فاضل العزاوي ، او احد رموز جيل النفي الأول او الثاني ، او كيفما شاءت قريحة المصنف عبر أزمان التأخير والتقديم ، لجملة شعراء وكتاب ظوافر ، ممن آثروا اللجوء الى مديات ذواتهم المبدعة والنائية عن اللا رؤيا ، وبعيدا عن صخب ألم ، إفناء الإنسان لوجود أخيه الإنسان ، ولعل دفتر الأيام الرائع ، ذلك الذي كتب في أذياله بلاغ تمنيه الشعري الرائع : " قد تأت الثورة ، ملتفة بعـباءة بدوي " وغيرها من رسومات قصائد ذات وقع يشير الى نبؤة كونه ضياء من نجوم أمة صارت تفتقد الحضور والتألق والامتداد .. وكما يشير في مطلع قصيدته " هارباً أصلُ نَهراً "
هاربا ً من حصن منيع
تذرعه وحوش تقضم ملائكة
من معتقل يلتمع مثل راية مخروقة
يوقد أعراب الصحراء نيرانهم أمام أبوابه المغلقة
ويطلقون كلابهم النابحة ورائي
التقي البومة جاثمة على شجرتها
والغيوم ترعد، متدافعة، مثل جيوش في حرب
فأدخل واديا في متاهة لرغبة مستحيلة
واترك آثاري فوق الصخور
للقادمين بعدي.
يف للوحوش من ان تذرع - في مجيئها وذهابها - هذا الحصن المنيع ،
من أين جاءت هذه الوحوش ؟؟
وكيف تأتــى لها ما حرصت وكانت تصبو إليه ؟؟ ،
تلك الوحوش أو سبّـة أبدية الولادة ، على أرض تحتضر منذ قرون ، حيث غدا لتلك الوحوش موطيءٌ معمّق النهج في الجريمة وكلاب مسعورة مروضة على خرق ناموس التآلــف والسلام ، وما بين - الحصن المنيع - الوحوش - الملائكة - ومن ثم المعتقل - الكلاب - أعراب الصحراء - البــوم - الغيوم المتوحشة ، وصولاً الى الرغبة المستحيلة ، فإن ثمة صور شبيهة بصور الولادة ، أو هي الولادة بعينها وكأنها الإنعتاق أو الولادة الخروج نهائيا ، الى مطلق رؤية مــا ، عبر التشبث بعناصر طبيعية ، وأخرى تكون عصيـّـة على التصنيف والتماثل والتناظر ،
مالذي يحدث على تلك الأرض ؟؟
وعلى مَ ، ولم كل هذا البكاء ؟
، وهو الذي يعقب عليه الشاعر بإرادة بيانية مــا :
معابدُ كثيرة تركتها للغزاة
وأخرى طوقتها بالأسلاك الشائكة
أقفلتُ أبوابها بالشمع الأحمر.
هاربا أصل نهرا تعبره بغال محملة ببنادق
يجرها لصوص عائدون من جبال مغطاة بالثلج
تقصفها المدفعية من بعيد
مدن تُقفل أبوابها
من رأس حراسها تأكل الطير.
هناك اذ الأعمى يبلل إبهامه بلسانه
ويعد دنانيره المخبأة
أقلبُ أعوامي الكثيرة
جامعا إياها بالملقط من الخرائب
مثل لآلي أقلد بها عنق الأشباح
عارفا أن الذكرى دفتر توفير
في شتاء الشيخوخة القارس
والحياة
هي ما تراه العين بعد اليقظة الأولى.
فهي الحرب إذن وها قد تبقى من تبقى ، أو ابقي عليه ليغدو توثيقا ـ لرؤيا مدينة - هي الوطن - والأمة الأمس ، امة في كنايات الأبعاد الشعرية ، بغال تحمل آخر توجهات يد القتال ، دليلا على بداية الحامل والمحمول واعتدة على >مة الصورة الشعرية ، ستغدو صدأة الملمس والاستخدام .
ان الشاعر ليظفر دوما ، بجملة ما ، بألم ما ، دون بقية الجمل وآلام الابتكارات ، لخلف أثرا ما ، ويثير اديولوجيا مفخخة ، قادرة على الدحض والإبدال ، انه طواف اختيارات الأثر ، في لا وعي تلك الشعرية الخلاقة ، وعبر محطات الشدّ النفسي بين قسمات وخرائط القصيدة الأم :
هناك اذ لا مدينة في نهاية الرحلة
أقيم مدينة تتكيء على قلعتها القديمة
وأسير مع مجانينها العائدين في الليالي من المقاهي
مطلقين أغنياتهم للنجوم.
لقد ظفر التمرد بزمن ما ، وقد أوغل عبره ، حتى استراح في جبهته النبيلة ، وهو الآن في مطلق حرية الروح ، اذ يجيء الغناء ـ تيمّـنا بببهجة حرية ما ، في احتفالية ما ، تقلب جمالية الأضداد ، وهو الى غدوه النبيل على أهبة الاستعداد لإقامة مدينة تتكئ هي الأخرى على وجود قلعتها القديمة .
وفي تتويجه للرؤية لمغزى الرؤية الشاملة يضع الشاعر عنوانا مبجلا لقصيدته : نشيد في شوارع الجزيرة العربية " حيث يعاود الوصول الى قلب الجزيرة العربية مستهلاً ورود جماله الى ينابيع الحنين بلـغة تشبه لغة شعراء التروبادور - الشعراء الرحل :
نحن الشعراء المبتهجين الممتلئين سلاما ً نخرج للنزهة في وادي العشاق،
نغنـّي كالأطفال نشيدكِ يا صحراء العرب المسجونة في الأحلام.
نسري تحت خباء نجوم تتدلى موقدة فوق الكثبان الى المدن الملغومة
بالأعداء، مخضبة بجراح ضحاياها الأبديين المرميين على الرمل، نهلل
للأسلاف المنحدرين من الماضي في عربات المستقبل، طالعة من جسد الأيام، كأشباح هائمة في طرقات الأجيال
نتسلل مثل لصوص في ليلك بين الأسوار ونهدم في الريح العاصفة الرملية
بأظافرنا أسوار سجونك، غائمة بين غيوم، جارحة مثل بكاء في مركب نوح مثقوب، نقلعها حجرا حجرا، في كل رماد في واديك نموت ونحيا ونقول :
سلاما ً يا قائدة البدو المحتشدين أمام خليج العالم!
الشاعر غريب عن الأمــة ، هذه الثيمة ، هي جل ما ينبو عن معترك هذه التتويج - فالشعراء الممتلئين سـلامــا ، هم أول من يعلن العثور على ألغام الأعداء ، الألغام البشرية ، وندرة ان يمضي الشاعر ، وهي الثراء الإنساني برمته ، بصفته الممثل الأبدي لرؤيا الأمة والوطن والقبيلة والأفراد ، وبصفته الأكثر ألما ، لما يعتمل بين جوانحه من الأفكار ولما يضج في مخيلته من الصور المركونة التي ما عادت سوى أظافر تهدم أسوار سجون سيئة الطالع !!
وهم في خضم مسراهم الجمالي الرعوي ، يتحولون الى لصوص ، فيما يذهب فاضل العزاوي الى مبالغة ذات استعارة لغوية موهمة ، وعبر صراخه : " ونهدم في الريح العاصفة الرملية " فقد استعار فعل الهدم لجنس -الريح - وعادت ما يعبر عن الصرف والإرسال للرياح ، كما يرد قرآنيا ، او كما كانت تطلق فعل ( السهاء ) مثل قولهم : هذا حسين تسهي عليه ريح الصبا - وربتما ، ان مخاض الألم لهول ما يراه المنشيء اللغوي ، وهو الشاعر هنا لعقبات المرور الى ضاقه الآمنة ، هو ما يملي على مخيلته ، خذا الاختيار المركب ، غير انه وعلى النقيض من ذلك يقف في ما لا وقوف فيه ليعلن ما يعلن :
في النار وقفتُ لأكتب تاريخكِ في دفتر أحلامي الضائع
في النار فتحتُ المستقبل موعودا ً نافذة لي
وصعدتُ الى أعرابكِ، منحدرا ً من آخر برق ٍ في هذا الأفق النائي
متشحا ً مثل نذير مهموم برداء خساراته يمضي بين مغول يلتهمون قلاعك في الظلمة
فاجتزنا في وحدتنا الأنهار المفروشة بالطحلب والعوسج والبردي
جيش وثنيٌ في وادي الآلام. سألتُ، حيث يسيل الدم من نبع في خاصرة الأرض:
أأقدرُ أن أحذف هذا التاريخ الدموي وأكتب تاريخي وحدي؟
فها هو يصد الى الإعراب وهم من دخل من الأعاجم في امة العرب فأصبح عربيا ، في النسب والمعيشة والتواجد غير العرب الأصل طبعا ، غير ان الوصول إليهم ضرورته - رداء هموم الخسارات - فهو يحتضر من رؤية المغول كاحتضاره لرؤية الأعراب ، وغياب ذلك النسيج الذي اتشحت وتتشح به أمة الشاعر ، وهو وشاح الفعل والأثر الوجودي ، وهي الضرورة التي تجعل من فاضل العزاوي شاعر معنى وفير التعبير وذات جزالة محفوفة بصدق الخواتيم ، وكما هي الصورة عند سعدي يوسف وعيسى حسن الياسري وعبد القادر الجنابي وعبد الحميد الصائح ورشدي العامل ومحمد مظلوم وعنان الصائغ ، إنهم الشعراء الذين يعدون نتاجهم المعرفي الشعري ، واضحا وجليا ، بعيدا عن اطر وضربات حداثة مفتعلة ، موهمة وموحشة :
في ليلك أصرخ يا صحراء جدودي مبتهجا:
ليعمْ وديانك ِ حبي
حتى ان كنت ِ ترابا ً مغسولا بدمائي
أو وطنا ً من دمع يُسكب ُ فوق حجارك ِ في الفلوات
نهرا ً يجرفني حتى آخر مرسى في ضفتي
سيفا ً في عنقي
أو بلطة جلاد في أطرافي
بدويون يعانون الوحشة!
بدويون بروح وبدويون بلا روح
يسرون كأسرى أبدا ً في السيل العارم
مشدودين الى قاربك الجانح!
بدويون يلوذون بنارك من أنفسهم في العتمة
بدويون ينامون على كتفيك لينسوا في وحدتهم ضجر الأعوام، تلفّ على مغزلها الدائر.
آهٍ، هات يديك، اقتربي مني يا صاحبة تاريخي
فأنا الواقف بين الموجة والموجة،
كل حرائق ثورات العالم، هادرة ً تبدأ مني
أتسلق سلمكِ الممتد الى آخر َ روحي في معراجي
أبحث عن كنزك مدفونا ً في ذاكرتي
أصعد فوق الصخرة في تلّ يعصمني
مكتويا ً بالعنة والحمى وأنادي:
أين النسغ الساري في أعراق الأشجار؟ وأين العربي القادم من منفاه يواسي نفسه مثل ملاك ٍ مطرود في الأغلال؟
آه أنت الاخري، أيتها الممتدة كالصرخة اطرقي
امبلجي، انبثقي
في وجه قوافلك المنسية تائهة في بيداء الربع الخالي
خارجة من جرح الأجيال!
انفتحي، احترقي
بشموسك أحملها أبدا ً في كفي،
أدلقها واحدة بعد الأخرى من أجلك فوق ظلام العالم،
لأضيء وامضي، يكبرُ بي ألَقي،
فأنا الوثني موعودَ أرى الرعد، أرى الأبحر الخالق يأتي، أرمي نفسي في لجته،
أغرق فيه وفي فمي الكلمة، أطلقها مثل نشيد سريّ
أتردد بين الحاضر والماضي. أسأل: هل أصعد أم أهبط في واديك السحري؟
وكيف أشق طريقي في بيدائك إن لم يغمرني فجرك، مطليا ً بنجومك
تومض في درب التبانة؟
فأراك مجللة بسوادك تأتين إلي ّ الليلة َ بعد الأخرى لتناديني
فنسير معا نتنزه بين خيامك في الجنة
ونشمّ ربيع جداولك المسكوب في الواحات.
ها أنذا آمل أن أعبر وديانك نحو مضارب آبائي
أن أجلس في فردوسك، هذا المنسيّ أناجي أيام الإنسان طالع مثل ربيع في غابة
من كل رماد مسكوب في الريح
من دم ٍ مسفوح في البرية
ها أنذا أسمع أجراسك تقرع،
أسمعها أبدا تقرع صاخبة لي.
آه، في الليل وقد صلب العاشق والمعشوق هنا في حفلك، هذا القائم من أجلي أبدا، حيث يغني قديسوك المهوسون قصائدهم للريح
في الليل وقد فار التنور علينا
أيقظت رجالي. سافرنا في الأمطار الى أوطان لا تعرفنا
فرأيت البحر امرأة حبلى بي والملك مجنون
بالسيف يموت.
يتها الراعية المسحورة في خيمة أجدادي، يا ناهضة كالشمس المرة في مملكة البدو المخمورين من العشق، أنا العاشق أجرع من قربتك الملأى خمري.
في صوتي غضب الريح، أنا البازغ من نفسي، جسدي الصحراء الليل الموت الغابة والمنفى. هل أهرب من نفسي أم أترك مرتعبا لذئاب عاوية أبدا حسدي؟
في واديك الهجور أرى أجيالا تصعد نحو قرآ العميان
وأنا أبحث عن خاطة لتضاريس حياتي
فيفور على قدمينا البحر الآتي
ونعود مع الموجة، مطرودين الى ساحلك الرملي
لنبدأ رحلتنا ثانية قبل وصول الطوفان.
عد مجروحا ً بحياتي بين طريقين
وأقصد ينبوعا يتدفق بين صخور
أتجول في أحلامي فألاقي رجلا مجنونا يشبهني
يتقدم صوبي في قافلة تزحف غاضبة
تطلب رأسي
تتحرك قربي غابات موحشة
فأضيء كبرق فوق رؤوس الأشجار
وأؤاخي في ليلك نفسي
آه، أين الإنسان المطرود من الجنة؟
هذا الجالس في مقهى العالم يصطاد الألفاظ؟
هذا القادم من حرب خاسرة أبدا ً؟
هذا الواقف عند بيوت المنفيين؟
آهٍ أطلق صرختنا حتى إن لم يسمعها أحد في الريح
حتى إن ظلت خرساء على فمك ِ الأخرس
وتعال ادخل مملكتي من نافذتي المفتوحة من أجلك منذ عصور
لنؤلف جيش العودة، حيث نقاتل في صف المنسيين
ونبني عاصمة أخرى للعالم.
كتابة ثانية لقصيدة "هاأنذا أصرخ في شوارع الجزيرة العربية"
المنشورة في العام 1969
عباس الحسيني - شاعر ومترجم - الولايات المتحدة
abbasalhusainy@yahoo.com
إقرأ أيضاُ