حمدة خميس
(البحرين)

لماذا تكتب النساء ؟
تأملات في إشكالية إبداع المرأة

حمدة خميسلماذا نكتب !.. نحن النساء المنذورات - كالقرابين - للغياب، القابضات على الغبار.. المرسومات بفرجار وفق زوايا منحنية ! نحن اللاتي صهرن في قوالب أضيق من مساحة الكتابة وأفقر من ثرائها. قوالب مدججة بأقاويل غامضة تنتج ذاتها على مر العصور. قوالب متشابهة تم تشكيلها وفق هيئة عامة تنتج أشكالا لا تختلف إلا بقدر يسير لا يعلن ولا شي. تبدو معها كل النساء متشابهات.. مسيجات ضد أرواحهن، وذواتهن، مبرمجات منذ الولادة حتى الموت وفق معطيات واحدة تتكرر على مدى الأزمان... برمجة كلما أوشكت على الاهتراء أعيدت في أشكال جديدة. تماما مثل أغنية قديمة ظهرت في عصر بعيد وسجلت على تلك الأقراص السوداء الغليظة التي نسميها (الاسطوانات)التي تدار بالفوتوغراف اليدوي.. توضع في ذراعه إبرة صغيرة تشبه إبرة ماكينة الخياطة، تظل تنحت في القرص بينما هو يدور ويدور... وكلما تآكل سن الإبرة استبدلت بغيرها. لكن الأقراص تتطور في صنعها، فتنقل الأغنية العتيقة الى الأقراص الجديدة.. لتدار هذه المرة على أقراص أرق وأرق، تدور على أجهزة تعمل بالكهرباء.. ثم ترتقي التقنيات أكثر فتنقل الأغنية الهرمة الى أقراص أكثر تطورا تعمل بالليزر.. على نمط C.D ورغم معالجة التشوشات في الأغنية المتآكلة إلا أن حشرجات الزمن تظل تنبعث منها، لتشير الى انتهاء صلاحيتها وعدم ملاءمتها لذائقة العصر المتبدلة! هكذا تماما تنتقل المعطيات ذاتها التي تصيغ كيان المرأة، مستبدلة وسائلها كل مرة لتبقي على مضمونها الثابت. والذي لا يمكن الخروج به نحو مساحة الإضاءة.. نحو مشرط الرؤية والنقد والتفكيك لتعيد صياغة الكيانات الغائمة المبهمة وفق شروط العصر والتبدلات والوضوح !

***

إذن لماذا نكتب وفعل الكتابة أصعب من طلق الولادة، هذه التي لا تميزنا ككائنات إنسانية بقدر ما تميز جميع الكائنات المولودة في الطبيعة عن ذكورها! لكن طلق الولادة وجع آني.. أما الكتابة فهي وجع ممتد.. إذن لماذا نكتب ونحن ندرك أننا نضع أصابعنا - المنذورة للحناء
- في أسيد الكتابة الحارق ؟

***

الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي يقول: "الكتابة هي الإشارة للأعضاء كي تستأنف نبضها.. للجذور كي تعيد تأهيل قارة التاريخ.. للأيادي كي تستعيد وظيفتها الاستشفائية.. للعيون كي تستعيد قدرتها على الرؤية.. للكلام كي يهيكل من جديد عناصر الكيان المتناثرة، ويعيد له ذاكرته الخاصة.. الكتابة معاناة جسدية مضنية.. صراط حقيقي.. وفي الوقت نفسه بلسم وإكسير للانبعاث!"
هذا ما يقوله شاعر معروف وكاتب رجل، صانع للثقافة منذ فجر التطور البشري، داخل في نسيجها، وحاضر في ساحاتها المتعددة، فماذا تقول المرأة التي تحاول النهوض بعد عصور من المناوشات الطويلة، وما زال عليها أن تناوش وتناوئ طويلا وشديدا حتى تثبت أقدامها ولو كخيط رفيع في نسيج الثقافة.
الروائية هدى بركات تقول في إجابتها على سؤال وجه الى عدد من النساء "لمن تكتب المرأة ؟": (ربما اكتب للفراغ !... وحين أكتب أبعث بما يشبه تلك الرسائل التي تودع زجاجة وتلقى في البحر. فلو كان المرسل على جزيرتها البعيدة مستتبا في يأسه الكامل لما أرسلها.. إنه على الحافة.. على الصراط الذي يجعله بين صورة القعر وصورة عينين تقرآن. أعتقد أن الناس (الأولين) بدأوا الكتابة على جدران الكهوف حين لم تعد المشافهة تكفي!! وحين أرادوا أن يتذكروا الزمن ويثبتوا المواسم. أنا أكتب لأملأ فراغ العالم مني.. لأمتد خارج جسدي القليل.. لأشغل مساحة أكبر من تلك التي لي.. وحين نكتب فكأننا نسافر كثيرا ويتعدد وجودنا في الأمكنة.. أكتب أيضا للبيت الذي ولدت فيه منذ أن عرفت أنني سأغادره يوما لأن البنت كائن لا يقيم.. كائن يسير ولا مكان له. نحن النساء نكتب لندل على قوتنا على شدة بأسنا في غيابنا وحضورنا.. على تأثيرنا وضرورتنا!).
الروائية إميلي نصر الله تجيب: (.. ثمة فعل من أفعال العشق الغريب يقوم بيني وبين الكلمات. ندخل سويا الغرف السرية. ونغوص في دهاليز لولا حفر الكتابة في الوعي لبقيت عظمة، ومطوية. وحين ندخل، أبصر كيف تشعشع المصابيح، وتضاء الأنوار في السراديب والأقبية، وكيف تتحول الكلمات الى قناديل معلقة، توزع الفرح، تنشر الانشراح، وتحرر الجسد والروح معا، من كل قيد وثقل.
وأنا نفسي، عندما أدخل تلك الزوايا الحميمة، الخفية، لا أبقى ترابية، بل أحسني صرت ملاكا أو من طينة بعض المخلوقات الأثيرية، لذا أشتاق تكرار المحاولة، وان حالي، مع تلك الزوايا المتوارية في أعماق الكيان، والتي كلما أمعنت فيها نبشا، ازدادت احتجابا - هي مثل أحوال العشق الصوفي، لهبته أبدا، مشتعلة، وحرقته لا ترتوي، ومداه بلا حدود. أما وجه الحبيب وفي البحث الصوفي، فيمعن في التواري، كلما شعرت منه اقترابا).
مرة أخري،، لماذا ينبغي أن تكتب المرأة ؟
لأجل أن تفرغ البرمجة المضادة لذاتها وعقلها وروحها وكيانها.. من أجل أن تعيد برمجة ذاتها وفق شروطها هي وتطلعاتها هي.. وفق أحلامها وقواها الكامنة وقدراتها الخفية وجوهرها المتميز. المرأة لا تكتب لأنها لا تريد أن تسقط في النسيان بعد موتها أو لكي توقف الزمن وتسرمد اللحظة، كما يجيب الرجال عندما يسألون عن أسباب الكتابة. المرأة تكتب كي تؤسس حضورها، لا في الواقع الذي غيبت عنه طويلا فقط، بل في الواقع الإنساني بشموليته، الواقع الذي وضعت فيه في زاوية منحنية ومنسية ! تكتب كي تعبر عن حركة وجودها كي تعلن أنها كائن إنساني وموجود.. كي تنهض بذاتها.. وبالحياة في أرقي أشكالها وتجلياتها.. الكتابة فعل ممارسة للحياة لكن الحياة في عمقها وتعقدها، في حدتها وشفرتها.. الحياة في مائها وحركة تبدلاتها.
فعل الكتابة هو فعل انبعاث وصعود.. وهو فعل تهشيم للتهميش الذي حاق بالمرأة وفعل تأسيس في الآن ذاته.
الكتابة المبدعة إمكانية كل امرأة لأنها (فعل أنوثة) كما يقول غاستون باشلار. الإبداع يعتمد الحدس والشفافية والطلاقة والعمق وهي جوهر الأنوثة وحقيقتها والكتابة تنبعث من الاصطراع الداخلي بين المكبوت والمعلن.. بين الرغبة في التحقق والغياب المقنن بين التوق للتبدل والتغيير والسكون القسري. وهذا الاصطراع هو الواقع الذي تعيشه كل النساء بوعي أو بدونه !
المرأة والكتابة
(لقد بدأت الكتابة في الوقت الذي ترفو فيه النساء جوارب أحفادهن !) هذا ما قالته الروائية اللاتينية إيزابيل الليندي حين سئلت عن بداياتها في الكتابة.
منذ سنوات كنت أحاول الكتابة في بحث يتناول إشكالية الإبداع عند المرأة العربية. يعتمد أساسا شهادات مسجلة لنساء يمارسن الكتابة الإبداعية أو مارسنها وتوقفن. كنت أجري مقابلات وفق سير الظروف في أقطار عربية هنا أو هناك. إلا أنني لم استكمل البحث بسبب حصار الضرورات والإحباط الذي يشل أية محاولة جادة فأرجأت البحث ككل الأحلام الجميلة في حياة النساء! لكنني وأثناء التحاور مع الكاتبات استخلصت عدة ملاحظات منها أنني أدركت القاسم المشترك الأكبر بين النساء في تعثرهن في مجال الكتابة ! علما بأن كل النساء اللاتي قابلتهن يعملن في مجالات وظيفية مختلفة !
كنت قد قسمت النساء في البحث الى ثلاث فئات: فئة مارست الكتابة، وكانت نساؤها تواقات طامحات للتطور في تجاربهن لكنهن توقفن عن الكتابة تماما بعد الزواج، ولم يعاودنها بعد ذلك !
وفئة انقطعت عن الكتابة بعد الزواج ثم عادت إليها بعد سنوات، بعد أن كبر الأولاد على حد قولهن. وفئة واصلت الكتابة بعد الزواج مع خوضهن صراعا دائما بين ما تتطلبه الكتابة وتطورها من شروط، وبين ما تتطلبه العائلة من شروط مضادة. لكنهن انتصرن لتجربتهن الإبداعية وأكدن حضورهن في الساحة الثقافية !
لقد لاحظت أن عند هؤلاء النساء جميعهن كانت العائلة والمنظومة الخدماتية المنذورة لها المرأة وفق القيم السائدة في المجتمعات العربية تشكل سدا منيعا وعائقا حقيقيا وقاهرا ضد تجربة الكتابة، ضد الإبداع، ضد تحقق الذات بالصيغ الانتقائية التي تحددها المرأة بنفسها!
العامل الثاني: القيم والتقاليد والأعراف والمحظورات التي صيغت عبر قرون واستمرت الى اليوم، ورغم اهتزاز الكثير منها عبر حركة التطور والتبدلات التي نالت الكثير من حيثيات تلك المفاهيم، إلا أن النساء جملة مازلن يرتعشن خوفا من اقتحام مجال الكتابة الأدبية باعتبارها أكثر الخروقات فداحة لجدار تلك المنظومة من المفاهيم التي صيغت منذ عصور ولم تكن المرأة قطعا، ضمن من صاغوها!
هذا في العام الشمولي، أما في الخصوصيات المتعددة للنساء اللاتي قابلتهن فإن الفئة التي تركت الكتابة بعد الزواج تعللت نساؤها بكثرة الانشغالات، وما تتطلبه تربية الأولاد من جهد وطاقة، وخضوعهن لاشتراطات الزوج الذي اعتبر الكتابة عملا لا يليق بزوجته وسمعته الاجتماعية ! أما الفئة التي واصلت الكتابة بعد انقطاع طويل فقد ذكرن نفس الأسباب إلا أنهن عاودن الكتابة بعد أن كبر الأولاد، واكتسب الزوج مرونة أو مهادنة بغية الحد من الاضطرابات العصبية والمشاكل الانفعالية التي تثيرها الزوجة بسبب حرمانها من مواصلة تجربتها التي تشعر أنها تعيش داخلها وأنها الصيغة الوحيدة التي تحقق بها ذاتها.
بعض تلك النساء قلن لي: إنهن شعرن وأدركن فيما بعد أن المؤسسة الزوجية والأطفال والعمل الوظيفي بالرغم مما يوفره من استقلال اقتصادي لم يمنحهن الإحساس بتحقق الذات وظلت رغبة الكتابة في أعماقهن جمرة لا تنطفئ!
أما النساء اللواتي لم يتركن الكتابة أصلا، فقد خضن صراعا يوميا مع الأسرة والزوج والمجتمع وحتى مؤسسات النشر ودور الصحف، وأنهى بعضهن الصراع بالخروج من مؤسسة الأسرة أو الحياة الزوجية (بالانفصال). أما اللواتي لم يخرجن من إطار الأسرة والحياة الزوجية فإن السبب يكمن بالنسبة لهن في تفهم الزوج وتشجيعه.
قلن لي: أن تشجيع الزوج وإيمانه بقيمة الكتابة واعتزازه بزوجته الكاتبة اكسبهن الشجاعة لمواجمة تحديات القيم المحيطة والكامنة لا في المجتمع فقط بل في الذات نفسها!
وفي هذا المثال تكمن فداحة الإتباع الذي عاشته المرأة ككائن موجود بغيره لا بذاته.. كما تكمن سطوة الرجل كممثل ومنفذ لقيم !لمجتمع واستلابه المرأة وتزييف وعيها.
إن الملاحظة التي تبعث عن الأسى حقا هي أن أغلب النساء اللواتي قدمن تجارب تتسم بشيء من التطور والنضوج قد تجاوزن سن الشباب، ذلك العمر المفعم بالحيوية والتدفق والنشاط والحماس للحياة والقدرة على الابتكار وتوليد الأفكار. إذ بينما كان ينبغي أن يخلصن لتجاربهن في الكتابة ويستجبن لشروطها ويسرن بها نحو النضوج والتطور والإضافة المبدعة قضين أكثر تلك السنوات (الخضراء) في الصراع مع كل أشكال المعوقات المقنعة والسافرة !
ولعل إيزابيل الليندي قد مرت بظروف مشابهة جعلتها تبدأ الكتابة بد أن أنجزت مهمتها التاريخية!
المرأة بين الذات والذات
لماذا يكمن في عمق لاوعي المرأة إحساس خفي بهامشية الكتابة (كتابتها) بثانويتها كقضية تقتني الدفاع عنها والانتصار لها؟ ولماذا تشعر أكثر النساء بخوف غامض وارتباك ممض من ممارسة الكتابة ؟ فيما يبدو لبعضهن أنها تتطلب شجاعة الفرسان القداس في عصر السيوف !
لقد لاحظت أن النساء اللاتي تركن الكتابة بعد الزواج لم تتجاوز أحلامهن سقف البيت ! ولم تكن الكتابة بالنسبة لهن أكثر من لهو الصبا وممارسة لملء الفراغ في  انتظار تحقق الحلم المثال الذي يجدن مرجعيته في نمط التربية الأسرية والمجتمعية وكافة وسائل الإعلام ! واللواتي عدن إليها بعد أن كبر الأولاد، شعرن أنهن بحاجة الى إكساب حياتهن معنى آخر وقيمة غير تلك التي كرسن لها! أما النساء اللاتي صارعن كل أشكال المعوقات في الحياة التقليدية ليبقين جذوة الإبداع متقدة وانتهين إما بالتوفيق بين شرط الإبداع وشرط العائلة، أو بالقطيعة. فقد أكدن أهمية الكتابة ومركزيتها في حياتهن وانتصرن لها. لكن هؤلاء النساء قليلات حد الندرة، ويبدو كما لو أنهن يتمتعن بشجاعة فائقة !
إن التهميش الذي تمارسه المرأة ضد ذاتها المبدعة يتجل في حيثيات كثيرة في حياتها، لا يعود أكثرها الى عوامل خارجية (المجتمع بمسبباته المختلفة) بقدر ما يعود الجزء الأكبر منه والأعمق الى المرأة ذاتها ودرجة وعيها وتحصيلها الثقافي وليس الأكاديمي فقط !
فالمرأة الكاتبة لا تجعل من الكتابة قضية مركزية في حياتها، تدور حولها وتصب فيها كل تجاربها وثقافتها وعلاقاتها الاجتماعية والأسرية، كما يفعل الرجل المبدع الذي يجعل من إبداعه قضية مركزية في عمق وجودا الإنساني، ومحورا تدور حوله كي تجاربه وثقافته وعلاقاته الاجتماعية والأسرية، بل كل حركة وجوده، وتصب فيها.
إذ أن الكتابة عند المرأة ليست أكثر من جملة في مقال حياتها القصير! لذا يصبح من البديهي إلا تسعي المرأة الكاتبة لتذليل العقبات التي تحول بينها وبين ممارسة الكتابة أو الخلوص لها وتطويرها.
إن شروط الكتابة كثيرة تحتاج الى عمر كامل لإيفائها، منها شرط العزلة، والوقت، والثقافة العميقة والشمولية الإيمان العميق بجدواها وقيمتها لا في حياة الفرد فقه بل في حياة المجتمع الواحد والمجتمعات البشرية كلها!
فيما كنت أعمل في بحثي (حول معوقات الإبداع عند المرأة) لاحظت أن المرأة العربية التي تمارس الكتابة مبدعة كانت أم باحثة لا تملك غرفة أو زاوية خاصة في بيتها تتوحد فيها بالكتابة والقراءة. بعكس البيوت التي يكون الكاتب أو الباحث هو الرجل.
أما المرأة التي سمحت لها ظروف الاقتصادية ودرجتها الأكاديمية العالية وخصصت لها (بسببهما) غرفة مكتبة. فإنها أكدت لي (بلهجة المتذمر وإحساس الضحية) أنها لم تدخل غرفتها لا للقراءة ولا للكتابة منذ زمن طويل. لأن مشاغلها في البيت والوظيفة والتزاماتها الاجتماعية لا تمنحها فرصة الدخول الى مكتبتها! وقد تجلى صدقها باكتظاظ المكتبة بلعب الأطفال وزوائد البيت ! لكن حتى المرأة التي تشعر باحترام أكبر لكونها باحثة أو كاتبة فإنها لا تملك القدرة على قفل باب غرفتها وفرض طقس الكتابة على طقس المجاملات الاجتماعية وطلبات العائلة ! التي باتت تضطلع بها الخادمات في مجتمعاتنا الثرية !
هكذا إذن تنتصر المرأة التقليدية (الأم - الأخت الشخصية الاجتماعية - الموظفة) على المرأة المبدعة الباحثة في ذات المرأة نفسها !
نادرات هن النساء اللاتي يعلين الذات المبدعة في أنفسهن على الذات التقليدية دون أن يشعرن أن الأولى تنحى الثانية أو تلغيها. كما تفعل الذات التقليدية للذات المبدعة !
إن سطوة الذات التقليدية تكمن في سهولة تعاطيها، فإن تكون المرأة أما أو زوجة أو شخصية اجتماعية أو موظفة في مجال روتيني أمر لا يتطلب شروطا خاصة وثقافة عميقة أو تفكيرا مجهدا أو سعيا حثيثا لتطوير الوعي بالذات والوعي بالخارج، أو اشتراطات أخرى كالعزلة والوقت والهدوء... الخ مما يحتاجه الكاتب كي ينجز عمله !
إلا يبدو أن الإبداع / الكتابة /طموح أعلى من السقوف الوطيئة التي يؤسسها الواقع اليومي الفج ؟
إن الإبداع مشرط حاد للكشف عن جوهر النفس وتشذيبها من التشوهات التي تعلق بكينونتها الإنسانية، إنه تطهير للحواس والروح من كثافة الإتباع وغلطة المقولات التي نسلم لها حياتنا الإنسانية الثمينة !
نحن نري في جميع المظاهر اليومية أن الواقع يعلي من شأن الذات التقليدية عند المرأة والرجل على حد سواء، لكن لأن السياج المحيط بالمرأة أكثر صلابة وكثافة، فإن التسليم للذات التقليدية والاستجابة (لدعوة) الواقع أكثر يسرا وأسهل ممارسة وأكسب للرضا والمباركة، بل أكثر حصدا للمنافع الصغيرة في المجتمع ! لكن ماذا تكسب الذات المبدعة في انتصارها، أكثر من الفرح العميق الذي يمنحه الانسان لنفسه؟ وأكثر من الإحساس بالتعالي على الصغائر؟
أهذا ثمن بخس ؟
نصف الأدب.. ونصف التاريخ
أنجزت الكثيرات من النساء في العقود الأخيرة من هذا القرن بعض شروط وجودهن ككائنات إنسانية تتمتع بقدرات وطاقات موازية ومتساوية لما يتمتع بها الرجل. فدخلن عصب الحياة الاقتصادية كقوة عاملة. ونلن الاعتراف ببعض حقوقهن في المجالات التشريعية. وأفسحت لهن المجالات التشريعية، وأفسحت لهن المجالات المختلفة للإسهام في مشاريع التنمية. وبرزن في مجالات العلوم الإنسانية المتنوعة. واقتحمن الحياة السياسية وشاركن في صنع القرار بأعلى مستوياته المصيرية في بعض دول العالم، وفي بعض البلدان العربية نلن الاعتراف بحقوقهن السياسية كأعلى شرط تنص عليه الدساتير عامة لاكتمال المواطنة.
ضمن هذه التحققات، تدخل المرأة نسيج الحياة الثقافية كقوة مبدعة ومجددة في مجالات الفنون والأدب. إلا أن الملاحظ أن النساء اللاتي تحققن على هذا النحو قليلات حد الندرة. فمازالت الساحة الأدبية والفنية، وتفعيل الحياة الثقافية بتعدد وجودها وأغراضها مناطة بالرجل ومازال قلما يجري وحيدا في رصد الوقائع أو التأسيس لها ضمن منظور واحد وقيم واحدية. الأمر الذي يجعل من هذا المنظور وتلك القيم عسيرة على التبدلات الجذرية عصية على الاستجابة لمعايير التجدد!
إذا ما اعتمدنا الدقة الموضوعية، وانطلاقا من قاعدة أن النساء نصف أي مجتمع فسنصل الى أن تفعيل الحياة الثقافية يقوم على نصف المجتمع فقط. لذا سيظل ذلك القلم وذلك المنظور وتلك القيم دون شرط التكامل أبدا.
نحن نقرأ أن الأدب مرآة الأمة، والمعبر عن وجدان عصرها وتاريخها، فإذا كان نصف الأمة غائبا عن ساحة التعبير هذه،فكيف نعتبره مرآة صادقة تعكس وجدان الأمة كلها؟ ألسنا هنا أمام مسألة حسابية ملتبسة؟ فإذا كان الرجل + المرأة = الكل. أو النصف + النصف = 1 (الكل) فكيف يمكن أن يكون النصف وحده مساويا للكل: إلا يبدو أننا نقرأ نصف الأدب، ونصف التاريخ ونصف الوقائع.. الخ. ومع ذلك نرى أن الواقع اليومي في تفاصيله الدقيقة يجعل المعادلة الموضوعية معادلة افتراضية، أو رمزية فالرجل يرمز للمجتمع كله، بينما لا يشار إلى المرأة حتى على أنها نصف المجتمع إلا في صفحات بعض الصحف، وبعض صيغ المجاملات الاجتماعية الأخرى!
لكن هل حقا أن هذا الافتراض أو هذا الرمز مجاف للوقائع ومتعد عليها ؟ باستقراء سريع سندرك أن هذه المعادلة الرمزية حقيقية أو موضوعية جدا، إذ أن المجتمع كقيم وقوانين وحركة وتفعيل طاقة.. المجتمع بمفهوم سياسي ومفهوم اقتصادي ومفهوم تاريخي ومفهوم ثقافي، وما يندرج ويتفرع بين هذا المفاهيم ومنها هو من إنجاز الرجل الذي سيصبح بسبب من ذلك الانجاز هو المجتمع كله، في غياب المرأة عن ذلك التفعيل وانسحابها الى الوراء. لذا سيظل الأدب  كمثال - وحيد القلم والمنظور والقيم. وإنها لوحدة قاسية أن يبقى الرجل مضطلعا بكل هذه الأعباء الجسام، عابرا في سبيل إنجازها بكل المنعطفات الوعرة مستلهما في أكثرا لأحيان قيم عصر الصيد حين كانت النساء يقبعن - لحماية صغارهن من الافتراس في - الكهوف ويقمن في علاقة رحمية مع الأم الأولى - الطبيعة - ليتغذين بثمارها أو يعدن إنتاجها في إطار حركتهن المقيدة بالصغار، بينما يمضي الرجل وحيدا - قاتلا ومقتولا - في البحث عن غذائه !
تلك أزمنة ولت في سيرورة التطور البشري الهائل، ولم يعد بالإمكان الاتكاء على مبدأ تقسيم العمل الذي انحدر من ذلك العصر، هل يبدو ذلك ممكنا بعد أكثر من سبعة آلاف عام !
واذا ما كان الرجل هو الذي أنجز لحل هذا التطور البالغ الدهشة واذا ما مضى في وحدته القاسية يؤسس هذه الحضارات، أليس من البديهي أن يتم إسقاط ذلك الشعور العميق بالوحدة في نظرة دونية لعالم المرأة وكيانها؟!
أو ليس ذلك الانجاز الفائق هو الذي منح الرجل الإحساس بالقوة والسيادة والجبروت ؟ إلا يشعر الانسان صغيرا كان أم كبيرا امرأة أم رجلا بالفخر والاعتزاز والتفوق والثقة بالنفس والقوة حين ينجز عملا عظيما قيما في نظر الذات والآخر؟ أليست هذه طبائع الأمور والمشاعر؟
حدثتني صديقة تعمل في مجال التحليل النفسي، إنها لاحظت في تجربتها مع النساء اللاتي ترددن على عيادتها. إن المرأة تعيش إحساسا خفيا بكونها ضحية ! وهي تستمتع بهذا الاحساس الذي يصبغ سلوكها وحياتها وتقييمها لنفسها ويمنحها في الوقت نفسه فرصة التنحي عن تفعيل حياتها ويعفيها من الشعور العميق بالمسؤولية تجاه ذاتها وقدراتها والتحديات التي تواجه أي نشاط غير تقليدي تمارسه. بل إنها تجد في هذا الشعور تبريرا لمخاوفها وانسحابها، وأكدت أن أغلب النساء لا يشعرن في أعماقهن الخفية بالمسؤولية حتى تجاه أدوارهن التقليدية، إذ أنهن يشعرن أن هذه الأدوار ليست خيارهن الوحيد، وفي الأغلب مقصرات على القيام بها!
هنا ينهض سؤال آخر: كيف يمكن للإنسان أن يشعر بالمسؤولية تجاه أمر لم يختره ولم يصنع قوانينه وأطره ؟

نزوى - عمان