدد الأوجه والأقنعة. فهناك بارت عالم السيمولوجيا والبنيوي الصارم وهناك بارت المثلي المتعود علي السهر وارتياد الحانات وبارت مفكك السلوكات الاجتماعية والعاطفية وبارت عاشق المسرح..الخ وإذا كانت بعض أوجهه قد أصابتها الشيخوخة خصوصا تلك التي كان يحاول من خلالها الظهور بمظهر العالِم النصي الجامد فان بعضها الآخر ما يزال في غاية التوهج والراهنية لأن بارت كان ابنا لعصره ومنصتا شغوفا لاحتداماته وكان قادرا في ذات الوقت علي التحليق بحرية بعيدا عن فخاخ سياقاته الإيديولوجية.
عمال بارت وكتاباته تدهش بتنوعها وعبورها المتقاطع لعدة حقول معرفية من أدب ونقد وسينما ومسرح وموسيقي وانفتاحه علي كل ما قد يخطر علي البال من موضوعات لم تكن تلهم أبدا أقرانه (ياقة القميص واللحم المقلي وجه غريتا غاربو والإشهار والأزياء وطواف فرنسا للدراجات...) كما ان منهجية بارت غير ثابتة وقابلة للتحول باستمرار فأحيانا نجده يرتدي ثوب النقد الموضوعاتي علي طريقة غاستون باشلار وأحيانا اخرى بنيوي صارم في كتابه نظام الموضة. كما ان رؤيته الإيديولوجية لم تكن ثابتة فمن الماركسية المتأثرة ببرتولد بريخت الى الالتزام الوجودي ثم الشكلانية المفرطة في دفاعه المستميت عن الرواية الفرنسية الجديدة وأقطابها مثل ألان روب غرييه وفيليب سوليرز انتهاء بتبنيه لرؤية متعية وحسية تجعل من الجسد ورغباته حجر الزاوية في عمليتي الكتابة والقراءة والنقد. لهذا فهو قد يظهر متناقضا لأول وهلة لكن قراءة متأنية لأعماله تظهر خيطا رفيعا يصل بين أعماله ورؤاه المختلفة ونستطيع تلخيصه ربما في مقاومته الدؤوبة لسلطة اللغة المؤسسة عبر تعرية بنياتها ودلالاتها.
واللافت ان مسار بارت لا يشبه كثيرا مسارات أقرانه من المثقفين الفرنسيين الذين طبعوا القرن الماضي كجاك لاكان وميشال فوكو وكلود ليفي شتراوس فهو ابتدأ الكتابة متأخرا ونشر اولى أعماله في الأربعين من العمر. كما انه لم يستطع إكمال تعليمه الجامعي بسبب إصابته بداء السل لكن هذا لم يمنعه من تبوأ مناصب جامعية رفيعة لاحقا فقد تم تعيينه مديرا للأبحاث في معهد الدراسات العليا وأستاذا محاضرا في الكوليج دو فرانس حيث تم إنشاء مقعد خاص به بعد تزكية حاسمة من طرف ميشيل فوكو رغم امتعاض بارونات النقد التقليدي في الوسط الجامعي الفرنسي.
خل رولان بارت عالم الكتابة والنشر عام ثلاثة وخمسين من القرن الماضي بكتاب درجة الصفر في الكتابة الذي انتزع الإعجاب بشكل فوري وتحول بسرعة الى مانيفيستو الحداثة النقدية في العالم اجمع. ويتناول بارت في هذا الكتاب مفاهيم اللغة والأسلوب والكتابة مع التركيز علي وظائف هذه الأخيرة كعلامة وكقيمة وكالتزام جمالي متوقفا عند مفهوم جديد سماه الكتابة البيضاء وهي كتابة خارجة عن الأعراف الأسلوبية تردم الهوة بين الانسان والعالم وصلت ذروتها عند البير كامو في روايته الغريب. وانطلاقا من هذا الكتاب وضع بارت مسافة بينه وبين النقد الفرنسي القديم. وما نقصد بالقديم المدارس النقدية التي تحاول تفسير النص من معطيات تقع خارجه سواء عبرا لالتجاء الى سيرة الكاتب أو ظروف المجتمع الخ...
في كتابه ميثولوجيات أو أساطير الصادر عام يحاول بارت عبر تحليل الظواهر والسلوكات اليومية ان يبين كيف تتحول ثقافة البرجوازية الصغيرة الى ثقافة كونية وكيف أن الايدولوجيا ليست منظومة افكار فقط بل مادة محسوسة يمكن تلمسها في سلوك وتعامل الأفراد والمجتمع بل حتى في قدح نبيذ أو موضة أزياء أو فكرة شعبية شائعة. هكذا يعتبر بارت سيارة سيتروين ذات الشعبية الكبيرة عند الفرنسيين آنذاك بأنها المرادف الدقيق لكاتدرائيات القرون الوسطي أبدعها فنانون مجهولون لكي يستهلكها الشعب صورة واستعمالا ويتملكها كمادة ساحرة غنية بالدلالات. ومن السيارة ينتقل بارت الى وجه النجمة السينمائية غريتا غاربو ويبين كيف ان هذا الوجه مرتبط ببعد الجمال المثالي الذي لا شيء يتزحزح فيه. جمال لا نستطيع لا الوصول إليه ولا مغادرته.
اهتمام بارت بالأساطير المجتمعية تبلور في كتاب آخر أصدره عام سبعة وستين وخصصه للموضة تحت عنوان نظام الموضة وهو عبارة عن تطبيق لعلم الدلالة أو السيميولوجيا علي ظاهرة ثقافية مستعينا بأعمال دو سوسير وليفي شتراوس. وميز بارت بين ثلاثة أنواع من الأزياء الحقيقية أو المرتداة ثم الأزياء المصورة وأخيرا الأزياء المكتوبة التي يتناولها بالتحليل عبر محتوي مجلتين نسائيتين متخصصتين في الموضة وهما ايل Elle وجاردان دو مود Jardin des modes.
ما كتاب متعة النص الذي صدر عام ثلاثة وسبعين سيكون علامة فارقة ومنعطفا أساسيا في مسار رولان بارت أحدث ما يشبه القطيعة مع المنهجية البنيوية الصارمة التي ميزت أعماله السابقة. ففي هذا الكتاب ينتزع بارت النص من اسر التطبيقات البنيوية ومن موضوع للخطاب النقدي والعلمي ليضعه في قلب علاقة متعة حسية تفاعلية بين الكاتب و القارئ.
بل ان النص بعد إعادة إنتاجه عبر القراءة والتخيل يصير برزخا يتقاطع فيه المجتمع بالتاريخ ويتحول الى منبع للذة يخاطب جسد القارئ ويبسط عليه غوايته. وإذا كان بارت لم ينزع عن نفسه صفة الناقد بشكل مطلق فانه رسخه كممارسة إبداعية تلفت الانتباه الى ذاتها بدل التقوقع في دور هامشي تائه بين القارئ والكاتب أو الاستمرار في ممارسة النقد الكلاسيكي الذي شبهه بارت بالممارسة البوليسية.
وفي كتابه التالي رولان بارت بقلم رولان بارت الصادر عام خمسة وسبعين يمزج بارت بين السيرة الذاتية أو بالأحرى كتابة الذات والتأمل التحليلي منتقلا من موقع الناقد الى موقع الكاتب المبدع. واستهل بارت كتابه بجملة تحذيرية غريبة هذا النص يجب ان يقرأ علي أساس انه مكتوب من طرف شخصية روائية. هكذا انتقل بارت من كتابة محايدة الى كتابة منحازة كليا للذات تعتمد المجاز والشذرات الخاطفة ذات الإيقاع الشعري. كتابة تنتقل بحرية وبخفة من ضمير الغائب الى ضمير المتكلم دون عقد. إنها كتابة روائية بلا رواية وشعرية بلا قصيدة وتحليلية بلا تحليل كما يقول هو نفسه.
ومع تنامي شهرة بارت وتجاوزها للأوساط الجامعية بعد ان داوم الكتابة في الصحف والمجلات الشعبية مثل لونيفيل اوبسيرفاتور ومساهمته في برامج ثقافية في الإذاعة والتلفزيون انتقل بسرعة من موقع الناقد المثقف الى موقع الكاتب المبدع بفضل الشهرة الكبيرة التي حققها بكتابه شذرات خطاب عاشق وتحوله الى نجم شديد التألق في الوسط الفكري والثقافي في فرنسا وخارجها. ففي هذا الكتاب الذي يبقي من أهم أعماله وأكثرها راهنية أطلق بارت العنان للعاشق الرومانسي الذي يسكنه عبر كتابة غامضة ومحمومة تخترقها ومضات شهوانية بالغة الكثافة.
واستمر بارت في نفس الاتجاه في آخر كتبه المنشورة قبل موته عام ثمانين تحت عنوان الحُجرة الواضحة خصصه للصورة واخترقته ذكري أمه الراحلة. نقطة انطلاق هذا الكتاب ذي الأسلوب المترنح هو الموت والفقدان والحداد. وعنوان الكتاب اشارة مباشرة للحجرة السوداء التي يعتكف فيها عادة المصورون لتحميض الصور وإخراجها. لكن إدراج بارت لصور أمه وهي طفلة بدا وكأنه تأمل فيما ترمز إليه الصورة بشكل عام من غياب وحضور في نفس الوقت. ويبقي هذا الكتاب عصيا عن التصنيف أو لنقل انه مادة أدبية ذات هوية غير محددة والمدهش ان هذا الوصف الذي ينطبق بدقة علي كتاب الحجرة الواضحة وكُتب رولان بارت الأخرى شاع في السنتين الأخيرتين في أوساط النقاد الفرنسيين الشباب لوصف أعمال سردية خارجة عن المألوف تستعير تقنيات الفن المعاصر والسينما والفيديو والموسيقي ويصعب تصنيفها في خانة العمل الروائي الصرف.
يبقي ان نشير الى حب رولان بارت للمغرب الذي أقام فيه ودرس في جامعاته وأقام علاقات عشق مع بعض أبنائه في بداية السبعينات. من دون ان ننسي التسطيح المخزي لأفكار رولان بارت في بعض الأوساط النقدية العربية خاصة المغربية منها. نقول نقدية بين مزدوجتين صارمتين لان دكاترة الجامعات يعتبرون أنفسهم نقادا بسهولة تدعو للخجل لمجرد إنهم ترجموا جاك أو روني أو لصقوا بصلافة مجموعة من الأفكار المسروقة من هنا وهناك في كتب يفرضون علي طلاب الجامعات شراءها. بعض هؤلاء ترجموا بارت الى العربية بلغة مقعرة لا علاقة لها بجموح وعنفوان أسلوب رولان بارت والأنكى من ذلك ان هذا الرجل الذي طالما علم المساءلة والريبة الصارمة والانقياد الى رغبات الجسد تحول الى مومياء عقيمة لم تحرك ساكنا في النقد العربي الغارق في حداثته المفبركة.
كيف نشأت فكرة معرض عن رولان بارت؟ هل افكار هذا المثقف لا تزال حية؟ وكيف توصل المنظمون الى عرض فكر معد أصلا للقراءة ؟ أسئلة تجيب عنها بإيجاز محافظة معرض رولان بارت والمسؤولة عن إنجازه السيدة ماريان ألفان؟
ان مشروع هذا المعرض قد يبدو مفاجئا باعتبار انه غير مرتبط بحدث ما أو ذكري محددة.
لكن نحن منذ عام 1998 خلال الفترة التي خضع فيها مركز بومبيدو لورشة إصلاحات ونحن نفكر في إقامة معرض لمثقف فرنسي كبير. فكرنا في كلود ليفي شتراوس وفي رولان بارت واقر بأنه كان لدي ميل قوي لهذا الأخير ربما لأنني كنت تلميذته وأيضا لان بارت بعكس ليفي شتراوس اسم عَبَر حقولا مختلفة من النشاط الثقافي والإبداعي ويظل اقرب الى اهتماماتي الفنية من شتراوس.
هل تحليلات رولان بارت مازالت قائمة في السياق الحالي؟
بارت لم تنته صلاحيته ان صح التعبير. ولهذا فإننا في إطار المعرض فضلنا ان يُقرأ بارت ويُتناول من طرف فنانين معاصرين مثل ألان كليري وآن ماري جوني وأنطوان دونيز والان فليشير.
ان تحليلات ورؤى بارت لها جاذبية كبيرة وقسم كبير منها سهل وفي متناول الجميع وهي ليست أفكارا دوغمائية وقد حاولنا في هذا المعرض ان نتجنب نحن أيضا فخ الدوغمائية.
كيف استطعتم كمنظمين عرض فكر رولان بارت وكيف توصلتم الى عرض أعمال كتبت أساسا للقراءة وليست للمشاهدة؟
لم يكن هدفنا أبدا الاقتصار علي عرض مخطوطات وكتابات بارت المجهولة ولا السقوط في عبادة الشخصية عبر عرض ملابس بارت أو قلمه أو آخر سيجار دخنه...وبما ان المعرض يهتم أساسا بفكر الرجل فإننا قررنا تتبع مسيرته الفكرية محاولين قدر الامكان وضع كل أطروحة من اطروحاته في سياقها المناسب مع اهتمام خاص بالمواضيع الخارجة عن المألوف مثل كتاباته عن الإشهار وطواف فرنسا للدرجات الألعاب والمصارعة الحرة...
ويتوخي المعرض أيضا إعطاء المفاهيم بعدا ماديا ملموسا صالحا للمشاهدة وهذا ما حاول إنجازه الفنانون المساهمون عبر المزج بين الأشياء والصور والكتابة. وتبقي الوسيلة الأكثر نجاعة لعرض فكر رولان بارت هي القطعة التي سميناها الملف وهي عبارة عن حائط كبير طوله اثنا عشر مترا وعرضه متر فاصل ثمانين مكون من جمل واستشهادات وحواش مختارة من نصوصه. عبر هذا الحائط يري المشاهد بالفعل صورة الرجل في سيرورة أعماله وشذرات من فكر حي في طور الاشتغال.
لا أدري لماذا اربط اليوم وأنا أعيد قراءة رولان بارت بين تأثر نقدنا العربي الحديث بما قدمه وبين ما كانت تعانيه ثقافتنا العربية بعد الهزيمة العربية الكبرى هزيمة حزيران عام سبعة وستين.
الربط أو إقامة علاقة بين منظورات بارت في اللغة الأدب والكتابة والقراءة وبين هزيمة هي حدث وسياسة قد يبدو أمرا هجينا مستغربا وربما مضحكا إذ ما الذي يربط بين نقد للنصوص وفهم نقدي للحدث، بين ما هو كتابة وما هو فعل يحدث علي الأرض. ربما هي الهزيمة نفسها أفكر تدفع بنا نحن فئة من الكتاب والمثقفين الى البحث عن منافذ بها نري الأمور في مواضع غير قارة أو غير قائمة هكذا بين الأبيض والأسود. بين ثنائية قاتلة. مواضع تشي بشيء من الأمل دون ان تكونه. مواضع ملتبسة شأن الكتابة في حقيقتها كما يقول بارت.
وهي متروكة للقراءة المختلفة. لماذا لا نقرأ الحدث بصفته كتابة ؟ يبدو أن مرد تأثر نقدنا العربي الحديث ببارت في السبعينات بعد الهزيمة في وقت صار التأمل فيها، أي في الهزيمة، ممكنا هو نزوع في ثقافتنا العربية المستجدة لقراءة المجريات والوقائع لا بصفتها واقعة فردية راهنة ولها فاعلها الفرد بل بصفتها نصا يتألف من كتابات متعددة تنحدر كما يقول بارت من ثقافات عديدة تدخل في حوار مع بعضها البعض وتتحاكى وتتعارض.
ما النقطة التي يجتمع عندها هذا التعدد فهي كما يقول بارت أيضا ليست المؤلف وانما هي القارئ. لماذا لا يكون الحدث شأن النص مساحة أو فضاء للتداخل والتقاطع والتشابك وبالتالي مساحة لقراءة تطرح علينا أكثر من سؤال. سؤال حول علاقة الحدث بالتاريخ وبإحداث أخرى. والسؤال حول علاقته بالفاعل. هل للحدث فاعل فرد ؟ أم ان الحدث بما هو تداخل وتشابك صار بفعله هذا هو الفاعل والسؤال حول علاقة الحدث بالسلطة هي سلطته.
والسؤال حول علاقة الحدث بالمجتمع. كأن الحدث بأسئلته هو لحظة التقاء بين حوادث لها تاريخها ولكنها في التقائها التشابكي لم تعد ذلك التاريخ. إنها شأن الكتابة تعلن درجة الصفر.
ن وقوع الحدث هو درجة راهنيته التي فيما هي تشي بالتاريخ لا تعود تاريخا. هل هذا يفسر تأثرنا ببارت منذ ذلك الزمن؟ هل هو بحثنا إذ نعاني انكساراتنا عن منافذ عن فسحة نمارس فيها قراءتنا المختلفة لما نقرأ من نصوص وأحداث ومصائب ؟
وكنا نسترشد بمفهوم للدلالة هو في مباحث بارت يقول بان الدلالة ليست جاهزة بل هي وليدة العلاقات الخفية في نص مات مؤلفه. أي في نص أصبح يشبه ما نملك أو ما يمكن ان نقرأ فيه بحرية تمنحنا لذة فيما نمنح نحن النص حضورنا القارئ. ونسأل هل مات فعلا المؤلف ؟ ان مسألة موت المؤلف قد تعني في قراءتنا للحدث انه لم يعد هناك من مسؤول فرد.
فثمة تاريخ وثمة سلطة لهذا التاريخ ولكل مكوناته. إذاك ألا يكون علينا نحن قراء الحدث ان نعود الى هذا التاريخ بصفته نصا في الحاضر ان نقرأ حاضر الحدث المكتنز بأكثر من حدث نعانيه هزيمة وانكسارا ووجعا وليس متعة أو لذة. ألا يكون علينا ان بحث عن سلطة في النص الحدث وفي كل ما هو حولنا ؟ فالسلطة كما يري بارت متعددة مثل الشياطين وحاضرة في أكثر الآليات التي تتحكم في التبادل في الدولة وعند الطبقات والجماعات ولكن أيضا في أشكال الموضة والآراء الشائعة والمهرجانات والألعاب والمحافل الرياضية والأخبار والعلاقات الأسرية والخاصة. لماذا لا نبحث عن السلطة في كل هذا ؟ وأسأل وفي المرجعيات بامكاننا ان نجتهد فلا نستبعد المرجعيات بل علينا أن نجتهد كما اجتهد بارت هو الذي ترك الباب مفتوحا إذ معه كانت البنيوية سيرورة وامتداد واختلاف لأنه لم يقف عند حدود قوانينها. من منطلق ضرورة الاختلاف اقرأ بارت واطرح أسئلتي. أطرحها حول المرجعية والإحالة ووظيفتها.
من رؤية العلاقات وتحديد المكونات ذهبتُ الى التأويل باحثة عن أثر المرجعي في الشكل الدلالي. قرأت بارت لأنساه، فأثره يتحدده وفق منظوري بغيابه وبالأسئلة التي وجدت نفسي أنوع عليها.
الأسئلة التي يمكن ان تكون إلا أسئلة منا. أسئلة من زمننا ولزمننا. أسئلة من واقعنا وعلي واقعنا. إنها أسئلة ثقافة تطرح علينا سؤالها ونحن نخوض جدل الأسئلة. مثل هذا الجدل عاينه بارت نفسه فتعدد في نتاجه وتنوع وفرض بحثه علي الأسطورة والحب والكتابة والأزياء. جدل الأسئلة يتنقل بحرية ليقول الكتابة حقيقة ملتبسة. وتتنقل الأسئلة فيما يشبه الاختلاف.
اختلاف السؤال عن السؤال والدلالة عن الدلالة وتبقي الفتنة. الفتنة بقرائته فتنة لا يعرف القارئ كيف تتسرب لذتها إليه.
القدس العربي
2003/01/18
إقرأ أيضاُ