لعلني لا يجب ان اكتب عن القاهرة في كل مرة اذهب إليها. غير انه هذا الهوس الشرير وسأكتبه، وأقول له نعم، وأحدثكم مجددا عن الهواء الأسمر وترون كلامي غريباً، بل شديد الغرابة، وهذا حقيقي ما دمتم لا ترونها عبر عيني، ما دامت لا تكشف عن وجهها لأي إنسان آخر سواي. بالنسبة إليكم هي القاهرة تحبونها قليلا أو كثيرا. الأمر عندي مختلف. مدينة تهاجر في شراييني. هل سبق لكم ان هاجرت في شرايينكم مدينة؟ في حالة الحب النقي، لا يعي المحب انه يحب. الجبناء يفضلون هدير العقل الدائم. أنا امرأة شجاعة، ويكفي ان يخفت ضجيج مشاعري حتى اقضي مثل نجم ميت. لقد طفت في أركان العالم، وولجت اشد متاهات المدن تعقيدا، غير أنني لا احتمل جيدا سوي شمس هذه المدينة، وضبابها، وصقيعها، وصفرتها، ونهاراتها ولياليها التي تكافح كفاحا عقيما، فأري إغواء الخيبة العظيم علي الوجوه التي تقبل قدرها، وهي أيضا لا تتوقف عن منح الحب.
لا يهم إذا لم أكن مصرية، وإذا لم تكن لي هذه الـ مصر ، كل ما يهمني هو ان تكون موجودة، وان أعاودها، ان أقف مرارا وتكرارا علي أرضها الصلبة، ان اعرف فيها لحظة من الوجد النقي، وان ليس من وجد آخر يقارن به.
المدن الكثيرة مملؤة بالمعجزات. القاهرة شيء معجز آخر. معجزتها لا تتطلب تدخلا من احد ولا إقرارا. معجزة تولد في اللحظة وتعيش إلى الأبد. اعلم أننا نغدو باردين وقساة كالمعادن وان دواخلنا تموت حقا. في القاهرة لا شيء يموت فعليا، الموت في القاهرة ملفق، حين هو يختلط أبدا بالحياة، وحين أنت علي تخوم الأمرين في آن، وحين تتسم اللحظة الواحدة بالأسى المفرط وذلك التوجع، وبالفرح المدجج بأحواله ويتراكم في اللحظة عينها، اللحظة المرتفعة إلى فوق، ومستغرقة اللحظة في ارتفاعها إلى ذلك المنفرج من السماء، جانبها الأزرق كثيرا، وبهي.
قصدنا أستوريل هذه المرة. ليست أستوريل نفسها ما قصدنا، وليس لأنها في طلعت حرب وقريبة من فلفلة وغروبي وقهوة ريش ومدبولي والنادي اليوناني والأتيلييه ومكتبة الشروق والفضاء المضبب والزحام والغبار والتنفس الثقيل.
قصدنا أستوريل لأننا كأحصنة ميتة نحتاج ان نخب إلى الوجوه التي تحبنا. تحبنا في الضوء الخافت وفي السكينة وفي الكلام المندفع من المكان الأيسر في الصدر وفي التشابه الذي بيننا وفي الغشاء الرقيق الذي لا يقوي علي فصلنا وفي الاهانة والأذى نتقاسمهما، وفي التأمل الذي يأخذنا مسافرا بنا في ألوان لا حصر لها، وفي جوهرة الحب نتقاذفها كأنها ثلج ناعم.
في أستوريل وليس لأنها استوريل، بل لأننا فتحنا قلوبنا علي مصارعها ورمينا الحذر وقلنا كلاما عاريا وكان الكذب في الخارج. لا يدخل الكذب إلى حيث كنا في استوريل وكنا نحيي الذي مات فينا، وكانت كافية الساعات التي سهرناها في استوريل لكي نعيد رتق شرايينا التالفة، ونرمم أنسا قد هرم.
في أستوريل كنت بصيرة بما يكفي بحيث اعرف انها ساعات نادرة، كانت استوريل في القاهرة ولا شيء سواها، ولست في صدد وصف المكان. المكان لا يهم. القاهرة ليست مكانا بل كائنا، كنا نحن مدمني اللحظات النادرة، وكان العالم كله الواقع خارج باب استوريل مغطي بندوبه التي علق بعضها علي جلودنا، وكنا نحكي لكي تبرأ جلودنا، وتعود إلى الدمدمة تلك المشاعر التي صمتت فينا وكان صبرنا يلوح طويلا جدا فكسرناه صبرنا من جذعه وقتلنا الساعات بالضحك. قتل واثق ومستمر لكي يدخل الهواء مجددا إلى أرواحنا الشفيفة.
انها القاهرة، وهم رفاق وحدتي المجنونة! ما ارقهم كملائكة منبوذة وأجنحتهم مغلولة فكيف حدث ان طرنا جميعا في تلك الساعات القليلة في أستوريل، ذات يوم، سيكون ممتعاً تذكر ذلك السهر الذي خلا من القضاة والجلادين. لقد فعلنا حقيقتنا بشكل تام وكامل، أيضا ليس لأنها أستوريل بل لأننا نحن، وكنا هناك، وفردنا أوجاعنا علي الطاولة، وبالسكين التي علي الطاولة عملنا في جروحاتنا.
امتطينا أحصنة علي الطاولة في أستوريل، واختبأنا في الغابات وحاولنا تعلم الصلاة من جديد، كان الصدق حضورا هائلا وكنا نري بنفسجا في كل شيء. كل ما احتجناه في الليل هو قمر حقيقي وشمس حقيقية وكتابة حقيقية وبكاء حقيقي. نعم عرفنا كيف نتواصل من دون لمس وكان تواصلا شجاعا إلى أقصى حد، فاتنا بصورة رهيبة.
القدس العربي
2005/03/02