(أمل جراح مع زوجها ياسين رفاعية) |
|
(أمل مع محمد الفيتوري) |
|
( أمل مع جبرا ابراهيم جبرا وحليم بركات) |
(أمل مع عبدالوهاب البياتي) |
عرفت آلاماً كثيرة على امتداد سنوات. العطب أصاب قلبها. الوهن أدرك جسمها النحيل. مشت الجلجلة مرات. ومرات لم تسقط تحت ثقل أوجاعها، وعذاباتها. ذلك أن أمل الجراح التي رحلت ليل الجمعة الماضي روّضت مأساتها. جعلتها من عاداتها. وحتى من إلفاتها. كأن المعاناة التي صارت قبل خبزها اليومي، صارت أيضاً من غذاء شعرها.
كأنما لم تكتب في هذه المرحلة من المقاساة سوى الوجع. سوى الهاجس الدائم بأنها دائماً على حافة. على حافة نهاية، أو حافة بدايات مجهولة. على حافة قدر. ذلك أن الأمراض التي تلازم الناس، تصبح شيئاً من أقدارها، بل تصبح الأقدار اللازبة، الخفية هنا والساخرة هناك.
وعندما تلقى أمل الجراح، تحادثها، في بيتها وزوجها الكاتب ياسين رفاعية، كأنما يراودك انطباع أن المعاناة ممحوة عن وجهها، من فرط ما في جسمها النحيل الهش من قوة، ومن كبرياء، ومن معرفة، جرت بالعادة وبالاكتساب بكيف نقنع الألم ببسمة، أو كيف نبرجه بصداقة أو بمحبة، أو كيف نجعله ينبثق شعراً. وكل ذلك شعر بشعر عندما تصبح الأشياء والأمور والأمكنة والأزمنة والوجوه على وداعات دائمة، وعلى نجاة دائمة. كل لحظة هي لحظة شعرية، لا بقوة ثباتها أو تحفيرها، بل بقوة هشاشتها. وعندها تصبح كل قصيدة شيئاً من تلك الوداعات لكن أيضاً شيئاً من تلك الآمال، ولو على كسور، ولو على اقتناع بأن الحياة كلها حلم ليلة صيف، أو حلم بلا ليلة صيف، أو مجرد حلم عابر، يصحو منه الإنسان في تلك اللحظات الحاسمة.
وكان يمكن الكلام على أن التراكمات الكتابية أنضجت شعر أمل الجراح. أو الاجتراحات أو ثقافة الزمن، لولا أنه، و الى كل ذلك، تبدو ثقافة الألم هي النار التي تجوهر الشعر والشاعر، والنص والقصيدة. وأمل في ذلك متميّزة. ذلك أن كل كلمة كتبتها في هذه السنوات "العجاف"، التي عاشتها كانت طالعة من عمق المأساة. من عنف الوجع الصامت. من رعشة الجسد الوهن. من صفاء ما يلتبس في أيام المحن والأزمات. من كسور ما يتساقط في زمن الانتظارات القاطعة. ولهذا تقرأ شعرها لتقرأ المسافة التي قطعتها جلجلتها. والمحطات التي توقفت
عندها لتحب أكثر، ولتنتظر أكثر، ولتأمل أكثر، ولتتوهم أكثر، ولتحزن أكثر، ولتخصب أكثر. كأنما كل محطة انتظار مجهولة. بل كل لحظة تأكيد للمحب أو للعائلة بأن الجلجلة أياً تكن أثقالها، لا تخفي المشاعر الكبرى، ولا الحياة. بل إن السير في هذه الدرب المؤلمة كانت أحياناً سيراً نحو الحياة. وهذه هي المفارقة. فالحياة حياة. والشعر حياة أولى وثانية وأخيرة. وأجمل تلك اللحظات عندما يلتقي الشعر كحياة بالحياة نفسها كفضاء لهذا الشعر. هذه اللقاءات أحسّتها كثيراً أمل وهي اللحظات التي كانت تشرق بها، وجهاً، وصوتاً، وكلاماً وصمتاً وكتابة. وعندها يصبح الموت ومخاوفه وقسوته وجنونه في الخلفية الأخرى. مجرد ديكور لحياة أخرى، أو لمسرحية أخرى، أو لممثل آخر.
يصبح الموت بأقنعة واهية. بماكياج هش. بأدوار ثانوية، أو فلنقل بأدوار تحفظ نهايات الأشياء.
رحلت أمل الجرّاح، وقصائد كثيرة، وحضور كثير، وآثار من خفة الشفافية، تبقى بيننا، لا لتدلّنا على ما كتبت وحلمت بما تكتب، بل أيضاً، بما عاشت، أي بمعجزة أن يكون الموت، حتى في الموت، في المقاعد الخلفية في هذه المسرحية العبثية التي نسمّيها الحياة.
إبنتي لينا
إبنتي لينا
تقولين لي حقيقة جسدي
أين أنا لي
من حياة لا ألم فيها
ولا قلق
نام عني الزمان
ونسيتني الحياة
كل الأصحاء
يغنون في درب آلامي
أين مني أن أكون الآن
كما كنت من عشرين عاماً
الأيام ثقيلة على قلبي
لا تمنّي للأحسن
وقف عمود أمنياتي
في مقبرة سوداء
الحقيقة هناك
لا مفر لي وحق الله عليّ
أصعب الأمور: الانتظار
ماذا أنتظر؟
لا أدري
لا ضوء في دربي
ولا نبات في حقولي
كلّفتني لحظة الفرح
كل سنوات أحزاني
تركت لروحي جناحين ليسا لها
لا تخافي مهجة قلبي ووردتي
أنا معك وروحي لك
وعصافيرك المغردة
* * *
الشاعرة في اقتراحي حين ينكسر جسدها تكمل كلماتها الرحلة كان في أمل جرّاح لهيب
حياتي وشعري مستقر، ولكن المأساة هي المفارقة التالية:
ضعف الجسد بل مرضه، بل مرض القلب وقوة الروح.
هل انعكس ذلك سيئاً على أشعار أمل جراح؟
نسأل أنفسنا ونجيب كلا، فكما أن الجسد المخرّب لدى بدر شاكر السيّاب وروائح المستشفيات ولدت لديه قصائد "النهر" و"الموت" و"شناشيل ابنة الشلبي" و"عكاز في الجحيم، وسواها من القصائد التي يمتزج فيها دم الشاعر وألمه بكلماته المنبثقة من هناك، فإن أمل جراح منذ ديوانها "عندليب من الغابة" وصولاً الى ديوانها الذي لم ينشر بعد وهو بعنوان معبّر جداً: "بكاء كأنه البحر" ولدت من أوجاعها هذا الشعر المرهف كالشفرة والمتألم والصارخ من شدة ألمه ورهافته.
كانت أمل جارتنا وكان زوجها الروائي ياسين رفاعية صديقنا ولا يزال، لذا فقد كنا على مرمى القصيدة من الأمل والألم.
ولا نزال.
* * *
لم أتعرف على الشاعرة والكاتبة الراحلة أمل جراح إلا في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت مقيماً على مرمى حجر من منزلها في رأس بيروت.
قبل ذلك كنت أراها لماماً في مناسبات شديدة التفاوت حتى إذا قرأت بعض أشعارها المنشورة تراءى لي أنها لم تكن سوى التجسيد الأنثوي الحي لقصيدتها.
كانت حفيفة كالنعاس ومتوارية كأحلام الفقراء، وكانت مائية الحضور بحيث إن مُجالسها يشعر بفيض حنانها الأمومي.
لم تنتزع شعرها من بلادة القواميس ولا من المثاقفة وصقيع القراءات بل من ملامستها الشفافة لأشياء الحياة وللناس الذين تحبهم.
ثمة شيء خريفي كان ينبعث من وراء سطورها كما في نظراتها الحالمة التي تنطوي على الكثير من الشفقة والأسى ليس على نفسها وإنما على الآخرين.
وعلى الرغم من صداقتي الوطيدة مع زوجها الصديق ياسين رفاعية، فقد أحببته أكثر من ذي قبل في رثائه المبكر لها حين كانت ما تزال على قيد الحياة (عبر روايته: "السيرة وميض البرق") والتي أراد لأمل أن تقرأها قبل أن ترحل.
حتى موتها كان شبيهاً بها إذ أنها لم تشكُ ولم تحتج ولم تئن قبل أن تموت بل اكتفت بأن أغمضت عينيها بصمت ورحلت مصداقاً للمثل القائل: الموت بين الأهل نعاس.
ودّوا حدا يفيّق بساتين الكلام
أو
تلفنوا بيرن ديك المملكة
وبينتبه نوم الحمام
وبيقوم عالشغل الزمان
راكض كإنو حامل الأيام
تيقدما هدية
وصلت ع حفلتها أمل
كحلة عرب والصوت صوت شوام
حتى الشجر بيفيق عاضو الخبر
بيلم شو عندو صور
بيحطها بالمي
بيصير في صفين من شجر الحكي
بتمرق أمل
متل المعاني بالجمل
ومشعشعة متل النحل
بيعن تايحلا العسل
ودّوا خبر
إنو القصيدة مارقة بين البيوت
سمّوا القصيدة بإسمها
أو سمّوا ياقوت
بتدق ع بواب الشعر
بتفتحلها بيروت
أهلاً وسهلاً يا أمل
ومضوية متل البدر لما اكتمل
بيصير ليل المملكة
دفتر غزل
وبيروح يلعب عالجبل
مهر الشعر
لما الشعر بيقول كتبتني أمل
* * *
أمل جراح شاعرة الوجع العذب؟ دائماً نحن في معرض تكسرات لمرايا الوجوه والقلوب والأيقونات.
لعل أعظم قلب يخترقه سهم عشاق "الحب الأول" هو قلبها الذي تحمل دقة دقة أعباء الرحلة القاسية، المنسية الطويلة...
كتابة أمل جراح مفتوحة على جرح إنساني يغني، بلى. بل ويغني ويرقص الأشياء. الأعراس، الحسرات، ولا يكف عن إعلان نفسنا الحي في عالم عربي متكلس بالخيانة والدلس.
كانت تحلم، بل عاشت تحلم، أن الحياة التي ظلمتها الى ما بعد الحياة التي لا أعتقد بأنها ستنصفها لأنها فنانة ظل.
فرحة، آملة، بسيطة، مرنمة، ذات أسرار كاسرة لا تؤذي حتى آخر كلماتها.
مكتوبها غاضب أحياناً ولكنه يأبه أن يبقى رسالة وحسب.. يتحول أحيانا الى بياضه المعهود.
ما حملته هي.. ما حملته كلماتها.. يعجز عن حمله عالم عربي، جمل ذو سنامين.
وداعاً صديقتي الوادعة أمل جراح.
* * *
ولدت أمل الجراح من أبوين سوريين في بلدة مرجعيون في الجنوب اللبناني عام 1945.
* * *
انتقلت للسكن مع والدها في فلسطين (يعمل في شركة التابلاين في حيفا) وعادت الى دمشق بعد حرب العام 1948.
* * *
تلقّت علومها في دمشق وفي العام 1967 تزوجت من الكاتب ياسين رفاعية وانتقلا سوياً الى بيروت مع بداية عمل الزوج في مجلة "الأحد" لصاحبها رياض طه، وأنجبت ولدين بسام ولينا.
العام 1969 عانت أمل جراح من مشاكل في القلب وأرسلت من قبل وزارة الإعلام في سوريا الى ألمانيا الشرقية لتلقي العلاج، وأجريت لها عملية القلب الأولى، وفي العام 1970 عادت مشاكل القلب فأرسلتها جريدة "النهار" الى هيوستن في أميركا وأجرى لها البروفسور مايكل دبغي الجراحة الثانية وزرع لها صماماً اصطناعياً.
* * *
عايشت جراح ظروف الحرب الأهلية وأثرت عليها صحياً فنقلت عام 1986 الى لندن وأجريت لها العملية الثالثة على يد جراح إيراني د. شابو.
* * *
عام 2002 تدهورت حالها الصحية ولم يعد هناك في أيامها الأخيرة ما يساعدها بعد عملية جراحية رابعة في القلب أجرتها في بيروت.
* * *
عام 1971 أصدرت أول دواوينها الشعرية بعنوان: "رسائل امرأة دمشقية الى فدائيي فلسطين".
* * *
عام 1977 صدرت مجموعتها الشعرية الثانية "صاح عندليب في الغابة" وأضيفت الى مجموعتها الأولى التي طبعت مرات عديدة.
* * *
عام 1985 صدرت المجموعة الثالثة "صفصافة تكتب اسمها" في بيروت.
* * *
عام 1992 صدرت لها مجموعة شعرية رابعة بعنوان "امرأة من شمع وشمس وقمر" عن "دار سعاد الصباح" في القاهرة.
* * *
لها مجموعة جديدة ستنشر قريباً عنوانها: "بكاء كأنه البحر" عن دار الخيّال في البحرين.
يذكر أن أمل جراح اشتركت عام 1969 في مسابقة أجرتها مجلة "الحسناء" التي كان يرأس تحريرها أنسي الحاج، وحوت روايتها "خذني بين ذراعيك" جائزة لجنة التحكيم المؤلفة من أنسي الحاج وجبرا ابراهيم جبرا ورفيق خوري.
الصديق العزيز ياسين رفاعية
بكثير من الأسى تلقيت نبأ رحيل العزيزة أمل. ولا أكتمك أنني فوجئت كثيراً بالنبأ، فقد كنت أظنها روضت الموت لطول عشرتها معه، ولكن الموت سيقطفنا جميعاً، وأكرر: كلنا أموات مع وقف التنفيذ.. فالعمر "وميض البرق". أصدق التعازي القلبية من زوجي ومني ومن ابني لك ولبسام ولينا ولأسرتيهما ولأسرة الفقيدة وآل رفاعية والجراح..
ألهمكم الله الصبر والسلوان.
- وجدت لينا ابنة أمل هذه الكلمات في أحد جيوب الراحلة الكبيرة، موقعة في أسفلها: إلى ابنتي لينا.
- ألقى الشاعر عصام العبد الله هذه القصيدة باللهجة المحكية في حفل تكريم الشاعرة أمل جراح في مقهى السيتي كافيه بدعوة من صديقها منح دبغي بمناسبة عودتها من لندن عام 1998.
المستقبل
الخميس 12 شباط 2004