أعرف أن التتار الجدد يعملون الآن أنيابهم وخناجرهم في جسد العراق الدامي, ويتداعون إليه, ويتكأكأون عليه من جنوبه وشماله, ويضربونه بالأسلحة التي زعموا أنه يملكها, وأنهم جاءوا ليحولوا بينه وأن يدمر بها بلدا, أو يهدد بها أحدا.
والتتار الجدد الذين كانوا سندا لكل طاغية, ومددا لكل انقلاب عسكري يمنحهم امتيازا, أو يعطيهم قاعدة, أو يدخل معهم في حلف يزعمون اليوم أنهم يدمرون بغداد والبصرة والموصل, ويمزقون ما سطره الخليل بن أحمد في العروض, وسيبويه في النحو, وأبوحنيفة النعمان في الفقه, وإبراهيم النظام في علم الكلام, وبشار بن برد, وأبو العتاهية, وأبو نواس, وأبوتمام, وابن الرومي, والرصافي, والجواهري, ونازك, والسياب, والبياتي في الشعر, وشاكر خصباك, وفؤاد التكرلي في الرواية, وما غني القبانجي, وناظم الغزالي, ويوسف عمر, وما صور جواد سليم والعزاوي ـ التتار الجدد يزعمون أنهم يهدمون الحضارة, ويمحون التاريخ ليبنوا من الأنقاض المتطايرة, والصفحات المتناثرة, والصور المحترقة, والذكريات الغارقة في الدموع صرح الديمقراطية!
والتتار الجدد الذين آووا زعماء الإرهاب, واستضافوهم وزودوهم بالأسماء المستعارة, والأموال النجسة, وجوازات السفر المزيفة, واستخدموهم في صراعهم مع أي قوة تناوئهم, أو نظام يعتبرونه معاديا لهم بأي وجه من الوجوه, يزعمون اليوم أنهم يمزقون العراق, ويفككونه, ويدمرون وحدته لأنه ضالع مع بن لادن, والظواهري, وعمر عبدالرحمن في أحداث سبتمبر الأسبق, أو يمكن أن يحالفهم, أو ينضم إليهم في أحداث جديدة مماثلة.
ونحن نتابع هذه الحرب القذرة المنحطة, ولا نملك أن نوقفها, ولا نعرف حتي ماذا ينبغي علينا أن نصنع, ولا ندري في أي طريق نسير.. لا نعرف كيف نواجه أعداءنا.. ولا نعرف كيف نواجه أنفسنا؟!
الأمريكان منفردون بالعالم, أرضه, ومائه, وسمائه, ونجومه, وفضائه, فهم الذين يعرفون الخير والشر, ويرسمون الحدود الفاصلة بينهما, ويصنفون البلاد والعباد, فكل من يتبعهم خير, وكل من يعارضهم شرير!!
وهم لا يكتفون بالمخاصمة, بل يجعلون أنفسهم خصوما وقضاة وجلادين.. يوجهون التهمة, وينطقون بالحكم, وينفذون!
هل شهد العالم طغيانا أفدح وأنكي من هذا الطغيان؟.. إن تاريخه حافل بالإمبراطوريات المستبدة والطغاة المستبدين.. لكن إمبراطورية واحدة لم تنفرد بالعالم إلا في هذه المرحلة السوداء.
في العصور القديمة كان المصريون وكان البابليون والآشوريون.. ثم كان اليونان في الغرب والفرس في الشرق.. ثم كانت روما وبيزنطة, ثم كان العرب والصليبيون, ثم كان الأتراك والأسبان, ثم كانت فرنسا وانجلترا, ثم كان المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي.. ثم سقط العالم في أيدي الأمريكان!
والأمريكان ليسوا مسئولين بالطبع عن سقوط القوي الأخرى التي كان وجودها ضرورة حيوية لتحقيق التوازن وكبح الجماح, مع أن هذه القوي الأخرى لم تكن أقل طغيانا أو عدوانا, ولكن وجودها إلي جانب سواها كان يفرض علي كل منها أن تقف عند حد, وألا تتجاوز كل الخطوط كما يفعل الأمريكيون الآن, وقد خلا لهم الجو بسقوط الاتحاد السوفيتي, وانقسام الاتحاد الأوروبي, والانتظار الطويل الذي فرضه الصينيون علي أنفسهم حتي يستكملوا قوتهم التي لا يريدون أن يدخلوها في مغامرة يعرفون أن نهايتها لن تكون في مصلحتهم الآن.. فحسبهم أن يأسروا طائرات الأمريكيين, ويرغموهم علي الابتعاد عن كوريا الشمالية في هذه المرحلة, وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث.. والعالم كله يعرف ما نعرفه.. ويشهد ما نشهده.. والدليل هو هذه المظاهرات التي تجتاح مدنه وعواصمه في الشرق والغرب, وفي الشمال والجنوب.
لكن الأمريكيين الذين كانوا يقفون عند حدهم لأنهم يخشون ردود فعل القوي الأخرى حين كانت هذه القوي لا تزال موجودة, لا يقفون اليوم عند حدهم, لأنهم لا يعبأون بالرأي العام العالمي, ولا يعبأون بالشرعية الدولية, ولا بالأمم المتحدة, ولا بمجلس الأمن, ولا بالشعراء, ولا بالكتاب, ولا بالموسيقيين, ولا بالممثلين الذين ينددون بالحرب ويطالبون بالتزام الطرق السلمية في حل المشكلات وإنهاء الصراعات.
ومع أن الأمريكيين من القوة والقدرة والمنعة والتمكن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ والأمن والطمأنينة, ويمكنهم من النظر في كل مسألة تعرض لهم بفطنة وحكمة, فهم يتصرفون بطيش وحمق وهوج وضيق صدر ونفاد صبر, فلا يحترمون مبدأ, ولا يبالون بنتيجة.. وهذا دليل جديد بعد ألف دليل علي أن السلطة مفسدة, وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.. لهذا قامت الديمقراطية الحديثة علي تعدد السلطات واستقلالها, بحيث يكون التشريع سلطة, والحكم سلطة, والقضاء سلطة, وكلها نابعة من الأمة التي هي مصدر السلطات.
وكما ينبغي لهذا المبدأ أن يحترم في كل مجتمع قومي, ينبغي أن يحترم كذلك في المجتمع الدولي.
لقد سقطت القوة الأخرى التي كانت تقتسم العالم مع الأمريكيين, لكن الشرائع الدولية لم تسقط, والمنظمات الدولية لم تختف من الوجود.. وكان علي الولايات المتحدة أن تلتزم هذه الشرائع, وترجع إلي هذه المنظمات, لكنها لم ترجع ولم تلتزم, فكلام الأمريكيين إذن عن الديمقراطية, وحقوق الإنسان, وحكم القانون, كذب في كذب, وهراء في هراء..
وأنا أصدق تلك القصة التي نشرتها بعض الصحف الفرنسية عن الدوافع الشخصية التي أملت علي الرئيس الأمريكي الحالي أن يضرب العراق مهما تكن معارضة العالم له, ومهما تكن حجته واهية أو غير كافية.. والقصة تقول إن المخابرات العراقية كانت قد دبرت مؤامرة لقتل الرئيس الأب بوش في الكويت سنة1993, غير أن المؤامرة العراقية فشلت, ونجا بوش الأب, لكن بوش الإبن لم ينس.. وظل يفكر في الانتقام من صدام حسين قائلا: لقد حاول أن يقتل باباي!.. وها قد سنحت الفرصة!أريد أن أقول إن السيد الأمريكي, كما سماه سرجون بولص في قصيدته, ليس أفضل من السيد العراقي.. ليس أكثر منه ديمقراطية, ولا أقل منه طغيانا ووحشية.. كل من هذين السيدين هو الموت الذي سمم آبار العراق, وافترس رجاله ونساءه وأطفاله وحاضره ومستقبله.. وسوف نكون مجرد هتافين في مظاهرة غوغائية إذا لم ندرك أن الطغيان واحد, وأن ما جره صدام حسين علي بلاده منذ ظهر في حياتها السياسية, ليس أقل مما يفعله بها جورج بوش الإبن الآن.. بل إن الحرب الحالية هي الشوط الأخير في سباق الموت الذي بدأه صدام حسين بالحرب التي أعلنها علي خصومه السياسيين في داخل العراق, سواء في الأحزاب المنافسة أو في حزب البعث الذي انتمي إليه.. وبعد أن قضي علي خصومه قتلا ونفيا واعتقالا واغتيالا فتح جبهة جديدة مع الأكراد في الشمال.. وبعد أن جرب في الأكراد أسلحته الكيميائية زحف علي إيران ليدخل مع الفرس في حرب الأعوام العشرة التي لقي فيها مئات الآلاف من الإيرانيين والعراقيين حتفهم.. ثم لما رأي أن قادسيته انتهت بلا نصر ولا غنيمة, وثب علي الكويت ليعوض ببترولها ما خسره في إيران, فكانت بداية النهاية التي نتابع أحداثها الآن, ولا ندري ماذا نصنع في مواجهتها.
إننا ندين هذه الحرب القذرة, ونندد بمن أشعلوها, لكننا لا نعرف بعد ذلك ما يجب علينا أن نفعل, لأننا ـ والضمير يعود هنا علي العرب جميعا, وعلي المثقفين منهم بوجه خاص.. لم نقم دائما بواجبنا في مواجهة الأحداث والتطورات التي تؤثر في حياتنا وترسم مصائرنا, حتي نفهمها فهما موضوعيا, ونواجهها بحزم وفاعلية.
وأنا لا ألح علي مسئولية المثقفين إنكارا لدورهم, أو مداهنة لغيرهم من أصحاب السلطان الذين يتحملون القسط الأكبر من المسئولية, وإنما ألح هذا الإلحاح لأني أعرف أن المثقفين هم الركن الركين للديمقراطية, وأن ديمقراطية بلا عقل ليست إلا غوغائية تتحول لا محالة إلي طغيان.
ولقد عرفنا الديمقراطية في مصر وعرفنا الدور الأول الذي لعبه المثقفون فيها.. ولينظر منا القادرون علي النظر في سيرة الطهطاوي, ويعقوب صنوع, ومحمد عبده, وعبدالله النديم, وطه حسين, والعقاد, وعلي عبدالرازق, وسلامة موسي, ومحمد مندور, ولويس عوض, وعشرات ومئات آخرين من المثقفين المصريين والعرب الآخرين الذين دفعوا أثمانا غالية لرأي رأوه, أو كلمة جهروا بها, أو موقف وقفوه.
لقد غصت السجون والمعتقلات في معظم البلاد العربية, أو فيها كلها بالمثقفين, وضاقت المنافي بهم طوال القرن العشرين, فمن الظلم البالغ أن يطلق البعض لسانه فيهم, وأن يعمم التهمة عليهم.. وسوف أنهي هذه المقالة بمثل واحد من العراق.
لقد حول صدام حسين حياة العراقيين إلي جحيم لم ينج منه أحد, خاصة المثقفين الذين قتل منهم من قتل, وسجن من سجن, وفضل آلاف منهم الحياة في المنفي علي الحياة في الوطن, ومن هؤلاء الذين نفوا أنفسهم فؤاد التكرلي, وهو رجل قانون وروائي مقروء, قصد باريس أول الأمر, ثم استقر في تونس طوال الأعوام العشرة الماضية, حتي قرر المغول الجدد أن يجتاحوا العراق فقرر فؤاد التكرلي أن يسبقهم إلي بلاده حتي يتحمل مع العراقيين ما سوف يتحملون, وحتى لا يتهمه أحد بأنه آثر السلامة وترك شعبه بين المغولين, مغول الداخل.. ومغول الخارج!
(الأهرام)