يكاد المزاج الشعري الواضح المعالم, للكتب الشعرية الصادرة في العام 2003 يحمل الكثير من علامات التشابه, لا لجهة التكرار والتطابق, بل لجهة تأصل بعض من القيم الكتابية الجديدة, والتي تتوحد في مستوى ما للأنا الشعرية يتناقض مع شكلها الاستعلائي البلاغي. وكي يتم التعبير عن "الحجم" الجديد لـ"الأنا" تلك هي العلاقة المباشرة مع أشياء العالم المحيط, من خلال تطابق اللفظ مع المعنى في حالات متعددة تتجاوز الاسم الى الفعل وتتجاوز المجازي الى الخبري.
المتنبي كما رسمه الرسام اللبناني رفيق شرف قبل رحيله في 2003. |
نقرأ السمات السالفة, أو بعضها, في كتب صدرت في العام 2003, ككتاب "أرق النموذج" للشاعر الإماراتي محمد المزروعي, وكتاب الشاعر اللبناني فوزي يمين "توقفوا أريد أن أنزل", وكتاب الشاعر السوري حسين درويش "حديقة الغرباء", وكتاب الشاعر اللبناني ناظم السيد "العين الأخيرة". في مستوى ثان نجد الميل, مرة أخرى, الى تعويم اللغوي البلاغي لناحية تجسيم الأثر الصوتي للكتابة الشعرية مثل كتاب الشاعر السعودي أحمد الواصل "هشيم" وكتاب الشاعر السوري هادي دانيال "كأن الردى بردى".
من ناحية أخرى تنتمي لا مكانية النثر المفتوحة على السرد, وتحديداً عليه, نجد كتاب الشاعرة الإماراتية ظبية خميس "درجة حميمية" والشاعر اللبناني سامر أبو هواش "جورنال اللطائف المصورة" وكتاب الشاعر اليمني منصور راجح "بعيد - قريب". كذلك كتاب الشاعرة العراقية أمل الجبوري "تسعة وتسعون حجاباً" الذي يعكس جدلاً عميقاً بين قيم كتابية تنتمي الى أكثر من مزاج من اللغوي الى البصري الى البلاغي والى السردي والتقويمي. لم يعد مهماً ذكر تلك الظواهر تراكمياً, أي ما صدر بالترتيب في عام واحد, فقد عرفها القارئ منفردة, لتنتقل الأهمية الى المزاج الشعري العام المشترك في ما يمكن أن تقوم به الكتابة الجديدة. ونقصد في الكتابة الجديدة التحول الداخلي الجوهري الذي حصل في ثمانينات التجربة الشعرية وامتدادها المفتوح والمتسع. وهناك بعض تجارب شابة نذكر منها الشاعر الكويتي سعد الجوير في كتابه "ظل لا ترسمه نخلة" وكتاب المغربي محمد المغربي "على العتبات الأخيرة".
الى حد ما تتوضح السمات العامة تلك في الكتب الشعرية التي تمكن القارئ من الإطلاع عليها. مع متابعة الشعراء لمشاريعهم الشعرية كما في كتاب "لا تعتذر عما فعلت" للشاعر محمود درويش. وكتاب "ملك أتلانتس" للشاعر سميح القاسم. الشاعر أدونيس صدر له ديوانان هما: "تنبأ أيها الأعمى" و"أول الجسد آخر البحر" إضافة الى اسطوانة سجلها بصوته. أما الشاعر أنسي الحاج فهو في صدد إصدار أعماله الكاملة ويهيئ الجزء الثالث من "خواتم" التي تنصهر فيها اللحظة الشعرية في اللحظـة الفكرية. وكذلك "الجسد بلا معلم" للشاعر عباس بيضون وكتاب الشاعر عبده وازن "نار العودة" الذي يواصل فيه تجربته الخاصة.ونجد كتباً جديدة, في زمن نشرها, إلا أنها آثرت إلحاق الزمن الجديد بآخر لا ينتمي الى التخوم ذاتها بل يكاد يناقضه مثل كتاب الشاعر اللبناني لامع الحر "أبابيل على وتر الكرنفال" وهو من الكتب التي تنتمي الى ذاتها. في حقيقة الأمر ثمة نوع من الاتفاق المشروط بين التجارب الشعرية العربية الجديدة. والملاحظة التي تتعزز, هي الدور المنظور الذي لعبته الصحافة الالكترونية في وضع هذه التجارب في مواجهة النماذج وفحصها وإخضاع المبادئ الى آلية الجذب والاصطفاء. هكذا يمكن فهم ذلك المناخ الشعري, الموحد, في "الشعرية العربية" التي تتقارب وتنسجم لتشكل ما يمكن أن يكون, وبقوة, المناخ الشعري الجديد, الى الدرجة التي يمكن فيها أن يكون تسارع المقاربات الشعرية جدلاً وفرزاً يحول المركز ويلغي التفاوت "التقليدي" بين مكان وآخر, أي أن العاصمة الشعرية حوّلت نفسها نصاً قابلاً للتنقل والتغير على أساس من حمل قيم الكتابة كما لو أن ما يكتبه محمد متولي في مصر قد استفاد من العناصر التي رافقت نص اسكندر حبش أو أحمد النسور مثلاً أو نص أحمد السلامي أو خضر الآغا. هذه نقطة تتوضح بتسارع, وللصحافة العربية الجادة والواسعة الانتشار دور أساس في تحويل "العاصمة الشعرية" الى نص, وإمكان تغير هذا النص عبر الطبعة المحلية لنظرية "موت المؤلف".
ليس القصد من الإشارة الى المناخ الشعري المتأصل في نقاط مشتركة, هو السعي الى التجميع والتشابه وسواهما. بل القصد الإشارة الى الحوار الشعري الفعلي, الجوهري والدينامي الذي لا يجعل من المعطى ملكية خاصة للنص, لأن هذا المعطى انتقل من كونه أثراً خارجياً صرفاً الى أثر لغوي دال وفاعل, وإلا كيف يمكن أن نفهم النجاح الذي حصل, دفعة واحدة, في عواصم شعرية عدة, لنقل, حيث إن ما نجح في اختباره فوزي يمين أو محمد المزروعي أو عبدالمنعم رمضان قد تم تعميمه كما لو أنه لم يعد هناك من نص منعزل يصغي الى نفسه؟ إن نجاة النص من الابتداء المتكرر الممل والأقل ذكاء صارت سمة وأصبح الزمن مرتبطاً في ساعة النص ووقت الكتابة وليس التوقيت الخارجي القديم الذي بالفعل أسس, أحياناً, للعواصم, ونفى النموذج أو المناخ الشعري. وهنا, مرة ثانية, ودائماً, يرجع الدور في تموين هذه الظاهرة الى الصحافة العربية "القوية" والمنتشرة في أرجاء العالم. وهو دور لا يفعله إلا القليل جداً من الصحف التي توزع في كل أنحاء العالم في اللحظة نفسها. وليس من داع لتحديد الاسم الذي بلا شك صار معروفاً لدى القارئ. إن الصفحة الثقافية النشيطة والعاكسة للحراك في تلك الصحف أو "تلك الصحيفة!" تلعب الدور التقني في خلق النموذج الحواري الفاحص والمصطفي. هذا ما جعل العاصمة الشعرية "تنحرف" من الجغرافي الى اللغوي, ومن الزمني الى الجمالي, ومن السردي الوصفي الى الشعري الخاطف. إن إصدارات الشعر للعام 2003 تعبر أقصى ما تعبر عن إمكان أن تكون المعايير مسألة قابلة للتنقل والفاعلية المتزامنة مع الحوار والقراءة والمقاربة النقدية.
فثمة ما يلمع في الأفق بتسارع معلناً تحول الثمانينات الشعرية العربية الى مناخ شعري قابل للمعايرة والتأسيس.
الحياة
2003/12/30