استيقظتْ، فجأة، الأنظمة العربية والعالمية، ودعت شعوبها للبكاء وحمل الشموع، والصلاة علي أرواح الموتى، ونعف الزهور علي شواهد غائبة لضحايا التفجيرات المفزعة في نيويورك وواشنطن! ووقف ممثلو الشعوب يتمتمون بالقرآن والإنجيل، ويقفون خشوعاً ترحّماً علي الأجساد التي مزّقتها الطائرات في الأبراج والبنتاغون. وعندها أدركت أن الدم الأمريكي يستحق كل هذا التبجيل، وينبغي له هذا الشجن والتعاطف والمسيرات والدموع!! أما نحن الفلسطينيين، فإننا، مثل خالد بن الوليد، علي مثله تبكي البواكي .. ولكن لا بواكي لنا! فقد منعت أنظمة عربية صلوات الغائب علي أرواح موتانا، وحالت الهراوات والكلاب دون المظاهرات القليلة المؤيدة لموتنا الشريف، وغام العرب والمسلمون في سكرات جهلهم ولا مبالاتهم أو تآمرهم علي مَنْ يدافعون عن شرفهم وقبلتهم الأولى و مسرى رسولهم ومولد أنبيائهم المطهّرين.
إن هذا المراء المُحزن، وهذا النفاق الجبان يزيد علي حزننا حُزناً، لأننا حزينون، بالفعل، علي ضحايا أمريكا، ولان واحداً وعشرين شهيداً سقطوا، بعد ساعات من التفجيرات، في فلسطين، لم يستحقوا كلمة أو نأمة أو تقطيب جبين من اُولي امرنا، من المحيط إلي الخليج، ومن أسياد عصرنا في القارات الست! وبعد،
فإنني لم ارغب يوماً في طرح مداخلتي وتبيان موقفي من بيانات الاستنكار التي يمهرها بعض المثقفين والإعلاميين الفلسطينيين والتي يفترض أن تكون مكرّسة لإدانة الإرهاب، لسببين؛ أولهما أنني ضد كل أشكال العنف والإرهاب منذ مقتل هابيل علي يدي أخيه قابيل، حتى مصرع آخر رجل في نيويورك، أو مقتل امرأة في الشيشان، أو استشهاد رضيع في فلسطين. وثانيهما لان ثمة موضوعات ـ في فلسطين الانتفاضة ـ اكثر أهمية وسخونة من الاستدارة لمناقشة هذه البيانات الورقية. غير أن تكرار هذه البيانات اصبح ظاهرة تقترب من الموضة المجّانية منها لتأصيل موقف مسؤول يقدّم الرأي الأعم والغالب لجموع المثقفين والإعلاميين الفلسطينيين، الأمر الذي يعكس جزءاً من وجهة النظر، وليس كل وجهات النظر، أو يسيء إلي الموقف الأكثر شمولية وحقيقية لكل المثقفين والإعلاميين في فلسطين.
ولكن، وقبل كل شيء، ينبغي التأكيد علي مسألتين، الأولى أن لكل فرد الحق الكامل والمقدس في تقديم وجهة نظره مهما كانت، ولنا الحق في مناقشتها دون المساس بحصانة الموقف والشخص. والثانية انه لا يوجد في فلسطين ممثل شرعي ووحيد للمثقفين الفلسطينيين يصرّح باسمهم وينطق بما تختلج به ضلوعهم.
غير أن سؤالاً استنكارياً يتقدم تجاه سيل تلك البيانات وهو: لماذا لم يصدّر هؤلاء المثقفون بيانات استنكار ضد المجازر الفظيعة التي ارتكبت بحق الأبرياء في البوسنة أو الشيشان أو العراق؟ وما دام الموقف المبدئي من الإرهاب لا يتجّزأ فلماذا يتم استنكار مذبحة والتغاضي عن مذابح اكثر شراسة وترويعاً.. وتصل إلي حدّ إبادة شعب كامل؟ ثم، أليس الانتقاء موقفاً يدلل علي رغبة وسلوك؟ وهل نحن، في فلسطين، مطالبون بتصدير بيانات تستنكر ما تقوم به فئة من شعب ضد الشعب نفسه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فعلينا إذاً أن ندين إرهاب الدول ضد الأبرياء، وندين الإرهاب العنصري والديني والعرقي، وندين كذلك إرهاب الجماعات المأجورة من آبي سيّاف في الفلبين إلي إرهاب جماعات السموم في اليابان. وهل نمتلك الخيط الذي يفصل بين ما تقوم به الخمير الحُمر أو الجيش الأحمر الياباني أو الجيش الجمهوري الايرلندي أو حزب الله في جنوب لبنان أو المقاومة الفلسطينية، وبين انتساب بعض هؤلاء للمقاومة المشروعة أو للجماعات الإرهابية العمياء؟
إن الشرائع السماوية والوضعية توافقت علي مواصفات المقاومة و أقرتها، مثلما وضعت التوصيف المناسب للإرهاب وحاربته. ونحن في فلسطين نؤيد المقاومة ونهتف لها، ونقف بحسم صارم ضد كل أشكال الإرهاب، بكل أنواعه ومستوياته، وعلينا أن نتخذ موقفاً جليّاً، غير انتقائي، وبعيداً عن المناسبات والرغبات، لتأييد الأول ونفي الثاني. وان نتنبّه إلي أن مصلحة بعض الدول العظمي تخلط، بوعي مقصود، بين المقاومة والإرهاب، وعلينا إلا نسقط بشكل ساذج في فخاخها المفضوحة.
والمعروف أن المسلمين والعرب هم اكثر مَنْ اكتوي بنار الإرهاب والعنصرية منذ محاكم التفتيش وحملات الفرنجة علي بلادنا حتى ما أنتجته سايكس بيكو وما تقوم به إسرائيل من فظائع ومجازر تماهياً مع دورها الوظيفي المنسجم تماماً مع الدول الكبرى التي تمتص ثرواتنا وتحاول مصادرة مستقبلنا وتحطّم أحلامنا، عداك عما تعرض ويتعرض له المسلمون في البوسنة والهرسك والشيشان والعراق وفلسطين. بل إنّ اعتي القوي عنصرية وفاشية وشراسة لم تكن يوماً إسلامية أو عربية؛ بدءاً من النازية ومروراً بالفاشية وانتهاءً بالفصل العنصري أو الاحتلال الإسرائيلي الكولونيالي.
ذلك لان جوهر الإسلام والحضارة العربية يقفان علي النقيض من الإرهاب والعنصرية واستلاب الأمم واستعبادها وإبادة الشعوب وضربها بالذرّة والحضارات المميتة.
ثم إنّ استنكار فعل همجي يستهدف شعباً ما، هو ضرورة إنسانية، تختلف، في جوهرها، عن استنكار فعل همجي قام به نفرٌ منّا، فنقوم لإدانته والتعبير عن رفضه. بمعني أننا نستنكر وندين العمليات الإرهابية التي استهدفت نيويورك وواشنطن، ليس لأننا ـ عرباً ومسلمين ـ مسؤولون عن هذه الأفعال المشينة، بل لأننا ضد الإرهاب ليس إلاّ. أما أن يقوم نفرٌ منّا بالاستنكار، مستغفرين من أمريكا، ومنافقين لها، وخائفين منها، لانهم صدّقوا روايتها غير المعقولة بان عرباً ومسلمين قاموا بهذا العمل الجبان المرفوض .. فهذا ما نربأ بهم أن يقوموا به. ثم لماذا لم تهبّ الدول المنافقة المرائية الجبانة -ومنها عدد من الدول العربية والإسلامية ـ بالاستنكار ووضع مقدّراتها تحت تصرف الحقّ والعدالة، لإدانة ما تقوم به إسرائيل من إرهاب مُنّظم ضد الأطفال والنساء والبيوت والطيور المفزوعة؟ لماذا لم ينبس هؤلاء ببنت شفة ضد الاباتشي والـ اف 16 التي تدكّ أعناق الشيوخ والأشجار في فلسطين؟ لماذا لم نسمع عن دعوات لجوجة تلحف للاصطفاف ضد الإرهاب، والتي تمثلّه الآن إسرائيل المدعومة كليّاً من الإدارة الأمريكية. وهل سيطرح هؤلاء السؤال الواجب القائل: أين احتلال إسرائيل وموقعه من الإرهاب؟
ولماذا لم يقم المثقفون العرب بالصراخ مستنكرين في براري الصمت العربي والدولي ـ وبعضهم مقروء ومعروف وبعضهم نجم يشار إليه بالبنان ـ ليوقفوا بصراخهم ـ وهو اضعف الإيمان وسلاح المغلوب على أمره ـ المجازر التي تنفذها حكومة الإرهاب الإسرائيلي؟ لماذا؟ وخصوصاً أن أبرزهم دعا لإلغاء مؤتمرات، أو شارك في فعاليات مشابهة؟ لماذا؟
إنّ للعنف والإرهاب أسبابا اقتصادية واجتماعية و أثنية، وبعضها ينهض على سبب عقائدي، وهنا ينبغي البحث عن الخطأ في الخطيئة وليس عن المخطئ فحسب.
ثم إنّ التطوّع لصياغة بيان استنكار ـ لهدف إعلامي أو إنساني أو سياسي ـ مطلوب، ولا يضير إلاّ إذا تجاوز حقيقة أو غفل عن معطيات دون أخرى، أو إذا سقط في رؤية أو رواية النقيض، ولم يكن موسميّاً أو ينتقي الأحداث التي يستنكرها، أو بهدف تقديم حُسن سلوك لمصلحة أو هدف، أو يحاول أن يعكس التقدمية والإنسانية مبالغاً فيها، أو إنسانيين سُكّر زيادة كما يقولون.
ولعلّي أشير هنا إلي غير بيان من سلسلة بيانات المثقفين الفلسطينيين التي تطالعنا بها هذه الصحيفة أو تلك، غير أن بياناً صدر قبل شهرين وقّع عليه فلسطينيون وإسرائيليون (مثقفون وسياسيون وإعلاميون) ساوي بين الضحيّة (الفلسطينيين) والجزّار (الاحتلال)، وحمّل مسؤولية العنف والإرهاب للمتطرّفين في الشعبين (الإسرائيلي والفلسطيني) ولم يأت البيان علي ذكر حق العودة للاجئين الفلسطينيين .. ثم نقرأ اليوم، وبعد شهرين الأسماء نفسها توقّع علي بيان استنكار نؤيده في أننا ضد الإرهاب.. ونختلف معه بأننا المسؤولون عمّا جري هنا أو هناك، ونذّكره بانّ هناك ثوابت وطنية يجب عدم القفز عنها، أو أننا ملوك اكثر من الملك.