في الساحة الثقافية السورية تتقاطع معظم الآراء عند مقولة شائعة تقول: "ما اقل الشعر، وما أكثر الشعراء!" والتي يمكننا ان نصوغ على هامشها عبارات، يعزز الواقع صدقيتها، من مثل: "ما أكثر الشعراء، وما اقل النقاد"، أو بالأحرى "ما أكثر الشعراء وما اقل القراء".. وهي همزات أو شكايات تستحق الفحص والحوار، على نحو موسع وجاد، يسمو على ذهنية التهميش والإقصاء. في هذا الشأن يرى الشاعر ممدوح عدوان في إحدى لقاءاته الصحفية ان الشعر كان في أزمة على مز العصور حيث لم يكن للشعر جماهيرية في أيام البحتري وامرئ القيس والمتنبي، أكثر مما له اليوم، بودلير أو رامبو لم يطبع من ديوان كل منهما سوى مئة نسخة.
كما يورد الروائي والصحفي احمد بزون في مقدمة كتابه قصيدة النثر العربية ان 99.99% من الفرنسيين لا يطالعون الشعر، والدليل على ذلك ان شعراء معروفين عالميا كبونفوا وميشو وشارو وغليفيك وتارديو لا يطبعون أكثر من 1800 نسخة من دواوينهم، هذا العدد يتضاءل الى 200 أو 300 نسخة عند شعراء معروفين.
ليس هذا تبريرا لما يسيل يوميا من حبر، تحت اسم الشعر، ولا هو تبرير لفوضى المتنافسين فوق حلباته، التي انفض الجمهور من حولها، ثم انه البضاعة الأقل رواجا والأكثر كسادا. وهنا يلح السؤال: ما دام الشعر بوارا وخسارة، ولا يصلح للتجارة، فلماذا يظل الإغواء "الهدف/ أو المتاه" الذي تلتقي عنده الأهواء، قبل ان تسترها الحشمة، ويحجبها الوقار، وتفرقها الأنواء؟
لا اطرح السؤال هنا للنقاش، فالملف مترك لقدرة أصحابه الشعراء والنقاد، على طرح الجوهري ـ حتى لو لم يكن كذلك، عند سواهم لأنهم المعنيون، أولا وأخيرا برفع شأن الموقع الذي يشغلون، فالسلطة أيضا مفهوم جدلي، بين الحقل وبين الفاعلين فيه، تأثيرا وتأثرا، وهذا ما يعفيني من عناء التنظير، الذي يقتل الشعرية، حتى في غير الشعر ويحميني، بالتالي، من آفة اشد فتكا ألا وهي المزاودة، تاركا المجال هنا لشاعرين اشتغلا في نقد الشعر أيضا، للتعبير عما يمثل جانبا مهما ـ ان لم يكن واسعا ـ من جوانب هذه الصنعة الإبداعية، التي يكثر فيها القول، ويتكثر التقول:
الشاعر علاء الدين عبدالمولى قال: لا أميل للاعتقاد بمقولة التحقيب الزمني للأجيال الشعرية، اعتمادا على العشرية، بمعنى ان جيلا يتشكل كل عشر سنوات. يسجل عبد المولى قناعته بهذه المقولة، ويصفها بأنها هشة، من وجهة النظر الفاحصة. وما الحديث من خلالها إلا تعبير عنه نظرة شائعة، أخذت شكل الظاهرة الإعلامية.. وعلى ما تقدم يقترح الشاعر عبدالمولى نوعا آخر مناسبا ـ بنظره ـ لهذا الغرض، هو التحقيب الفني، الذي لا يمكن ان نحده بمطلع عقد وننهيه بنهاية هذا العقد من السنوات.
من هنا يرى عبدالمولى تداخلا بين السبعينيات والثمانينيات، وأيضا بين الأخير والتسعينيات ويلفت الانتباه بفطنة ونباهة الى الأمر التالي، إذ يقول ها نحن دخلنا القرن الواحد والعشرين. فهل سنعود الى الحديث عن العشر الأولى والعشرينيات والسبعينيات من القرن الجديد؟" ويسجل اعتقاده بأن هذا أمر سخيف، ثم يذهب ابعد، فيعتبر انه ـ هو نفسه ـ ليس من جيل التسعينيات وإذا كانت هذه الفترة هي التي بدأ بالظهور "شاعرا" والانتشار، فهذا لا يعطيه ذريعة للاحتماء بجيل يختلف "الشاعر" عنه كثيرا.. وعلى صعيد سوريا، يرى عبدالمولى ان ثمة حاجة ملحة لإعادة تقييم الشعر السوري برؤية نقدية لا تخضع لسلطة احد، لا إعلاميا ولا رياديا ولا أيديولوجيا. فقد امتلأ الواقع الشعري السوري بالزيف أكثر من اللزوم، وصار الزيف هو الذي يسود ويهيمن، وينتج انموذجاته الفاقعة، تحت مختلف الشعارات الإيديولوجية أو الحداثوية وما بعدها، فهو شاعر لا يدري من أي جيل حقيقي،
ويجد نفسه استمرارا متطورا لجيل ليس منه، وان مرجعيته الفنية ليست بنت اللحظة الراهنة. ولأنه لا يؤمن بالانطلاق مما يسميه "الصفر الأدبي" فانه يسجل انتماءه الى "أفق شعري يحاور وينقد جيل الستينيات، بما فيه من رموز نوعية طبعا وليس باعتباره ظاهرة سياسية أو مؤدلجة" ويحدد ان انتماءه لمثل هذا الأفق جاء نتيجة موقفه من القصيدة السورية في شكلها النثري، ولا سيما في مرحلة السبعينيات، التي اكتشفها بوصفها "أسوأ المراحل الشعرية في حداثتنا في سوريا" فقد نسفت عددا من إنجازات قصيدة الرؤية في الستينيات، وأطاحت بالرمز والقضايا الكونية والتقنية الفنية المعقدة، ونزلت بالشعر الى الحضيض.. من هنا ـ يوضح عبدالمولى ـ انه لم يقبل ان يكون امتدادا لجيل سبعيني فعل كل هذا بشعرنا السوري. وانه لهذا عاد بقصيدته لتستفيد من منجزات جيل الإبداع الحداثي الأول، لتعمل على الجدل معها والاشتباك بها على أرضية الاختلاف النوعي، وليس الاختلاف الشكلي فقط، إذ لابد للشاعر الجديد ـ في اعتقاد عبدالمولى ـ ان يمتلك تراثه القريب والبعيد، حتى يتمكن من "التمايز منه والخروج عليه".
ويعترف عبدالمولى "أصبحت شخصيا اضطرب من كوني شاعرا حديثا".. ذلك لان الحداثة عندنا ـ في رأيه ـ لم تدخل الى عمق العلاقة بين الانسان والوجود، الانسان والإنسان، الانسان والوطن والثقافة، والدين.. الخ.
الشاعر لقمان ديركي تحدث عن تجربة الملتقى الأدبي، في الثمانينيات، بحلب من حيث انها تجربة أفرزت شعراء، بعضهم استمر، وبعضهم اكتفى بما قدمه في الملتقى الذي أغلق أبوابه، في نهاية عقد الثمانينيات ـ مثل بسام حسين، ابراهيم كسار، ومحمد علاء الدين، ومنهم من استمر، مثل محمد فؤاد، حسين بن حمزة، عبدالسلام حلوم، عمر قدور، حسين درويش، وعبداللطيف خطاب.
ويقول لقمان "هؤلاء هم رفاقي الأوائل في الشعر، بواسطة الشعر تكونت صداقتنا، وظلت على ما هي عليه، غير ان مرحلة التسعينيات لم تفرز سوى أسماء قليلة، منها: فارس البحرة، الذي اعتبره صاحب تجربة مميزة إضافة الى ظهور أسماء من الثمانينيات في بحر التسعينيات، مثل هالة محمد ومرام المصري" ويفسر لقمان غياب هذين الاسمين عن ساحة الشعر خلال فترة الثمانينيات بغياب المنبر، والإقامة في الخارج.
تجربة الثمانينيات استفادت من تجارب شعراء السبعينيات كما يذهب لقمان، ويحدد وجه الاستفادة بالسلب، أي بأخطاء مرحلة السبعينيات الشعرية، حيث "كان صوت الايدولوجيا لا يعلى عليه". وهذا ما نظفته تجارب الثمانينيات، في رأيه، ولان هذه الأخيرة كانت مرحلة ركود ثقافي، فقد تأخرت تجارب شعراء الثمانينيات في الانطلاق الى العالم العربي مدة عقد من الزمن. أي في التسعينيات فصبغتهم بصبغتها. وهنا يؤكد لقمان ان الكلام عن مرحلة التسعينيات غير ممكن دون النظر الى أسماء شعراء الثمانينيات.
يعترف لقمان بفضل المواكبة النقدية التي واكبت تجربة الملتقى الأدبي بحلب. والمرتبطة باسم الناقدين "جمال باروت، وعبدالرزاق عيد" والتي كان لها الأثر الايجابي، الذي فاض عن التجربة ذاتها، لينسحب على شعراء القطر بكاملهم. حتى انها كانت مثار غيرة للشعراء من خارج حلب. والذين برز منهم طه خليل، ابراهيم حسو، محمد عفيف الحسيني، وعبدالله عيسى.
وعلى الرغم مما تقدم يقول لقمان "لا اؤمن بتقسيم الشعراء الى أجيال" ويعتقد ان مرحلة التسعينيات كان لها الفضل في بلورة هذه التجارب. ولكنه يفضل الإضاءة بحسب تعبيره على من تبقى من شعراء في هذا البلد. فيرى ان الموجودين من أجيال مختلفة، مثل: ممدوح عدوان، نزيه أبو عفش، منذر مصري، عادل محمود هالة محمد، مرام مصري، عمر قدور، محمد فؤاد، فارس البحرة، عبداللطيف خطاب، حسين بن حمزة، حسين درويش، وأكرم قطريب. ويستأنف القول بأن الواقع يكتظ بتجارب شعرية عابرة، سرعان ما تسقط مع مرور السنين. والمشكلة مع هذه التجارب العابرة انها تأخذ في الصحافة السورية والعربية ما ليس من حقها. بسبب غياب النقد، وانتشار ظاهرة الشللية.
وهذا ما يستدعي لقمان ليطرح سؤالا يصفه بالمهم: "من هو على حق، ومن هو على خطأ؟" خاصة اذا عرفنا ان الشعر، حتى الآن يفتقد الى المعايير. وهو خاضع، في تقييمه، إما للمزاج وهذا الأكثر نظافة وإما للعلاقات فمرض النقد وعجزه عن غربلة التجارب الشعرية، غثها من ثمينها، يجعل شعراء تافهين بكل معنى الكلمة بحسب لقمان يعتقدون أنهم من كبار الشعراء!!
وفيما يخص العلاقة مع القاريء يلاحظ لقمان ان الشعر السوري يفتقر على الإجمال، للتسويق. وهذا ما يفسر برأيه ان معظم هؤلاء الشعراء والجيد منهم أيضا بلا قراءة. الشعر ما زال يعيش على فكرة ان الشعراء هم نزار قباني ومحمود درويش.. فيما لم تستطع أية تجربة ان تسوق نفسها للجمهور، وتستقطبه حتى الى أمسية شعرية. وليس الى قراءة ديوان. ولأن لقمان يولي هذه النقطة كبيرة أهمية، ويحاول بامكانات دعائية بسيطة ومجانية، يقول انه استطع ان يخلق فرصة لشعره، كي يقرأ الآخرون. أو يقبلون بكثافة على حضور أمسية شعرية له.. ويعتقد ان هذا ليس عيبا!؟
البيان الثقافي
الأحد 15 رجب 1423هـ 22
سبتمبر 2002 -العدد 141