ليست اللغة مجرد تشكيل رمزي لمقاطع صوتية، كونت نظاما اصطلاحيا يصف الأشياء من حولنا، كما يصف حركتنا وأفعالنا بحياد بارد، وهي ليست تلك الأبجدية التي اختزل بها الكنعانيون الكتابة الهيروغليفية (1) كما أنها ليست تلك الكلمات التي تتشكل منها الرموز الأبجدية المجردة خارج سياق منشئها ودلالتها. فاللغة كما يرى علماء الدراسات اثنولوجية اللغوية: أداة مشكلة للواقع تمفصل التصور إليه حسب مستعمليها، وتكون في استخدامها شبكة تعبير عن تصور خاص للعالم. ونظاما رمزيا يلزم فرض علاقات اجتماعية ليس من اجل تسهيل عملية التواصل فقط، بل بامكانها أن تقوم بالرقابة، الكذب، العنف، الاحتقار، القمع. كذلك الرغبة، المتعة، اللعب، التحدي، أيضا في مجال الكبت عن طريق الاستبطان والتابو. كما أنها مجال التفريغ (2) ثم أن اللغة ميراث حضاري وتاريخي بأكمله، في جوانبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. لأنها دائمة الانتقال عبر كل الحلقات التاريخية لأية مجموعة بشرية، فإنها الشكل الأكثر كفاءة وفرادة في حمل الموروث الكلي وجعله معاشا في تضاعيف الواقع اليومي.
وهي لا تعبر عن صفة الأشياء والأفعال وأسمائها فقط، بل تحمل تأثيراتها أيضا، ثم أن اللغة تعبير عن مفهومنا الشخصي للعالم، للذات، وللآخر، وهي حامل معرفي يصلنا بما قبلنا، وينسج شخوصنا وطباعنا ورؤيتنا وسلوكنا بما تحمله من تأثير إيمائي لحركة الشعور والانفعال والغايات، ومن خلال اللغة تمتص دون وعي منا آراءنا ومواقفنا من الحياة وتفاصيلها وعلاقاتها. وعلى سبيل المثال: حين نقرأ رواية أو قصة فإننا نعيش انفعالات شخوصها ونتأثر بأحداثها فنكره أو نحب، نفرح أو نحزن، نقف مع هذا ضد ذاك ونناصر تلك الشخصية ونعادي غيرها. ويحدث أيضا أن نتبنى موقفا أو سلوكا لإحدى الشخصيات ونمارسه في حياتنا الواقعية، كما لو انه موقفنا أو سلوكنا الشخصي، وهذه الحالات التي نمر بها أثناء القراءة تتباين بين القوة والضعف، والانحياز أو الحياد، وفق روح اللغة ومفرداتها وتراكيبها، وأسلوب صياغتها الذي سبك بها الكاتب روايته. فالعلاقة بين الصياغة والموضوع علاقة وشيجة وحقيقية، لا ندركها بسهولة في علاقتنا العابرة باللغة والقراءة. والإنسان عامة حين يستخدم اللغة كوسيلة تعبير وتفكير، لا يولي حركة الكلمة وإيحائها، وما يتولد عن علاقة الكلمات والأدوات ببعضها من تأثير انفعالي أي اهتمام. إذ يسلم عادة بحكم التلقين والتداول، وثبات المصطلح والدلالة، ويتجاهل التأثير الإيمائي للغة في اهتمامه بالموضوع. ودون أن يتساءل عما إذا كانت الكلمات والأساليب تخدم غاياته وتصوراته ومبادئه، هذا ما نلاحظه في حياتنا الثقافية العامة، حين نجد شخصا يقول بأمر ويفعل غيره. أو يستخدم في كتابته صيفا وأساليب لغوية وهو لا يقصد معناها بدقة، وقد تتعارض مع مقصده أو تربكه (3) . وفي حضارات نظرية في اغلبها وميتافيزيقية في رؤاها وموقفها من الوجود والكون والتبدلات. تصاغ قيم هذه الحضارات وروحها، في لغة وأساليب لغوية، تحمل في صياغتها وظائفها الاجتماعية وقيمها وإيديولوجيتها، التي تسعي إلى ترسيخها بواسطة النقل والتلقين والحفظ والثبات والتداول، لذا نلاحظ أن كل حركة تغيير في مجتمع ما تسعي إلى محاولة تغيير في بنية اللغة وعلاقاتها الداخلية.
وإذا كان من المتعذر تغيير مفردات اللغة في الأغلب، فان التغيير يمس علاقات المفردات وما يترتب على هذا التغيير من دلالات تحمل وتصف التغيير الذي طرأ على البنى الاجتماعية والحضارية في إطارها العام. وقد يفسر هذا الأمر، صراع الأجيال أو صراع المراحل، إذا صح التعبير، حول التمسك بالثوابت اللغوية عند ذي النزوع السلفي، والرغبة في خلخلتها وإكسابها دلالات جديدة، عند دعاة التجديد والتطوير.
اللغة في الأدب بوصفها مؤرخا
في المفاصل التاريخية الكبرى، يحدث غالبا أن تستنبط قوى اجتماعية ذات نزوع مهيمن، قواعد وأساليب لغوية تكتسب سلطتها وثباتها من سلطة وموقع تلك القوى، وهي إذ تؤطرها بقوالب راسخة تنقلها عبر حواملها الثقافية، إلى مراحل تاريخية لاحقة، ضمن أنظمة وأساليب معرفية واجتماعية، فهي بذلك إنما تسعي لترسيخ قيمها وامتدادها في الزمن، حتى بعد اندثارها الشكلي. إذ تبقى روحها منقولة وحية، في تضاعيف اللغة وبناها الأسلوبية.
في كتابه (جذور الاستبداد) يدرس د.عبدالغفار مكاوي، نصوص الأدب القديم في التاريخ البابلي، في سعيه لتحديد معاني المصطلح الذي أطلقه الغربيون منذ أرسطو ونظريته عن الاستبداد والطغيان الشرقي، التي عرضها في كتابه (السياسة) حتى هيجل وكثيرين بعده، فهم يرون أن هذا الطغيان والاستبداد كان قد خيم على تاريخ هذه المنطقة من العالم، منذ الإلف الثالثة قبل الميلاد (4) . وإذا كان د. عبدالغفار مكاوي قد اعتمد القراءة في نصوص الأدب القديم، فلأن الأدب أدق صيغة لغوية وأسلوبية تكشف وتعبر عن الخصائص الاجتماعية والحضارية للزمن الذي ينتجه.
يقول احد النصوص الأدبية: أن معاناة الإنسان البابلي تكمن وتتركز في غياب العدل وسط جور واستبداد مجمع الآلهة، الذي كان يحكم البلاد، وينشر الظلم والطغيان والجوع. وهذه الآلهة، يقول النص "لا يمكن أن تفهم / وطريق الآلهة لا يمكن أن يعرف / وأي شيء عن الآلهة يستعصي على الكشف".
وفي مقطع من نص آخر، ننصت إلى حوار بين سيد ضجر، متردد، متقلب، وعبده الذي تتركز عبوديته في الطاعة العمياء لنزوات سيده وتقلباته:
"قال السيد للعبد: قررت أن الزم الصمت.
- الزم الصمت يا سيدي، الزم الصمت.
- لا يا عبدي لن ألزم الصمت لن اصمت.
- لا تصمت يا سيدي، لا تصمت فإذا لم تفتح فمك فسيقسو عليك مضطهدوك.
- سأقود ثورة.
- قد ثورة يا سيدي، انك إن لم تفعل / فمن أين تأتي بملابسك / ومن يساعدك على ملء بطنك. - لا يا عبدي لن أقود ثورة لن افعل أبدا.
- لا تفعل يا سيدي. لا تفعل / فالثائر إما أن يقتل أو يسلخ جلده / أو تسمل عيناه / أو يلقى القبض عليه / أو يرمى في السجن".
يعود هذا النص إلى 627 قبل الميلاد، زمن الملك الآشوري (آشور بانيبال)، ويكشف إلى جانب موهبة الكاتب في الحوار، عن الحساسية المرهفة لنبضات حضارة انتفت فيها القيم وأصبح الاضطهاد وظلم الأبرياء حدثا يوميا لا يثير الدهشة والغضب بقدر ما يدفع الناس إلى اليأس والتسليم". (5)
هذا النص الأدبي حمل روح عصره عبر اللغة، وأبدها منذ العصر البابلي إلى الأزمنة الراهنة والممتدة في تاريخ الشرق.
بالنسبة للغتنا العربية المنحدرة من سلالة اللغات الأولى للحضارات العربية القديمة، إلا تبدو وكأن وهجا من روح تلك العصور قد انسل إلى بعض أساليبها، وتضمنت خصائصها الاجتماعية، كحافظ ومبلغ، ممثلا في سطوة البلاغة، وأسرارها، كما في سطوة التداول وطرائقه ؟ لنتأمل ذلك فيما يذهب إليه د. مصطف ناصف، من أن البلاغة عاشت على أساس واضح: الكلمة عبارة عن مجموعة مقررة من الإمكانيات، أمكن تسجيلها في تعريفات وافتراضات ثابتة، وهي (البلاغة) تنظر إلى الكلمة باعتبارها نظاما مفلقا له أسراره، لذا علينا أن نعود في فهم الكلمات إلى تسجيلات فقهاء اللغة! وليس علينا- بسبب من المرجعية الثابتة - أن نستيقظ يقظة كامنة في القراءة، فعلم البلاغة يفترض أن الكلمة التي تواجهنا قد عرفناها من قبل.. كانت آبدة، فقيدت واستراحت، واسترحنا منها! (6)
لكن المسألة لا تكمن في المفردة، إذ أن القواعد الكامنة في البلاغة هي (قواعد العبث بالفكرة، فكرة المتكلم والمخاطب معا.. في خفة!) (7) وقد سميت هذه القواعد باسم (الصنعة)، وهذه الصنعة في البلاغة هي التي يمتحن فيها طلاب اللغة العربية في أعلى مراحل التحصيل العلمي! والتي لقنوا إياها منذ مراحل الابتدائية - بتدرج - عبر مناهج اللغة وعبر دروس الإنشاء والتعبير، بل عبر كل وسائل التعامل بالفصحى!
وعلى الرغم من سعي تيار الحداثة في مشروعها الثقافي- والشعري على الأخص - لتغيير بنى اللغة ودلالاتها التقليدية، وعلاقاتها المؤبدة - في إطار رسوخ البلاغة وقواعدها الثابتة - وانتشار بعض صيغ التغيير تلك بين المثقفين والمبدعين من الأجيال الحديثة، إلا أن ذلك الرسوخ بقي عصيا على الاستجابة لدواعي التغيير، وربما يعود السبب إلى الثوابت في القيم الاجتماعية والسياسية، وغيرها من الرواسخ! فاللغة على أهمية دورها وقوته، تظل أداة تعبير، وليست أداة تغيير!
ويمكننا بقليل من التأمل أن نلمح ذلك الترسخ في الكثير من الصيغ المحصنة بأساليب المناهج التعليمية، والتي بات علينا أن فتمثلها، ونعيدها كما هي في لغتنا التعبيرية عبر كل الأزمنة، دون أن نعيد النظر في صنع تلك (الصنعة) أو حتى في إعادة صياغتها وفق متغيرات أفكارنا الشخصية على الأقل، وثقا فتنا ومواقفنا من ذاتنا والعالم!
صيغ البلاغة المستبدة
تتضمن صنعة البلاغة العربية جملا متداولة، راسخة، أبدية! يشيع استخدامها بين الخاصة من الكتاب والعامة من الكتبة، هذه الجمل ندعوها: (جملا استهلالية) نفتتح بها الحديث أو الخطاب بالفصحى، سواء كان مكتوبا أو شفافيا ونضمنه إياها.
هذه الجمل، إذا تأملناها وحللنا أبعادها ومراميها، تكشفت لنا عن تعارضها مع ما نسعى إليه - إذا كنا حقا نسعى- من إقرار بحق الآخر في الاختلاف، والتأكيد على حرية الإنسان، وحقه الطبيعي في إبداء رأيه، والتعبير عن مواقفه، واختياراته، الممثلة بالرفض أو القبول، بالنقض أو الإقرار.
ثم أن هذه الجمل ليست مقتصرة على فقهاء اللغة، أو دارسيها الأكاديميين فقط، بل تنتشر بشكل واضح في كل أشكال الكتابة النثرية، وفي كل المنابر والوسائل الناقلة للخطاب المعرفي والإعلامي، ومن قبل كل أصحاب القلم: الصحفي المحترف، والأديب، والباحث الرصين، والدارس في العلوم الإنسانية، بل حتى الذي يدون تقريره العلمي!!
المصادرة الخفية
في هذا البحث الموجز، سأتناول هذه الجمل الاستهلالية لمحاولة الكشف عن مضمونها التعسفي ودلالتها اللغوية والاجتماعية.. وسوف أعتمد أساسا على التفسير المعجمي- حيث أبدت الكلمة - وعلى التأثير الإيمائي لصفتها ومعناها، لذا سيكون هذا التحليل قابلا للنقاش والجدل والإضافة.
وسأبدأ بهذه الفقرة كمثال:
"مما لا شك فيه.. أن الخطاب العربي يحوي من صيغ البلاغة والأساليب اللغوية الجاهزة، ما يؤكد روح الاستعلاء، والرغبة في منع الآخر من النقد والاختلاف". "ولا ريب في أن هذه الروح تعبر من (رغبة الإنسان في استيلائه على ما حوله (8) فمن المؤكد أنها تحمل صبغته وشرطه الاجتماعي، وتنقل إلى الأشياء والمعاني، مواقفه من الحياة والآخر.. ولا جدال في أن اللغة بهذا المعنى، هي وسيلة الإنسان لتسخير كل شيء لتناوله، إذ لا يمكن إلا أن تكون (تعبيرا عن انعكاس المحيط والعالم على وعي الإنسان) (9) .
تلك فقرة قصيرة، بدأت بجملة استهلالية جاهزة، متداولة يوميا في خطابنا المعرفي والإعلامي، وتضمنت جملا لا تختلف في جاهزيتها ودلالتها عن الأولى، لكنها سوف تمر على القارئ دون انتباهه إلى تأثيرها الإيمائي الخفي بحكم التعود والتداول.
لكن المتأمل لهذه الجمل سيلاحظ أن (مما لا شك فيه) (ولا ريب أن..) (ولا جدال في أن..) (ومن المؤكد..) (ولا يمكن إلا أن تكون..) تتضمن معنى جائرا يستلب حق الآخر (القارئ، المستمع) في الاختلاف معي، حول أن الخطاب العربي يمتلئ بصيغ تؤكد المصادرة والإلغاء أو تشي بهما، فقد قطعت بعدم إمكانية الشك في قولي هذا وأكدت ومنذ أول الكلام على أن هذا الموضوع هو من الموضوعات التي لم يتطرق إليها الشك، دون أن أشير أو أوضح، شك من ؟ وهذا التأكيد جاءت به تلك الجملة الاستهلالية (مما لا شك فيه). ثم أني قدمت هذا التأكيد- في محاولة للمزيد من إحكام السيطرة على القارئ- بجملتين تماثلانها في الدلالة والتضمين كما تماثلانها في القوة والحجة.
بهذه الصيغ الجاهزة أكون قد أحلت القارئ دون وعي منه، والمفترض دون وعي مني- إلى حالتين متلازمتين: التصديق التام لقولي ذاك. والكف عن التفكير في صحته أو عدم صحته أو وضعه موضع النقد والتحليل. لقد قطعت على القارئ إذن محاولة الشك في كلامي بجملة بسيطة في تركيبها اللغوي، ومألوفة في تداولها إلى الحد الذي تبدو معه أنها لا تعني شيئا على الإطلاق، أو أنها مجرد صيغة من صيغ اللغة أو قوالبها، اعتاد الناس استعمالها دون الاهتمام بما تتضمنه دلالتها وإيحاؤها الخفي، وما يكمن وراءه من تعسف، وسواء بدأت الكتابة أو الخطاب المسموع بمثل هذه الجمل أو جعلتها ضمن متن النص فان دلالتها لا تتغير، فهي صيغة ثابتة، ذات دلالة ثابتة، بسبب ما تولده الكلمات والإشارات المكونة لها من علاقات تعبيرية ذات محتوى اجتماعي وسياسي، إذ أن صيفا كهذه تحيل المستمع والقارئ إلى مصدر مجهول وجمعي، وهو في مجهوليته وجمعه، يصير غير قابل للطعن من جهة ويهيئ القارئ للتسليم بمصداقية الموضوع، إنني أقول للقارئ ضمنيا- حين استخدم هذه الجمل - أن الموضوع الذي سوف أتحدث فيه هو من الموضوعات التي لم يشك بها احد، فلا يحق لك إذن أن تشك فيه، أو انك لست جديرا بالشك فيه أو نقده!
أليس هذا ما توحي به مثل هذه الصيغ حين نقرأها في بداية أي موضوع أو في تضاعيفه ؟
إلا تبدو تلك الصيغ أنها تسقط في لا وعينا نوعا من الرهبة الخفية التي تشكل سياجا شائكا دون تمعننا في الموضوع المطروح وتحليله أو نقده ؟ ثم، إلا تبدو هذه الصيغ والجمل كما لو أنها صيغة تهديد، تشبه ديباجة الفرمان والسلطة الكامنة خلفه ؟ والا فمن هم أولئك الذين لم يشكوا في كلام لم نعرف بعد مضمونه وأبعاده ؟
الدلالة والإيحاء
ليست تلك الجمل التي وردت في الفقرة السابقة هي وحدها مما يحتويه الخطاب العربي في سياق اللغة المتداولة، بل هناك عدد من الجمل والصيغ المتشابهة والمتضمنة نفس الدلالات مع اختلافات طفيفة ولدها العصر وحركة التجديد وأساليب التعبير، منها (مما لا مختلف عليه اثنان / مما لا غبار عليه / لا محالة / من المسلم به / مما لا جدال فيه / لا بد أنكم تتفقون معي/ لا خلاف على أن / لا يماري أحد/ لا غرر أن../ وغيرها مما يعرفه المتخصصون في علوم اللغة العربية أكثر مني.
هذه الصيغ في اللغة إذا حللناها قليلا فقط ستكشف لنا الالتها مجتمعة، عن روح خفية تسعي إلى مصادرة حق الآخر مسبقا، ورفض الاختلاف مع الخطاب المطروح، كما تفرض ضمنيا ونفسيا على الآخر الأخذ بالخطاب، وتمثله دون انتقاء أو اختيار أو مجادلة.
وبالرغم من شيوع فكرة الحرية، وحق الآخر، ودعوات التجديد، والتطوير، والتنوير بين الدعاة والمثقفين والمفكرين، إلا أننا نلاحظ أن النير من قوالب اللغة وصيغ البلاغة التي يستخدمونها في خطابهم الداعي، لم ينتبه إلى ضرورة النظر فيها على الأقل، وكأن اللغة شيء، والموقف والوعي شيء آخر!
إن نقد الفكر والواقع، لا يمكن أن يتم دون التبصر الكافي في استعمال الألفاظ، والبحث عن معانيها في ضوء الصراع والتجاوز، والنفاق والبراءة، وسائر ما يؤلف اتجاهاتنا ومواقفنا. (10)
قلت أن تلك الصيغ البلاغية والجمل الاستهلالية، في أحسن أحوال استخدامها، تصادر حق الآخر في الاختلاف مع الكاتب أو المتكلم، وتنطوي على رفض خفي لحقه في الشك أو الجدل في موضوع الخطاب، لكن ما الذي يؤكد صحة استنتاجي هذا أو بطلانه ؟
شخصيا قمت باستقراء دلالي يعتمد التأمل فيما توحي به اللغة والمفردات حين استخدامي لها أثناء الكتابة، كلغة سائدة، ووسيلة تعبير وإيصال، ثم علاقتي باللغة أثناء القراءة، كوسيلة تلق وتكوين معرفة، وسوف اسمي هذه المحاولة، تفسيرا دلاليا- إيمائيا، باستعارة مفهوم التفسير من المعجم (11) ، ومفهوم الإيحاء من علم النفس:
- مما لا شك فيه: مما تت من، تفيد التبعيض / التعليل / التفضيل. ما.. تفيد الإبهام / أي شيء/ أمر من الأمور. لا.. نافية / وناهية / فتفيد الرفض أو المنع، شك: الريبة / الالتباس / خلاف اليقين.
فيه: تفيد معنى حوله / عنه / مضمونه / وتشير إلى موضوع الخطاب.
الدلالة: هذا موضوع من الموضوعات التي لم يشك بها احد/ صدقها/ آمن بها الجميع
الإيحاء: رفض الشك في الموضوع المطروح / فرض التصديق. - لا محالة: = لا: نفي/ نهي/ نقض. محالة /: جمع محال /، ماحل محالا، ومماحلة: كايده، ماكره، جادله، تماحل القوم: تجادلوا.
الدلالة: لم يتجادل احد أو يماحل حول هذا الموضوع. الإيحاء: منع الجدل والساحلة والمكايدة حول هذا الموضوع. - لا ريب في أن: الريبة: الشك / الظنة / التهمة.
الدلالة: هذا الموضوع لم يرتب أو يشك أو يوجه إليه تهمة من أحد.
الإيحاء: لا ترتاب / لا تشك / لا تظن /, لا تتهم. - مما لا يختلف عليه اثنان = يختلف: لا يتفق / لا يقبل. اثنان: أدنى حد من الجماعة.
الدلالة: هذا الموضوع / الرأي/ لم يختلف عليه وحوله حتى اثنان / اتفق الجميع حول صحته. - لا مراء في أن = مراء: مارى مراء ومماراة: جادل ونازع ولاج (بتشديد الجيم)/ والمرية: الشك في الأمر. الدلالة = لا جدال أو نزاع أو ملاجة حول هذا الموضوع / الرأي.
الإيحاء= منع المجادلة أو النزاع حول الخطاب المطروح. - مما لا جدال فيه = جادل جدالا ومجادلة + خاصمه، تجادلا تخاصما، الجدل شدة الخصومة / المهارة في الخصومة، وعند المنطقيين: هو القياس المؤلف من مقدمات مشهورة أو مسلم بها، أي قياس مفيد لتصديق، لا تعتبر فيه الحقيقة أو عدمها، بل عموم الاعتراف والتسليم، كقولك (فلان يطوف في الليل فهو لص) والفرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن مقدمات البرهان.
الدلالة: هذا الخطاب لا يحتاج إلى المجادلة والبراهين والاختصام حوله.
الإيحاء: منع المجادلة / التخاصم / الاختلاف / تقديم البراهين التي تناقض الخطاب. - من المسلم به: سلم بالأمر= رضي به، انقاد إليه.
الدلالة = هذا الخطاب / الرأي، قد سلم بصحته، رضى به، تم الانقياد إليه.(؟)
الإيحاء= منع الشك في صحة الخطاب، فرض الرضى به، فرض الانقياد إلى أفكاره أو غايته. - لا مندوحة: لا = للنفي، المندوحة والمنتدح = السعة والفسحة، يقال (لك عن الأمر مندوحة أو منتدح) أي يمكنك تركه والميل عنه.
الدلالة: لا سعة لك ولا فسحة للخروج عن الرأي الذي تضمنه الخطاب.
الإيحاء= منع التوسع في تفسير مضمون الخطاب وتأويله بغير ما جاء به. - مما لا غبار عليه: لا للنفي. الغبار= التراب أو ما دق منه، الغبرة: لطخ الغبار، سنة غبراء: سميت بذلك لاغبرار آفاقها من قلة الأمطار، وأراضيها من عدم النبات والاخضرار.
الدلالة: هذا الخطاب واضح لا غموض فيه.
الإيحاء: لا تحاول الطعن فيه أو الشك في مضمونه أو صياغته. - من المؤكد أن: من: تفيد التبعيض / التعليل / التفضيل، المؤكد: أكد الشيء: قرره، الأكيد: الثابت.
الدلالة: هذا الخطاب قد قرر مسبقا، وثبتت صحته. الإيحاء: منع التحليل / التفسير/ التشكيك. - لا غرر: لا عجب.
الدلالة: هذا الخطاب لا ينبغي أن يثير العجب (العجب أو التعجب، رد فعل انفعالي يثيره لدينا رؤية أمر أو سماعه، لم نألفه، ولا نحسن تفسيره، والتعجب يتضمن سؤالا يحتاج إلى إجابة لتفسير (غرابة) هذا الأمر حتى نقر به ونألفه، فلا يعود يثير لدينا التعجب).
الدلالة: هذا الخطاب ليس فيه ما يثير العجب والسؤال.
الإيحاء: منع التساؤل والبحث عن التفسير. ولأن هذا البحث من القلة بحيث لن يتسع لكل ما جاء في اللغة العربية من صيغ بلاغية تشي بالقمع وتتضمنه، فسوف أحيل القارئ المعني إلى البحث والتنقيب. وسوف يرى أن كل تلك الجمل والصيغ البلاغية، تفيد معنى المصادرة، والمنع ورفض التحاور والاختلاف حول موضوع الخطاب.
الضمير المستتر
إن الجمل الاستهلالية التي عرضت لها بالتحليل والتفسير والتأويل، لا يبدأ بها الخطاب فقط، بل تتوزع في متن النص، وتبدأ بها اغلب فقراته، وحيث إنها استهلالية، فان الموضوع لم يطرح بعد، والقارئ أو المستمع لم يعرف فحوى الخطاب بعد فهي إذن تقوم بمصادرة مسبقة لحقه في الجدل والاختلاف، وتهيئة نفسيا للقبول والإذعان، إذ تسقط في وعيه الخوف من طرح وجهة نظر مغايرة، ناقضة، ومختلفة، في موضوع الخطاب، ذلك الخوف الذي سوف يترسب عبر تراكم الأزمنة والتكرار والتداول في العقل الباطن، ويتماهى بالاختيار الشخصي. وحتى إذا تجاوز المرء الخوف بتأثير الثقافة وخصائص الشخصية ويقظة الوعي، فان وجهة نظره، سيشربها الحذر والتردد، والارتباك.
ثمة جمل أخرى تقارب الجمل السابقة في الالتها وروحها، لكنها اختلفت قليلا في صياغتها، شاع استعمالها بين خطباء المحدثين من ذوي الاتجاه الليبرالي، نلاحظ في صياغتها قدرا من المداهنة، والدماثة، والتماهي، فيبدأ الخطاب بها هكذا:
"لا بد إنكم ترون معي.." أو "الأبد أنكم تتفقون معي" أو "كما لا يخفى عليكم" أو "من البديهي أن..". وفي هذه الصيغ يبدو الخطيب أو الكاتب وكأنه يقول للمتلقي: إن هذا الرأي الذي أطرحه، هو رأيك أيضا، لذا لا يجوز أن تشك فيه.
إن الشرك في هذه الصيغ يكمن في تماهي المتكلم برأي المتلقي، ذلك الرأي الذي لم يتكون ولم ينكشف بعد، لا للمتلقي ولا للمتكلم!
ويمكننا أن نلاحظ أن في كل الجمل الاستهلالية وصيغها، يكمن مجهول ما.. ضمير مستتر تقديره (هم).. وهم، أولئك، كائنات خفية، أعطت موافقتها، ويقينها لكل خطيب وكاتب وباحث، كما قدمت البراهين والأدلة على استحالة أن تكون الأمور على غير ما يرونها! وبما أن المخاطب يخاطب الجموع، فان الكائنات الخفية تلك، ربما تكون هي الجموع ذاتها، وقد أعطت موافقتها مسبقا، فيما يشبه (العقد الاجتماعي) على حد تعبير جان جاك روسو! لذا لا يحق لها أن تنتقد أو تجادل بعد!!
أن أي قارئ متمعن، يستطيع أن يلاحظ هذه الاستهلالات في أي مقال في صحيفة، أو حديث شفاهي، أو كتاب يتضمن بحثا أو دراسة، أدبية كانت، ثقافية عامة، أو علمية، فهذه الجمل لا تستثني من أي خطاب معرفي، عربي التأليف، أو مترجم إلى العربية، ويمكننا إلا نستثني لفظتي (يجب) و(ينبغي) في دلالتهما الوعظية والجبرية!
إن عدوانا يقع على الموضوع من وظائف بعض الصيغ المتداولة، وهذا (العدوان يسمى بأسماء قاسية مثل النفاق، أو يسمى أحيانا باسم الكياسة والتلطف، وإقامة الود بين الناس. (12) لكن هذا العدوان لن يقع على الموضوع فقط، بل سيقع على الكاتب الذي يهدف إلى إيصال معرفة ما للقارئ. كما سيقع على القارئ أيضا، ويحيله إلى حالات مترابطة: الأولي: تصديق كل ما يقال ويكتب، وما تنقله وسائل الإعلام والاتصال، أيا كان مصدرها، والثانية: الكف عن التفكير والتحليل والنقد والفرز، أي القبول، الاقتناع، الإذعان، ثم التمثل، أليس من منطق المألوف، إن ما نصدقه.. ما نوافق عليه،لا نشك فيه ؟
الأسلوب بوصفه وظيفة اجتماعية
قد يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن هذه الجمل الاستهلالية، ليست أكثر من كونها مفتاحا للاسترسال في الحديث، أو أنها مجرد صيغ بريئة، اعتاد الناس تداولها دون أن يقصد من ورائها غاية ما، لكن هذا الاعتقاد سيلفي حقيقة الترابط بين اللغة والتاريخ. كما سيلغي الوظيفة الاجتماعية للغة والأسلوب، ويجعل منها مجرد أدوات حيادية باردة، وتبدو الفكرة والخطاب هما المعول عليهما، وليس لهما علاقة وثيقة بالأسلوب.. وهذا الاعتقاد يرفضه الاسلوبيون الذين يرون (إن كل ظاهرة أسلوبية، تحقق وظائف اجتماعية، كما أن كل ظاهرة أسلوبية، هي من بعض الوجوه، موقف واختيارات، واللغة لا يمكن أن تشرح بمعزل عن سائر اختيارات الحياة (13) . وحين نكتب موضوعا عن العلم والمعرفة والحرية والعدل والحق، فليس من المنطق إذن أن نستخدم صيغا تتضاد في وظيفتها مع وظيفة الموضوع. وحين نريد أن نبلغ الآخر معرفة ما، فليس من قيم المعرفة، ولا منطق العدل ولا خصائص العلم إن نفرضها عليه فرضا، أو نحيله بالإيحاء وفيما يشبه التهديد إلى إنسان مذعن، خائف، أو حذر من الجدل والنقد والاختلاف. وتفعيل الخيال، وهي ردود الفعل التي تبني شخصية وفق خياراته، وغاياته في الوجود، إن القول الذي يروجه بعض االاعلاميين وبعض المثقفين الذين أصدروا كتابا ولم تنفد مبيعاته في السوق، بأن الناس لا تقرأ ولا تهتم بتداول المعرفة ومناقشتها، تعوزه الدقة والمصداقية. فالناس عادة معنية باكتساب المعرفة، مقروءة ومسموعة ومرئية، والا ما شاهدنا شخصا واحدا يذهب إلى ندوة ليستمع ويتساءل.. ولم نر غير الإعلاميين بتوجهاتهم المختلفة، للقيام بوظيفتهم التزاما. و لأغلقت كل المكتبات. دور الصحف، ولما رأينا هذا الكم من المجلات الأسبوعية والشهرية. الدورية، التي وان كانت لها غايات أخرى، إلا أنها تستطيع إلا إن تلبي رغبة الناس في معرفة ما يحيط بها، وما يعني شؤون حياتها واهتماماتها المتنوعة. ولما رأينا معارض الكتاب التي تقام هنا وهناك. وتشترك فيها المئات من دور النشر، وتعرض عشرات الآلاف من الكتب في شتي المعارف الإنسانية.. وتسعى لتطوير وسائلها وفق معطيات العصر. وتبيع وتشتري، وتدخل في صفقات ومداولات، كما تتسع وتزداد، حتى صار نشر الكتب والترويج لها، أحد أوجه الاستثمار والتجارة! لذا فان القول بكساد سوق الكتاب وخسائر دور النشر، نتيجة انصراف الناس عن القراءة، واهتمامها بالسلع والتسلية الفارغة، وموقفها الساخر من الثقافة والمثقفين.. إلى غيره، قول لا يستقيم لتضاده مع وقائع الأمور، كما انه لا ينبى على تقص موضوعي دقيق.
التلازم التلقائي بين التلقي والنقد
إذا كانت المعرفة بمعنانا الواسع هي رغبة الناس عامة، فان الثقافة المتخصصة ليست مطلب الجميع، شأن أي نشاط مختلف يمارسه البعض دون البعض الآخر، وإذا استثنينا (172) مليون أمي عام 2025 في واقع الأمة العربية وفق إحصائيات المنظمة العربية للتربية والعلوم لعام 1995 (14) والفروق الفردية بين الناس في القدرات والطاقات والمنشأ والبيئة الاجتماعية وأنماط المناهج التعليمية التي لا تربي قارئا ومثقفا بسبب وسائل التطبيق القسرية، ووسائل التسطيح والتهميش الشائعة، فان الإنسان العربي بصفته إنسانا معنيا باكتساب المعرفة بفطرة الإنسان، كما انه معني بنقد واقعه بالفطرة أيضا، وفعل النقد ينهض في الآن ذاته الذي يتلقى فيه خطاب المعرفة. وسيتخذ هذا النقد تعبيراته المختلفة وفق الشروط الموضوعية التي يعيشها المتلقي، فقد يتخذ شكل النقد الصامت أو الشفهي، أو المكتوب - إذا سمح المناخ العام - في اطار حياته الخاصة والعامة. وهذا الملكة النقدية عند الإنسان هي سر فرادته وتميزا عن ساتر الكائنات التي تعيش وفق فطرتها المجردة. وبهذه الملكة يغير شروط واقعه الإنساني عن حال إلى حال.. لذا فان آية وسيلة تحد من تفعيل هذه الخاصية، تعني في دلالتها، التدجين والترويض والتطويع وما يقاربها من مفردات، وهذا الترويض سيتماهى مع وسائله المختلفة المتمثلة في بعض وجوهها في اللغة واساليبها، اضافة إلى الأنماط المتكلسة من القيم الاجتماعية والمعرفية، وأجناس الثقافة المقننة!
إن التأمل العميق في كيفية اتخاذ رغبة المعرفة ورغبة النقد وسيلتهما في التحقق، سيوضح لنا تلازما تلقائيا وضروريا يتم في ذهن المتلقي، بين رغبة المعرفة ورغبة النقد، فحين يستعن المتلقي أو يقرأ أو يشاهد خطايا معرفيا ما فانه يدرك إن المخاطب (بكسر الطاء) يريد إن يبلغه أمرا ما وهو في استخدامه اللغة مفردة واسلوبا يريد إن يثير انتباهه لموضوع الخطاب. والمتلقي في تتبعه سير الموضوع يشعر بالاهتمام من خلال صيغ البلاغة وما تبثه من انفعالات وصور وأفكار وإيحاءات، فيزيد اهتمامه أو يقل حسب اقتراب موضوع الخطاب من حياته وتجربته وطموحه. ومواقفه من الحياة، أو ابتعاده عنها، وشعور الاهتمام هذا يولد رغبة في تحليل وفحص مضمون الخطاب وإشاراته، ثم يتخذ موقفا منه سلبا أو إيجابا نتيجة قيامه بعقلية النقد المصاحبة في الوقت نفسه لعملية التلقي. وهذا النشاط النقدي يقود إلى التكذيب أو التصديق، الأيمان أو الشك، الاقتناع أو الاختلاف، الصمت أو الجدل.
هذا ما يحدث حتى في قراءتنا الخاصة، إذ يقوم البعض بتدوين رأيه وملاحظاته على هامش الكتاب، وهذه الملاحظات في معناها نقد صامت لا نقصد نشرة كما إننا ننساه بمجرد انتهائنا من القراءة، إلا انه يكون قد حدد موقفنا ورأينا في الكتاب، البعض الآخر لا يقوم بعملية التدوين لكنه ينشط ذهنيا وينتبه لما يقرأ وتتم عملية النقد الصامت في الآن نفسه وتنهض ردود الفعل في النفس والذهن، ويتم التقييم الذي بدوره يؤدي إلى ما أدت إليه الطريقة السابقة.
هاتان العمليتان المتلازمتان يقوم بهما الإنسان وفقا لطبيعته الإنسانية الطلقة، إذن ما الذي يضعف هذه الطبيعة ؟ و كيف يصاب الذهن والنفس بالوهم والسكون؟.
البلاغة بوصفها ترويضا
إلى جانب وسائل كثيرة، ستقوم اللغة بفعلها الترويضي عبر صياغتها الثابتة على المخاطب والخطاب والمتلقي. فالمخاطب سيطرح موضوعه الذي يعتقد انه مهم، وهو معني به، ويريد إيصاله إلى المتلقي عبر الصياغة البلاغية للغة. وأيا كان فحوى الخطاب، اجتماعيا أم سياسيا أم علميا أم أدبيا، فان المخاطب قد لا ينتبه إلى نوايا اللغة بحكم التعود، إذ إن صيغها الجاهزة متداولة (ولا غبار عليها!) لكن خصائص البلاغة اللغوية لا تقول ذلك، فالكاتب لابد إن يدرك خصائص اللغة وغايته من استخدام هذه المفردة أو تلك. يقول أبو عثمان الجاحظ (كلام الناس طبقات كما إن الناس طبقات، فمن الكلام: الجزل والسخيف والمليح والقبيح والثقيل، وكله عربي، وتنزيل الكلام هذه المنزلة يحتاج إلى تمام الآلة وإحكام الصنعة وإقناع المتكلم بأن سياسة البلاغة اشد من البلاغة) (15) وهكذا فان المتكلم يعرف كيفية التبليغ، فان كان يريد فرض معرفة ما يعتقد ويؤمن بأنها صحيحة ومؤكدة و(لا شك فيها!) ولا تقبل بالاختلاف فسوف يجد في صيغ كتلك غايته، وتؤدي كل من اللغة والنية وظيفتهما. أما إذا أراد إيصال معرفة يرغب في التأكد من صحتها باستطلاع وجهة نظر الآخرين فيها، وفي فيته طرحها للتحليل والجدل، فان صيفا كتلك لن تسعفه. ولن ينفعه اعتماده على ذبذبة نواياه الخفية التي يأمل إن يلتقطها المتلقي، فالمتلقي قد تم ترويضه مسبقا عبر سياسة البلاغة، على حد قول الجاحظ.
إفقار الحس التحليلي
يأخذ الحراك الاجتماعي والثقافي في مجتمعاتنا العربية أشكالا عديدة من الأنشطة، أكثرها شيوعا وانتشارا، هي الندوات التي تقام لأسباب وغايات متباينة، منها الندوات العلمية، والندوات الثقافية التي تتسع بسبب شمول المصطلح لخدمة كافة التوجهات، والتطرق لمختلف أشكال المعرفة والعلوم النظرية. والمتتبع لهذه الندوات، سيلاحظ إن روحا من القبول والتوافق، والانسجام تخيم على الجماهير التي تحضر الندوات أو كأن ليس في الخطاب - محور الندوة - ما يختلف عليه اثنان (!)
إلا إن المتأمل لسير الندوات سيدرك أن سر هذا الانسجام التام، يكمن في لعبة خفية يشترك فيها كل الأطراف. اللغة والمحاضر والشخص الذي يدير الجلسة والمتلقي، فبعد انتهاء المتكلم من تقديم خطابه، يفتح باب النقامق لمعرفة وجهات نظر الحضور في حيثيات الخطاب، لكن باب النقاش لن يكون سوى طقس يحكم اطار الندوة على المتلقي، فالترويض قد أنجز مسبقا بما تضمنته روح الصيغ الاستهلالية من مصادرة لحق الجدل والشك، والالتباس والاختلاف، والمتلقي إذا استرسل في كلامه وتضمن سؤاله نية النقد والجدل فسوف يتم تذكيره بضرورة تحديد سؤاله بدقة، حتى يتسنى للمحاضر إن يقدم له الجواب. ويفترض في الجواب إن يحسم السؤال والمتسائل! لكن بعض المتلقين يكونون قد اكتسبوا - إلى جانب الثقافة والوعي والخبرات، والقدرة على تحديد الموقف والرؤية - روح المشاكسة التي تجعل من سؤالهم مضمرا بروح النقد والجدل. فيسخن جو النقاش ويدخل مساحة التشكيك والاختلاف الذي سيستفز المحاضر للرد، فينشأ الاحتدام.. لحظتها سينهض الشعار- طيب النية - (الاختلاف لا يفسد للود قضية) وتكمن المداهنة في هذا الشعار، في مضمونه الذي يشي بالخوف من الاختلاف، كما يشي برفض اثارته، لذا سيصبح النقاش بعيدا قدر الامكان عن موضوع الخطاب وتناقضاته، ونقاط تعارضه مع وعي المتلقي، وسيتم تحاشي تقاطعات آراء بين المتلقي والمحاضر، إذ إن الاختلاف قد قنن مسبقا وتاليا، بصيغ البلاغة والمجاملات الاجتماعية!
هكذا نصير إلى بشر لا اختلاف بيننا، وأمة تشيع بينها روح الاخاء والمحبة والتسامح والتصالح. وليس في واقعنا صراع على أي صعيد، ولا تسيد ولا خضوع.
هذه الروح المعممة عبر وسائط اللغة والثقافة المقننة، وأشكال حواملها، ستفعل فعل المروض والكابح لتطلعات الإنسان وقدرته على تمحيص الأمور، كما تفقر حسه التحليلي والنقدي، وتضعف روحه البائقة للارتقاء والتغيير. والفادح في الأمر إن استشراء هذه الروح المروضة لن يتم لحساب المجتمع نفسه والأمة نفسها، بل ستمتد إلى كل ما يندس إليها من خارج هذين التحديدين. وتصبح أية معرفة ومقولة مستسلما لها بحكم تعود القبول والتسليم، وتحاشي الصدام والاختلاف. بل سيصير أي تسيد خارجي لا يختلف عن التسيد الداخلي- وفي الحياد- ليس أسوأ منه. فليس النظام العالمي الجديد بأسوأ من النظام العالمي القديم، وليست الهيمنة العالمية بأسوأ من الهيمنة العربية، وليست العولمة بأسوأ من السولفة (اشتقاق من السلفية)... الخ. هكذا سيكون القياس هو الاسوأ وليس الافضل.. وطالما أننا لا نستطيع إن نبدي رأينا في السوء..فلن نستطيع إن نجهر برأينا في الأسوأ. ومثلما أننا لا نستطيع إن ننتقي الافضل، فلن نستطيع إن ننتقي الافضل منه.
جمود الخطاب القياسي العربي
إذا كان اكتساب المعرفة وحاسة النقد هي ممارسة البشر عامة وتعبيرا عن طموحهم للارتقاء والتطور، فان هذا الطموح لا يتحقق إلا بمنهجية تتسم بالمرونة والحيوية والمعاصرة، وفي عصر يلهث لاكتشاف الكون بخطي ممنهجة ومتسارعة، لن يتحقق هذا الطموح، في بعض جوانبه، إلا بتطور الخطاب المعرفي عبر لغته، وأساليب صياغتها المتطورة، وأي تغيير يطرأ على حركة المجتمع يقتضي بحكم الضرورة، تغييرا في البنى التعبيرية الأساسية، والا فسوف يتخلق ما يشبه الفصام بين واقع المجتمع وأساليب تعبيره.. بين القول ومدلوله.
إن القيم التي تتبدل لضرورة العصر والمتغيرات، ستبحث عن وسائلها واساليبها التعبيرية حين لا تجد ما يلبي شرطها في بينتها، سواء كان هذا الشرط لغة أو سلوكا، أو رؤية أو موقفا من المحيط والحياة والعالم. وهذا ما يفسره شيوع استخدام اللغة الأجنبية - بانتسابها إلى حضارة أكثر تطورا وتقدما- في حياتنا الخاصة والعامة، ليس فقط بسبب من الشعور بالدونية تجاه الأجنبي، بل بسبب انغلاق وسائلنا التعبيرية على قيم ماضوية تفتقر إلى المرونة والحيوية الأمر الذي جعل اغلب الأسر العربية التي نالت شهاداتها العليا في الدول الأجنبية، أو أنجزت تخصصاتها باللغة الأجنبية، بل من هم أقل من ذلك مستوى تعليميا، يرضعون أبناءهم اللغة الأجنبية، ليس تعبيرا عن مرتبة في السلم الاجتماعي فحسب، بل سعيا خفيا، لإيجاد بديل للتفكير والتعبير والثقافة والشرط المعيشي، والاحترام والاعتبار!
كتب الشاعر المغربي محمد بنيس، حول بروز خطاب جديد بين بعض الكتاب المقاربة الذين يكتبون اللغة الفرنسية، يتحدثون فيه عن وضعية اللغة العربية ويرون إن التعبير بها أصبح ضرب من العبث، لأنها لغة مشروطة بمنع التعبير عن الحياة البشرية في تعاملها مع اليومي المعاش، وخطابها الفكري والجمالي. وهذا المنع يجد مرجعه في جمود القيم من جهة كما في القواعد النحوية والدلالية والبلاغية. ويرون أنها لغة زمن مضى لمجتمع مضى. وليس لهم الآن غير مواجهة الحقيقة والكتابة باللغة الفرنسية كسبيل لإنتاج خطاب معرفي حديث، يعبر عن حياتهم ورؤيتهم وموقفهم من الواقع والوجود. (16)
في رفضه هذه الدعوة يفند بنيس تلك الظاهرة، ويفسر أسبابها وحججها، ويذكر: إن قبل أكثر من قرن، كانت مسألة اللغة العربية من صميم المشاكل الأساسية المطروحة على التحديث العربي. إلا أن خطا أحمر لم يمكن تجاوزه في تحديث اللغة. وقد ترافق مع النقاش حول قابلية أو عدم قابلية العربية لاكتساب معرفة حديثة والتعبير عنها، ولم يكن العرب غافلين عن وضع لغتهم موضع النظر والصراع معا. ويرى بنيس إن ذلك علامة مثيرة إلى انسداد أمة إلى حيويتها وضرورة التخلص مما يعرقل اندماجها مجددا في الحياة، ولا معنى لذلك سوى جعل العربية لغة لزماننا. فتخلقت لغة ثانية أخذت تشع من بين الرميم، والذهاب والإياب بين الماضي والحاضر، وبين الحاضر والمستقبل، طريق ليست سالكة على الدوام المنعرجات والعراقيل.. السرعة والتراكم، الذات والآخر.. الحرية والاستبداد، كلها حاضرة في اللحظة الواحدة وفي النص الواحد أحيانا. (17)
حاولت الحداثة في مشروعها الثقافي والإبداعي كشط الجلد المتيبس من جسد اللغة العربية، ومدها بدفق من دم جديد لتفعيلتها وإكسابها حيوية ومرونة تؤهلها لهضم المعرفة الجديدة. وتمثلها في صياغة تلائم الطموح والتغيير وتعبر عنه، إلا إن الحداثة جوبهت بمتاريس السلفية ورماح السخرية واللمن والشبهة. وجعلت من المعبرين عنها بشرا غرباء في واقعهم وغرائبيين في شطحهم، كما جعلت منهم كائنات ملتبسة تهبط من فضاء آخر، وتحمل رسالة عدوانية، غايتها تغريب المجتمع، وهدم المرتكز الأساسي للهوية العربية.
إن ظواهر من نوع دعوات الكتاب المقاربة، ستبرز دائما، طالما هناك اصطراع بين الثابت والمتحول بين وجدان يتطلع ولسان ساكن، وإذا كان الكتاب المغاربة استطاعوا التعبير والإعلان عن التناقض، باختيار الوقوف على الضفة الأخرى، في واقع هيأته ظروف تاريخية ومعاصره..0فان الكثيرين من كتاب المشرق العربي، ينتخبون الموقف ذاته دون إعلان، فهم يحملون ويفكرون ويقرأان ويرون العالم من خلال لغة وثقافة أخرى، لذا، حين يعبر بعضهم عن أفكاره بلغته الأم، يبدو التعبير (الكتابة) وكأنها ترجمة حرفيا عن تفكير بلغة أخرى، فالترجمة الحرفية تتسم عادة بالالتباس والتشتت، وتفتقر إلى السلاسة والوضوح والترابط!
ومن أبرز الظواهر غير المعلنة في حياتنا الثقافية، ما نلحظه من لجوء دائم وكبير إلى المراجع والاسنادات الأجنبية لتفسير الظواهر والعلل التي تنبع من الواقع العربي وتصب فيه، فالخطاب القياسي العربي لم يتطور حتى يستطيع إن يفسر الظواهر المعاصرة بلغة معاصرة، وحتى حين يجري الاستناد على رأي مفكر عربي معاصر فان ذلك المفكر قد استند في موضوعه وقياسا على المرجعية الأجنبية، لذا تبدو البحوث في اغلبها وكأنها عملية قص ولصق يغيب عنها رأي الباحث الصريح، ووجهة نظره الخاصة!
صحيح إن أية معرفة إنسانية تنبع من حضارة ما، تصب في مجرى الحضارات الإنسانية عامة، إلا أنها حين تصير هي المصدر والموئل الأساسي لفهم وتفسير حضارة أخرى، فان فجا عميقا يكون قد شطر الحضارة تلك عن منبعها!
إقرأ أيضاُ