ما هي أحوال الأدب اللبناني الفتيّ اليوم؟ هذا السؤال نريد به تحديداً أن نعرف هل هناك جيل أدبي جديد، ومن هم الشاعرات والشعراء، الروائيات والروائيون، الناثرات والناثرون، السرّيون والعلنيون، من الذين لا تتعدى أعمارهم الخامسة والعشرين أو أكثر بقليل وتستهويهم الكتابة أو يملكون من التجارب الأولى والصفات ما يجعلهم حقاً كتّاباً فعليين؟ أين هم هؤلاء وماذا يكتبون وأين ينشر الذين يبحثون منهم عن الضوء، وأين "يختبئ" الذين منهم لم يتعرضوا لأشعة النشر حتى الآن؟ فإذا كانوا موجودين، الى أيّ حدّ هم يشكلون تياراً أدبياً لبنانياً، جديداً ومختلفاً، يشقّ طريقه في عوالم القصيدة والرواية والنثريات، ويكوّن حياة أدبية خاصة به ويقيم نصاباً مغايراً في التجربة اللبنانية المكتوبة؟
نرفع هذا السؤال لأننا، أولاً، قد نكون مقصّرين حيال هذا الشأن، ولأن دورنا، ثانياً، أن نرفعه، ولأن الطقوس الأدبية اللبنانية تركت لنا، ثالثاً، تراثاً عريقاً في هذا المجال، وضع أسسه وأكمله شعراء وكتّاب وصحافيون وناشرون، مدى العقود، طوال القرن الفائت، وخصوصاً منذ أواخر الستينات، عندما شغفوا بالتنقيب والعمل المتواصل بغية الكشف عن الكتّاب والفنانين الجدد ونشر تجاربهم وتعريضهم لضوء الصحف والملاحق والمجلات والكتب، فصار بعضهم شاعراً وبعضهم الآخر روائياً وبعضهم الثالث ناقداً وناثراً وفناناً. وهلمّ.
فهذا السؤال، إذاً، شرعي وطبيعي بل ضروري، لأن هذه هي وظيفتنا الحقيقية: أن ندفع في اتجاه تفجير الكامن وقدح صوّانه ورفع الحجاب عما يعتمل في باطن التجربة اللبنانية، لتمكينه من أن يحيا (أو يموت) بفعل التعرض للنور، كما بفعل دينامية الاحتكاك والاختبار.
أين هي الكتابة الأدبية اليوم؟
هذه الدعوة ليست امتحاناً لأحد، وهي خصوصاً ليست امتحاناً للجدد. وإذا كان ثمة امتحان فهو لنا نحن الذين نكتب. ليس لأننا، في معنى ما، ناشرون، بل لأن بعضنا قد يشعر ب"الغيرة" من الجدد لأنهم جدد، وقد يشعر لا شعوريا ب"التحدي" لأنه "مهدَّد"، وإنْ كان هذا الشعور في غير محله. فإذا كان السؤال يخفي شيئاً فهو لا يخفي سوى بعض اللوم للذات، لأننا متكاسلون ربما. فنحن لم نستطع أن نكتشف حتى الآن ما إذا كان هذا الجيل الجديد المفترض والذي نسأل عنه، موجوداً، وما إذا كانت ملامحه ومكوّناته وعناصره تتيح له أن يوسّع "المكان" الأدبي ويخلق فضاء أدبياً خاصاً لنفسه.
إنه إذاً محض سؤال يريد أن يعرف فحسب، ويريد أن يساهم في إتاحة المزيد من الرحابة لكي يكون "المكان" اللبناني، ولكي يكون هذا المنبر، هذا المنبر تحديداً، وكل أمكنة النشر والتواصل الأخرى، أكثر اتساعاً وديناميةً واختباراً.
فالسؤال تحريضي في معنى ما لأننا نريد أن نعرف أيضاً هل من لغة لهذا الجيل، وما هي هذه اللغة؟ هل من كتب يقرأها هذا الجيل؟ هل من كتّاب يحبّهم ويتأثر بهم؟ وما هي ثقافة هذا الجيل؟ أيقوناته؟ أوثانه؟ همومه؟ هواجسه؟ اختباراته...؟
من جهة مقابلة، نريد أن نعرف أيّ موقف يقفه هذا الجيل المفترض من "آبائه" وسابقيه؟ وهل له "آباء" وسابقون؟ هل قرأهم؟ وإذا كان قرأهم ماذا جنى من هذه القراءة؟ وأين يختلف عن تجارب "الآباء" و"الأشقاء الكبار" و"الأشقاء الصغار"؟ وأين يستعيدها؟ بل أين يخرج عليها خالقاً نفسه بنفسه وصانعاً لذاته تجربة خاصة به، لها لغتها وإيديولوجيتها وأيقوناتها وأوثانها؟
نريد أن نعرف إلى أيّ حدّ لا تزال أجيال الذين سبقونا وأجيالنا والذين جاؤوا بعدنا، الى أيّ حدّ لا تزال هذه الأجيال كلها، على ريادة هذا وعلى خصوصية ذاك، وعلى اختلافات هذا أو ذاك عن غيره، الى أيّ حدّ لا تزال هذه الأجيال حاضرة في ذهن هؤلاء الجدد؟ وهل ستجد لنفسها "مكاناً"، هنا والآن، تحت راية الجيل الجديد والموعود؟ والى أيّ حدّ لا تزال الحداثة الأدبية التي تفجرت بعد منتصف القرن الفائت قادرة على أن تفعل فعلها وتحضر في خصوصيات اللغة الأدبية الراهنة لهؤلاء الجدد المفترضين وفي ثقافتهم "الحياتية" الراهنة وتواكب معالم هذه الصورة والتأثير فيها سلباً أو إيجاباً، والمشاركة في تظهيرها وفي "التعايش" معها؟
في اختصار شديد: نريد أن نعرف هل انتقلت الكتابة الأدبية، اليوم، الى ضفة أخرى من الكتابة؟ كأن تكون قد صارت "ضد" الكتابة مثلاً؟ هل نحن في عصر الكتابة التي تنقض الكتابة؟ هل انتقلت التجربة الأدبية اللبنانية الى "مكان" آخر؟ هل هي تستخدم "لغة" أخرى؟ وإذا كان العالم الأدبي بات معولماً، فأيّ عولمة أدبية وثقافية يعيشها هؤلاء الجدد المفترضون؟
هذا بالطبع سؤال متعدد ومركّب وهو ذو غاية معرفية حصراً. فنحن نسأل لأننا نريد أن نكتشف ونعرف. نريد هذا لنعرف "موقع" الأدب أولاً، أي الأدب في معناه التاريخي والثقافي والحداثي. ونريد أن نعرف "موقع" اللغة، كأداة مطلقة للحداثة. أين هي وكيف تُستخدم. هذا لكي نعرف كيف نشارك في الإفساح في المجال ليكون لهذا الجيل المفترض حقّه في النشر والتفاعل والحياة. ذلك أن مكانه هو هنا، بيننا، على مدى هذه الصفحات، وفي الكتب خصوصاً.
نحن لا نعرف، لذا نحن نسأل. وما نقرأه من شذرات في الصحف والمجلات اللبنانية لا يضع بين أيدينا ما يكفي للقول بوجود جيل أو للقول بعدم وجوده. سنعثر على قصيدة هنا، على تأملات هناك، على قصة قصيرة ومقال هنالك، وعلى كتابة تقع بين بين، وربما سنقرأ كتاباً نشره أحد أدبائنا الجدد، لكن هذه المعطيات لا تتيح لنا أن نكوّن صورة متكاملة وحقيقية لهذا الجيل، للغته، ولخصائص الكتابة لديه.
ماذا يجري في الجامعات؟
إذا كانت الجامعة اللبنانية قد شاركت بعمق، في الستينات والسبعينات، في صناعة وجه لبنان الثقافي والأدبي، وفي بلورة مخبريته الإشعاعية، ومعها معهد الآداب الشرقية في جامعة القديس يوسف ودائرة الأدب العربي في الجامعة الأميريكية، فنحن مثلاً لا نعرف ماذا يجري الآن في "مختبر" هذه الجامعات وفي الجامعات التي نبتت هنا وهناك؟ هل لا تزال المؤسسات الجامعية وكليات الآداب والعلوم الإنسانية حصراً تضطلع بدور فعلي في صناعة وجه لبنان الأدبي والثقافي؟ لا نريد أن نكون متشائمين وسلبيين حيال هذا الدور المتراجع نوعياً، لكننا نشعر أن الجانب الخلاّق في دور الجامعة عموماً منحسر بسبب عوامل متعددة لا مجال للوقوف عندها الآن. لكننا نريد أن نسأل: ماذا يفعل الأساتذة والأكاديميون، وخصوصاً أساتذة الأدب، وهل هم يشاركون في مختبر العملية الأدبية الحديثة؟ وأين هي الجامعات من الأدب اللبناني الحديث والحيّ؟ وهل ثمة بين الأساتذة من يعرف هذا الأدب حقاً ويوليه اهتماماً نقدياً؟ وما هي اهتمامات طلاب الآداب والعلوم الإنسانية عموماً؟ هل هم "تلامذة" يحضرون الحصص الأكاديمية ويُلقَّنون المعرفة ويدرسون المحاضرات ويحفظونها، أم هم يشاركون في صنع الثقافة؟ هل يكتبون وماذا؟ وهل لا يزال مجال العلوم الإنسانية موئلاً للمشاركة في صناعة الحياة الأدبية والثقافية اللبنانية؟
ربما يعود هذا النقص في المعرفة والإطلاع، الى تقصير نرتكبه ومنابرنا. ربما سببه أيضاً هذا التشتت الهائل في المراكز الجامعية: من الشمال الى البقاع الى الجبل الى الجنوب، ومن هذه كلها الى بيروت، هناك وهنا. وربما سببه ثالثاً أننا بتنا وبات معنا صحافيو الصفحات والملاحق والمجلات الثقافية "نأنف" العمل الميداني الذي يطرح الأسئلة ويعالج الموضوعات الساخنة ويبحث ويلاحق ويكتشف ويميط اللثام.
إذا كانت هذه هي حال الأدب في الجامعات، فالصورة ليست على هذا المنوال في عالمَي الفن التشكيلي والمسرح، لأن الجامعات والمعاهد "تخرّج" والبعض يقول "تفرّخ" رسّامين ونحاتين وممثلين ومخرجين،. وأعداد هؤلاء بالمئات بل ربما بالألوف. وهذا ليس في ذاته حقيقة سلبية أو إيجابية، لكن من شأنه أن يفجّر سؤالاً كبيراً: ماذا يريد هؤلاء وكيف يريدونه وما هي الوسائط المعرفية التي تمكّنهم من تحقيق ذلك؟ فضلاً عن أن هذه الحقيقة تفجّر سؤالاً كبيراً آخر: من هم الذين يتولون العملية الفنية في هذه المؤسسات الجامعية؟ هل هم أساتذة وملقّنون أم هم فنانون وخلاّقون وتقنيون يملكون من المؤهلات ما يمكّنهم من بلورة الدور الحقيقي الذي يجب أن تكون عليه هذه المؤسسات؟ هل نحن سنكون أمام مشكلة كبيرة على أرض اللوحة وعلى خشبة المسرح وفي المجتمع، من خلال آلية عمل المعاهد والكليات التي تخرّج فنانين وحاملي شهادات بأعداد كبيرة فنكون، والحال هذه، أمام "تخمة" فنانين ومسرحيين تشبه أزمة العاطلين عن العمل في مجالات العمل كلها وخصوصاً في الهندسة والطب والمحاماة والكومبيوتر والتكنولوجيا و... العلوم الإنسانية؟ فمن شأن هذا الأمر أن يدفعنا الى كشف النقاب عما يجري في معاهد الفنون جميعها لطرح السؤال الأساسي حول وظيفتها ودورها ومبتغاها.
تذكير بالعصر الجامعي الذهبي
نعود الى الأدب لنتذكر بالطبع كيف كان الوضع في سبعينات الجامعة اللبنانية مثلاً. ولنتذكر خصوصاً كيف أن كلية التربية (كلية الآداب أيضاً، وإنْ في نسبة أقل ربما) كانت مركزاً خلاّقاً مصغّراً لبيروت المكان والمناخ والفضاء، حين كانت "مختبراً" حقيقياً لصنع الأدب وتوليده، ومنبراً لإثارة الأسئلة الثقافية والأدبية والإنسانية والسياسية، وكانت الرحم الخلاّقة لإطلاق الشعراء والكتّاب الجدد آنذاك والذين صاروا في ما بعد القسم الأكبر من شعراء لبنان الجدد وروائييه وناثريه ونقّاده.
سنتذكر هذا كله ونطرح السؤال: أين هي الجامعة اللبنانية أدباً وفناً اليوم مما كانت عليه أدباً وفناً يومذاك؟ وهذا مدعاة بحث جدي لكشف حقيقة الواقع الجامعي أدباً وفناً.
وسنتذكر معهد الآداب الشرقية في اليسوعية ودائرة الأدب في الأميركية ودورهما آنذاك في توليد المعرفة والنقد، لنطرح السؤال نفسه عن الدور الذي يضطلعان به الآن في هذا المجال.
سنتذكر منابر ذاك الزمن، دور نشره، مجلاته، ملاحقه، صحفه، وخصوصاً "ملحق النهار" وصفحة جريدته الثقافية. سنتذكر هذا كله، وسنتذكر غيره بالتأكيد مما سطع نجمه في المراحل اللاحقة، لنطرح مجدداً السؤال التحدي: ماذا يجب علينا أن نفعل اليوم لكي نشارك عميقاً في عملية التوليد الأدبية والثقافية؟
طيور العتمة والبرق
نطرح هذا السؤال في حين أننا نعرف تماماً، وغيرنا يعرف، انخراطنا الجوهري (وغيرنا) في البحث الدؤوب والشاق والمضني عن المخبَّأ الأدبي والفني والنقدي، وفي إثارة القضايا والمسائل الخلافية الأدبية والثقافية. نعرف هذه الحقيقة ونعيها تماماً، ومع ذلك نسأل مجدداً: أين هم الشاعرات والشعراء، الكاتبات والكتّاب، الروائيات والروائيون الذين يرفعون شعار "تغيير الحياة"، والآن؟ أين هم طيور العتمة والبرق هؤلاء؟ فاللواتي والذين أعلنوا أنفسهم، فليعلنوا أنفسهم أكثر وأوضح. واللواتي والذين لم يميطوا اللثام حتى الآن عن تجاربهم، أو الذين لم يُتح لهم ذلك، وهم ممن يستحقون، فنحن نمدّ لهم الأيدي لنتعرف الى أدبهم ونفتح للجادين والواعدين منهم الصفحات لتكون منابر اختبارية لتجاربهم ومنطلقاً أول لارتقائهم في معارج الأدب والثقافة.
لقد استقبلنا بحرارة، أعمالاً لشاعرات وشعراء، لكاتباتٍ وكتّاب، كانت مثابة تجارب لافتة يمكن إدراجها في سياق الإجابة عن جزء من سؤالنا الكبير الآنف الذكر. تجارب من شأنها إذا تضافرت أن تفتح أفقاً واعداً في الكتابة اللبنانية الراهنة. لكنها تجارب قليلة، وسنقول إفرادية، وهي تحتاج الى شقيقات وأشقاء لتؤلف مناخاً خلاّقاً وحياة أدبية مختلفة.
هذه التجارب نعرفها، ونعرف غيرها لكتّاب لم يشاؤوا الى الآن أن ينشروا ويخرجوا الى العلن. فنحن، والحال هذه، نتوجه الى هؤلاء وأولئك، والى اللواتي والذين لا نعرف بوجودهم الواعد، المنتشر والمتناثر بالتأكيد مدى المناطق اللبنانية كافة، مثلما نتوجه الى الذين يرافقون الحياة الأدبية اللبنانية والى أساتذة الجامعات ليساعدونا في إنجاز هذه المهمة. وإن كنا نراقب بتحفظ شديد بعض ما يُنشر في الجرائد والمجلات اللبنانية، مما لا يستحق النشر ومما يسيء فعلاً في الآن نفسه الى احتمالات هذا الجيل العميقة.
من أجل اختبار الكلمات
نحن نسأل باحثين ليكون سؤالنا مثابة تحريض نوعي وجدي يهدف الى إخراج الموجودين في العتمة والشرذمة والتبعثر الى حيّز واسع من النور ومن اجتماع الشمل لنتشارك جميعنا في تشكيل معالم الصورة الجديدة فيكون لبيروت مكانها ومناخها ومنبرها ومختبرها. على غرار ما كانت عليه في مراحل كثيرة من القرن المنصرم، وخصوصا ابتداء من أواخر الخمسينات: عاصمة ثقافية لذاتها وللعرب، ومدينة خلاّقة، مفتوحة القلب والضمير واللغة، لا لتكون "ساحة" بل لتكون "المختبر" الذي يصنع الثقافة ويطلقها في الأفق الأوسع.
والآن، ماذا علينا أن نفعل ونحن نتطلع بنهم الى قراءة مثل هذه التجارب النوعية الجديدة؟ سنسأل أولاً بإلحاح: أليس من الطبيعي ومن الضروري أن نشهد جيلاً جديداً بعد اكتمال ملامح الأجيال السابقة وانعقادها؟ أليس "منطقياً"، وبالمقارنة مع أحوال الأجيال السابقة كلها، وخصوصاً من السبعينات حتى التسعينات وهي جميعها أجيال حية وتُرزق أن نشهد ولادة هذا الجيل الجديد، على غرار الولادات كلها؟
ربما آن الأوان لنساهم ليس في طرح الأسئلة فحسب وإنما أيضاً في البحث عن هذا الجيل، عن أعضائه العلنيين والسرّيين، عن قصائده وقصصه ورواياته وشذراته، لنمتحن قدرة هذا الفضاء اللبناني على توليد نفسه باستمرار وعلى أن يأتي بالجديد في ميادين الخلق الأدبي كلها. إنها أسئلة محض تحريضية فحسب. بل هي دعوة لنا جميعاً للمساهمة في فتح النوافذ أمام طيور العتمة والبرق هؤلاء لكي يخرجوا الى اختبار الفضاء، فضاء القصيدة والقصة والنقد والكتابة. بل الى اختبار فضاء الكلمات مطلقاً.
فإذا كان هذا الجيل موجوداً بالفعل، أو هو في طريقه الى الانوجاد، فمكانه يجب أن يكون الآن، هنا وبيننا، ويجب أن يكون في ما بعد، في مجلاته وملاحقه وجرائده وصفحاته الثقافية. وفي كتبه خصوصاً وتحديداً.
ونحن نريد هذا بكل ما أوتينا من شغف الأدب وجنونه وجذوته الدائمة الصعق. وبكل ما أوتينا من... ديموقراطية النشر وجديته.
في أحد الأيام قال جان جيونو في معرض مديحه الشعراء إن الشاعر يجب أن يكون أستاذ الأمل، وبهذا الشرط فقط يحتل مكانته الى جانب الذين يعملون، وبه وحده يملك الحق في الخبز والخمر.
وما نقوله عن الشعراء والكتّاب، نقوله عن الفنانين والرسّامين والمسرحيين، وإن كانت المعايير مختلفة والنسب متفاوتة بين الكتّاب وهؤلاء مجتمعين، حيث نشهد أعداداً غفيرة من الطلاب الذين يفدون على معاهد الفن والرسم والنحت والتمثيل ليتخرجوا حاملين شهادات واختبارات وتجارب بعضها مضيء وطليعي تخوّلهم أن يحملوا التسميات والصفات الثقافية المناسبة. فإذا كنا نقع على هؤلاء فإننا لن نقع يوماً على طالب ينتسب الى كلية للآداب ليتخرج منها شاعراً أو روائياً أو... حتى ناقداً في المعنى التقني للكلمة، لأن الأديب يكون أديباً وحسب ولا يختار اختصاصاً أكاديمياً ليصبح أديباً وشاعراً وروائياً وناقداً.
وهذا كله مدعاة الى تفكير عميق في واقع كليات الآداب والعلوم الإنسانية ودورها الذي ينبغي له أن يشارك في عملية الخلق، كما أن هذا مدعاة الى التفكير في واقع معاهد الفنون جميعاً.
وفي العودة الى موضوعنا الأساسي، نحن نبكّت الأنفس ربما بسبب شعورنا ببعض التقصير، لكننا لا نكتفي بالتبكيت بل نريد البحث عن هذا الأمل الذي تحدث عنه جان جيونو والذي لا بدّ أن يكون آتياً من المستقبل على ورق هؤلاء، أكانوا أدباء أم فنانين، والذين عندما سيحلّقون فإنهم سيطيرون تواً ويختفون في الأفق البعيد ليشتعلوا هناك، حيث ستتجمّع أمامهم وأمامنا بل أمام بيروت المختبر كل الغيوم الحبلى بالمطر والتي ستكهرب الحواس واللاوعي في آن واحد.
وإذا كنا نعلن هذا فلأننا لا نكتفي بالمحاصيل والآمال الغفيرة والمتوافرة عندنا، والآن، على مرّ الأجيال والكتّاب والفنانين. ولأننا نريد أن نكتمل بمن يأتي بعدنا.
فمن هذا المنبر، ننادي لا الشعراء الجدد فحسب بل الكتّاب والفنانين الفتيان جميعهم ليبشّرونا بالأمل المختلف وليكونوا أساتذته في أحد الأيام. لأنهم يجب أن يكونوا كذلك.
إنها دعوة حارة ومجانية لأن غايتها ليست "أبوّة" أو "أخوّة" متشاوفتين تثقلان كواهلهم ولا تريحاننا، وليست إضماراً ل"رعاية" نحن وهم في غنىً عنها. إنما غايتها المساهمة في إعادة إنتاج هذه المدينة كعاصمة خلاّقة لذاتها وللاختبار الأدبي والثقافي في العالم العربي.
وهذا الهدف يتخطى حدوده الأدبية والثقافية طامحاً الى أن يكون باباً مفتوحاً على ديمومة لبنان الشاعر ولبنان الوطن وولادتهما اللامتناهية.
عن جريدة النهار اللبنانية