نحن أمام شاعرة تبكي الفقدان، أو ترثي الأمكنة والأزمنة والأحبة، تستكين الى وحدتها، حتى ولو دخلت الى الضوضاء، فهي تخلو الى ذاتها كي تراها، وتنظر الى الداخل، لتعبر عن رغبة دائمة في البحث والحفر والأسئلة، (أسئلتي للانتظار، لقيمة اخرى غير الإجابة)، فميسون صقر في (رجلُُ مجنونُ لا يحبني) تستوحد، ويحيا صوتها، ليلامس العالم، من خلال إنشاء وجود قائم علي سرد التفاصيل في شعرية تلم المتناثر، فالشاعرة تشكل الأيام ـ أيامها ـ وأيام العائلة، زمنها الذي يتقاطع مع أزمنة الآخرين الذين هم جزء منها، في لغة هادئة تري وجهها الحقيقي فيها، كأنها المرآة التي يتطابق شكلها فيها، لغة من طين الجسد ليست قائمة علي ذاكرة، لغة تفرغ طاقة الحلم، حيري، لأنها صوت قلق الشاعرة، ولسان حيرتها.
ميسون صقر في (رجل مجنون لا يحبني) شاعرة مثلما تصل الى الجوهر عبر البسيط والشفيف والواضح المراوغ، فهي مفتونة بجمع الظلال، وبعثها، في تشكيل يذكر بالفنانة التشكيلية فيها، وغواية ميسون إنها تحرك الساكن في النفس، وتذكر القلب بحيواته، وتاريخه مع الخسارات والهزائم.
فهذا ديوان موت، ومحاولة لخلق حياة اخرى، وهو ـ ايضا ـ ديوان شك وانكسار، لا تظفر فيه الشاعرة بشيء مادي سوي أنها كتبت ديوانا ـ
سفرا يدل علي أثرها في معرفة الكائن الخفي فيها، ويشير الى
أحلامها المبددة التي ترسمها علي الورقة البيضاء.
اعتقد ان جل ما جاء في ديوان ميسون صقر مر من خلال العاطفة، ولذا جاء أكثر إنسانية، وتواصلا مع الذات التي تتلقي، فقلبها استند علي الأسى، وهو شفيف وعميق، حيث رمت ذاكرتها الثقافية جانبا، واعتمدت ذاكرة الروح، والقلب، والنفس في تحولاتها وأشواقها وتاريخها، وهذه الذاكرة تصحو كل يوم علي الخسارات. واذا كان هذا الديوان، هو عمل شعري قائم علي المعرفة، معرفة الروح بنفسها، فالشاعرة فيه هزمت المعرفة الصارخة، وأبقت علي ما يشير ويلمح دون ان تستعرض معارفها.
ربما أعول في قراءتي لعمل ميسون صقر رجلُ مجنون لا يحبني علي ارتباكها الإنساني داخل النصوص، ذلك الارتباك الذي خلق وجودا يعتمد بناء أسطورة شخصية حيث نري الأشجار إما للذات الشاعرة، وجسدها في لحظة اخرى.
ميسون صقر التي تفوز بالخسران، كلماتها وحروفها وأفكارها تنحرف ناحية الشك، لا يقين لديها، ولا تعتمده أسلوبا في الكتابة، فقط هي تحاول ان تتلمس الحقيقة، حقيقة ان تكون هي، عبر تقنية النقاء الذي تقوم عليه وحدتها الشعرية.
ميسون صقر شاعرة ليست لديها حقائق واضحة، فهي مجرورة الى التيه، تبدأ ديوانها بحفر جواني، حيث تتحد الذاتُ بذات أخري متعينة لدي الشاعرة. ومنذ الصفحة الأولى في هذا العمل الشعري، تعلن ميسون بيانها عن كتابتها، حيث تشير الى أنها سترحل بقارئها في العُمق والشاعرة في أجزاء الديوان الخمسة تُراوح في أكثر من مكان، وأكثر من لغة، وأكثر من تشكيل، لتصل في النهاية الى صورة كلية، تجمع هذه المراوحات في لوحة واحدة متعددة حركية.
يمكن اعتبار هذا الديوان بمثابة حديث للرؤية، بمعني محاولة من الشاعرة كي تري نفسها. فهي تتحرك في فضاء الكون وحدها، حيث ثمة سماء مربكة/ والطبيعة مدانة بي، ويمكن اعتباره نجاة من عزلة الشاعرة التي تكسرت فيها لغتها، والتكسر هنا ـ ربما ـ يعني التوقف عن الكتابة، وهو لا يعني للمبدع سوي الموت المبكر. والشاعرة عبر هذه الاعتبارين، تراكم عيناها الإشكال، حيث نري الصورة تتنزل من العين الى القلب، ومن القلب الى الورقة. وهي بضلوع حجتها تصنع لنا حبالا كي نصعد مهيئين لتلقي نصها. وميسون التي تكشف أشواقها وأحلامها ومحبتها في هذا الديوان، وتلم التفاصيل في وحدة كبري، لابد ان يتعود قارئها ان يأخذ نصّها من العمق، فهي تحدد الهدف دونما تقصد، وتحاول ان تأمن حركة الزمن، ولديها أزمنة في النص وليس زمناً واحداً، والمكان له حيز بل احواز في رجل مجنون لا يحبني، لا تغادره، لأنها تعتبر ان المكان جوهرة الألم.
وهذا لا يعني ان ميسون تقول كل شيء فهي تحتفظ بقليل من ذاتها، لتظهر في نص منتظر آت. واذا كانت صدفة روحها مغلقة بأسرارها، فقد كشفت بعضاً من الأحلام التي أكلتها، وقالت: استحق ان أُحبّ أكثر.
ميسون صقر في ديوانها تصطاد الأحلام، وتمتلك حرية، تهز الضوء في المصباح، وترفع بالليل السماء، وقد مشطت بذاكرتها تاريخها الخاص، تواجه العالم، وحيدة، كأنها تتلو أوراقا سرية مخبأة في باطن باطنها، تنحت طميها لتخلق العالم.
ميسون تجمع المحبة سؤالاً، لكنها في الموت تعدو.
إنها تسحب عاطفتها الى الكتابة، حطي لنكاد نلمس الصورة التي تخيلتها. شعر ميسون في هذا الديوان يسرق القلب، لأنها كانت فيه منشغلة بتنسيق الظل علي الأرض.
شهرزاد تسحب ميسون في بعض من نصوص هذا الكتاب وتضعها في الكتابة، في الحكاية حيث تتمرجح الشاعرة في السرد، وتخبر عنها.
نص الشهادة التي قدم بها الشاعر الشاعرة ميسون صقر في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الرابعة والثلاثين.