في النقاش الذي أعقب محاضرة ألقاها الناقد صبحي حديدي قبل أيام في جامعة البحرين لمناسبة يوم الشعر العالمي وتكريم الشاعر قاسم حداد سأله احد الحاضرين عما يمكن للشعر ان يقوم به حيال الانتفاضة الفلسطينية.
كان السؤال مفارقاً للأسئلة الجمالية والفكرية التي طرحها بعض الحاضرين علي حديدي، ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، لكنه لم يربك الناقد المعني، أصلاً، بالبعد السوسيولوجي للإبداع. فقال له ما معناه أن العلاقة الساخنة بين القصيدة والمناسبة (.. أو الحدث) ليست مضمونة النتائج لصالح الشعر دائماً، وإن كان الأمر يتوقف في جانب منه علي من يتصدى للحدث وقدراته الإبداعية وضرب محمود درويش مثالاً.
لكن إجابته لم تشف، ربما، غليل السائل الذي يريد للقصيدة ان تكون سلاحاً بالمعنى الذي تردد حيناً من الدهر في أدبيات اليسار العربي.
القصيدة ليست رصاصة ولا هي حنجرة، ولا فشة خلق ولا بلاغاً يؤذن في الناس، فالعمل الشعري الذي ينافس عضل اليد وصلابة الحجر ويجري مجراهما، لا يتجاوز، إبداعيا مرمي الحجر نفسه.
هذا أمر وفره لنا تاريخ الأدب ويمكن للمتشكك ان يعود الى التاريخ ليري كم من القصائد (والأعمال الإبداعية عموماً) انطوت بانطواء مناسبتها.
ولكن هل هذا مبرر كاف لتدير القصيدة ظهرها للعالم وتنكفيء علي شؤونها الخاصة ؟
أن لا يهزها او يؤثر فيها ما تحفل به لحظتها من خطوب باعتبار أنها ليست مما يتصدى له الشعر ولا مما يشغله.
السؤال الذي طرحه سائل صبحي حديدي بحرقة انطلاقا من هذه اللحظة الفلسطينية الأرجوانية وأجابه صبحي بتفهّم.. هو، مع ذلك، سؤال ينبغي ان يشغل بال الشعر.
لا ينبغي للشعر، ونحن نحتفل هذه الأيام بـ يومه العالمي ان ينس احدي حقائقه البسيطة التي كادت ان تعصف بها مزاعم الحداثة بطبعتها العربية الرديئة: الحياة.
إنه فن الحياة إن لم يكن أقدم فنونها طُراً.
ولكن دعونا نصيغ السؤال بطريقة مختلفة: ما هي صلة القصيدة بظرفيتها؟
أي ما هي العلاقة التي تربط بين العمل الشعري وبين الآن و الهنا ؟
هذا هو السؤال الذي ما يفتأ الناس، ما تفتأ الأحداث أن تطرحه علي الشعر عالمياً وعربياً وخصوصاً عربياً حيث ارتبط الشعر دائماً بحدث سواء كان وجودياً أم مادياً؟
- إلحاح السياسة العربية، بمعناها الإجرائي الضيق، علي تحويل الإبداع الى بلاغ أو سلاح مباشر في معاركها ومناوشاتها شوَّش العلاقة بين السياسة والإبداع. صارت السياسة شبهة ينبغي الابتعاد عنها أو تنظيف النص من آثارها.
ان السياسة فعلاً، بهذا المعني، مفسدة للشعر، لا تري فيه إلاّ قدرته علي استثارة العواطف السريعة. لم تفهم السياسة العربية الشعر بوصفه مشروعاً تغييرياً، اجتماعياً وجمالياً، بعيد المدى بل هتافاً في الشارع أو خطبة علي منبر. لذلك كانت تجربتها مع الشعر الذي استجاب لها سيئة، أما الشعر الذي لم يستجب، فدخل معظمه في تهويمات تقترب من كل شيء إلاّ تلك الكلمة التي صار لها عندنا رنين الشتيمة: الواقع.
فبين شعر لم ير أبعد من الشعار، وبين شعر يتحرك في الفراغ، اهتزت علاقة القصيدة العربية بالواقع. فقدت القصيدة بوصلتها وفقدت في الطريق قارئها وصارت شريدة في عراء الحداثة (أو ما بعدها) القاحل.
* ليس المطلوب، هنا، إعادة النظر بعلاقة السياسة بالقصيدة بقدر ما هو مطلوب إعادة الاعتبار للحياة.. والواقع في القصيدة.
وإذا كانت القصيدة الحديثة لا تكتب تحت إلحاح المناسبة وضغطها، فهي أيضا ليست ابنة القطيعة وإدارة الظهر للعالم.
هذا هو ما تحتاج الشعرية العربية اليوم أن تتأمله وتفكر فيه.
ولا أظن أن مأزق الشعرية العربية مع متلقيها ببعيد تماما عن هذا السؤال.
* ها نحن في اليوم العالمي للشعر نقع علي التهويمات نفسها في الخطابات العربية المنافحة عن ضرورة الشعر التي تحفل بها الصحف والمنتديات الى حد الضجر والإملال.
التداعي اللغوي المفرط ذاته
السديم الذي يحيط الكتابة الشعرية نفسه
وغياب أسئلة الراهن.
إنه مجرد كلام علي كلام
أو كلام يتناسل من كلام
أفق غائم لا تلوح فيه علامة