1- الكتابة والحاسوب والإنترنت
1-1 كتابة وكتابة
حين تجلس وجها لوجه قبالة آلة متحركة كثيرة الصور والحركة والإغراء (جهاز كومبيوتر مثلا)، تلامس بِنَقْرة زرٍّ أشلاء العالم وعَلْيائه ، تضحك وجها لوجه مع الآلة، تتحدث معها أو قد تحزن، قد تغضب، ولكن كل ذلك سيتم في صمت وفردانية غير اختيارية فرضتها عليك هذه الآلة اللعينة . آلة تثير جوانبك كلها حسب الحاجة ، الأسفل، الأعلى ،ماديا ، معنويا . حين تجلس بهذا الشكل - ولست مخيرا في ذلك في هذا الزمن- هل تمتلك العالم من خلال جهاز الحاسوب أم يمتلكك بواسطة شبكة الإنترنت ؟ تضحك، تقهقه وحدك كالأحمق . تُثارً حواسك بفعل الحركة المركزة والمدروسة، تثار كلها حسب الموقع الذي أنت فيه. وقد تهيج هيجان الثيران إذا لم تكن مستعدا بما فيه الكفاية لتقبل صور متحركة في الممنوع وبالممنوع الذي لا حد له .
العالم لمسة زر بواسطة الإنترنت المختلف في أوليته عما وصل إليه الآن. الإنترنت شبكة عالمية لتبادل المعلومات وبث الأفكار ، للتسوق ، للإعلام ، لإبداء الرأي ، للاحتجاج ، للثقافة باختصار . نشأت الشبكة التي تعني الطرق السيارة لتبادل المعلومات كمشروع قامت به مؤسسة ARPA للأبحاث المتقدمة لصالح الحكومة الأمريكية سنة 1969 . كان هدفها آنذاك بناء شبكة للوقاية وحفظ المعلومات في حالة نشوء حرب نووية . نجحت الشبكة بمد جسورها بين مجموعة من الحواسيب ، ثم امتدت لتشمل أكثر من عشر جامعات أمريكية . أنشئ البريد الإلكتروني ، تطور الأمر بسرعة فاقت كل تصور . انتقل الأمر إلى الميدان التجاري ، آلاف الشبكات مع نهاية الثمانينات، طرق سيارة للمعلومات لا حدود لها ، يصعب تقنينها ومراقبتها . إنها تأسيس لعالم آخر وهمي بديل للعالم الوهمي الأول الذي يعيشه الإنسان قبل اختراع الإنترنت.
بواسطة الإنترنت نكتب ونقرأ ونتبادل المعلومات، أي نتواصل بِشكل أسرع وبطريقة مختلفة عن التواصل المباشر. تراسل وكتابة عبر هذه الوسيلة الشيطانية التي فاقت توقعات أينشتاين العلمية ببريد إلكتروني سريع. تخاطب كتابي أو شفاهي ( shat ( .
ما الفرق بين كتابة نص - وليكن شعريا - بواسطة اليد، بالقلم أو الريشة مثلا، وبين كتابته بواسطة آلة مرئية لتكن الحاسوب عبر لوحة مفاتيح (الكلافيي clavier ) أو بواسطة الماوس (الفأرة ) أو بمجرد اللمس, أو ربما بالإملاء على الآلة . آلة تقوم بكل شيء مكانك . الكتابة اليدوية مرت بمراحل . ابتدأت بكتابة تستند إلى المحو، اكتب وامح ما كتبت وأعد الكتابة من جديد، كما هو الشأن بالنسبة للحفظ ، اقرأ واحفظ وانس ما قرأت وما حفظت لتكون أنت لا الآخر، وما سيتبقى هو هذا الترابط و التفاعل بين النصوص المسمى حاليا بالتناص. كتابة الحبر السائل متأنية مفكر فيها، فبين كتابة سطر شعري والعودة للدواة لتبليل الريشة الجافة. مسافة زمنية قد تذهب الفكرة وقد تغيرها في الكتابة العادية، وقد تحتفظ بها كما هي في الشعر، لأن الخروج مسألة لا سلطة للشاعر فيها إذا كان من أهل الحال. الكتابة بالقلم الجاف قربت المسافة قليلا بين القلم والعودة للمداد السائل الذي كان صمغا قبل ذلك في الثقافة العربية الإسلامية، والذي لازالت بعض الجهات تحافظ عليه في البوادي المغربية وتعتبره مقدسا لارتباطه بالقرآن الكريم كتابة ومحوا، بالرسم والوقف حفاظا على قراءة ورش عن نافع بطريق الأزرق . كتابة اللوح تتم للأسفل قليلا ولكنها لا يمكن أن تتم للأعلى أبدا، يضع كاتب اللوح اللوحة على ركبتيه، يشد القلم بطريقة خاصة حين ينتهي من الكتابة، وغالبا ما يقلب وضعية قلمه الذي هو قطعة قصب منجورة بعناية فائقة . لوح مصنوع بطريقة خاصة من اختيار نوع الخشب، إلى كيفية تهيئته . قبل الكتابة يبتدئ التهجي : تهجي الحروف والكلمات شفاهيا ليسهل على الطالب /الطفل أو التلميذ الدخول إلى سراديب هذا الحرف المقدس والمحافظة على رسمه الذي ستأتم الأمة كلها إذا لم تحافظ عليه، لكونه فرض كفاية ينقل الحفظ فيه بالتواتر ، يأتم الجميع عند ذهابه وضياعه ، ويسلم الكل إذا حافظ عليه البعض . حفظ الآيات يبتدئ عادة من الأقصر إلى القصير فالطويل . مرحلة من الذاكرة إلى الذاكرة ولا يهم أن تفهم ما تحفظه ، لأن الحفظ الجيد سيؤدي بك إلى تسلم اللوح ، هذه الآلة المصاحبة الملازمة روحيا لطالب العلم لرسم الحروف ثم الكلمات فالجمل التي هي عبارة عن آيات مرسومة بطريقة خاصة وبعدها تبتدئ رحلة المحو والصلصال ، هذه المادة السحرية المحيرة للعين ، لليد. لابد من الصلصال - وهو أصل الإنسان - من أجل استمرار الكتابة واستمرار المحافظة على الأمة من الإثم الذي سيسببه الضياع . ما الذي سيحدث لو تم المحو بالصلصال والماء وعجزت الذاكرة عن التذكر، عن استرجاع الحرف برسمه ووقفه ووسمه ؟ إثم ما بعده إثم. يتم الاستنجاد بالفقيه الذي سيخط في البداية "بالكراكة " أو " بالمحنش " حروفا بغير مداد تسهلا على الطالب المبتدئ طريقة خط الحرف التي ستتم بعد ذلك بالقلم القصبي وبصمغ سهل الامحاء، سهل الدخول للذاكرة العذراء. ذاكرة الفقيه/الباث لا تتعب وكذا ذاكرة الطالب/التلميذ /المتلقي منقذ الجماعة من الإثم. الاستظهار الجيد سيؤدي إلى رضى الفقيه وبالتالي إلى إجازة المحو. لكي تمحو عليك أن تحفظ ما ستمحوه . يقلب الطالب الذي سيصير حاملا للعلم والكتاب الريشة/القلم، ويبدأ في ترداد ما كتبه بشكل متكرر للحفظ ،. كتابة هدفها الحفظ لا الكتابة بما أن كل ما سيكتب سيمحى ليبقى بعد ذلك في الذاكرة ثم لينتقل للصدر مكانه الأمين الذي لا يضيق عن حمله مهما كان، ومن ثم سيسمى حامله حامل الكتاب .
في كتابة الورق يختلف الأمر كليا، كل كتابة على الرق ستتم للأسفل حتما سواء كان القلم جافا أو ريشة تحتاج إلى دواة . كتابة للأسفل إذا تمت بالصمغ فإنها ستؤدي إلى " الشفاء " من العلل النفسية المرتبطة بالنفس وآهاتها ، ب"المسكون " و " الساكن " المقيم في جسد كل منا بطريقة ما . كتابة اليد هي كتابة جسدية ترتبط بالدم وفورانه واليد التي تكتب لن تخرج في العادة إلا الشفاء إذا كان الكاتب يحسن فن الكتابة على اللوح الأصلي . ارتباط بين الحرف والكتابة اليدوية الصمغية، بين الكتابة الجسدية الدموية. في كل الثقافات تكتسب الكتابة هذه القيمة المقدسة. في الإسلام منذ المتصوفة الأوائل بكل أصنافهم إلى الثقافات الشعبية حاليا رغم تحولها إلى شعوذة في الأغلب. حروف لكل منها مقامه ومخرجه وطريقة نطقه الخاصة بالنسبة لعلوم القراءات. ولها طريقتها أيضا بالنسبة للغة الناس في الشعر والنثر . عند العبرانيين كما عند النصارى وعند الصينيين أخذت الكتابة اليدوية في أغلب المراحل هذا البعد التقديسي. الفن الكاليغرافي عند الصينيين في ارتباطه بالحرف وبالكتابة اليدوية فاق التشكيل والرسم، وعن فن الكتابة يقول: Wang-Hsichh : كل سطر أفقي هو طاقة من السحاب لتكوين حربي .. . كل نقطة هي صخرة تنزل من جبل مرتفع . " . الكتابة الهيروغليفية اعتبرت كتابة خاصة مرتبطة بالأسرار والعجائب وهكذا .
هل تعوض كتابة الحاسوب جلوسك في مكان موحٍ، لتكتب نصا مستعصٍ، لتخطيط قصيدة تخنقك. الكتابة باليد هي كتابة جسدية أساسها الدم المحرك للجسد بالجسد. والكتابة بالحاسوب هي كتابة يدوية أيضا في أغلب الأحيان إلا أنها لا دم فيها، ورغم ذلك فهي ضرورية، إلا أنها لا تعوض القصيدة الأولى التي قد تأتي جارفة عاصفة حارقة ، قد تكتب في لحظات لاشعورية غالبا ما يساعد القلم الورق ويساعد الدم الذهن المعصر لتقطير الكلام وإعادة تقطيره . قد تكون المسألة مجرد تعود . فاليد حاضرة في الجهازين : القلم والحاسوب والمهم هو المتلقي . فكيف يتلقى الآخر في الحالتين قصيدة شعرية أو نصا إبداعيا .
1-2 قراءة وقراءة :
لأية جهة يتوجه الإنترنت ؟ الذهن العقل ؟ الوجدان ؟ الفكر ؟.... أم ماذا ؟ حين تقف أو تجلس قبالة آلة كومبيوتر : تفتحها. تنظر بعينيك أو بحواسك الأخرى ( بما أن غير المبصرين أصبح بإمكانهم الآن التعامل مع هته الآلة بطريقة خاصة ) ما هي الجهة الأولى الأكثر تأثيرا بهذه الآلة السحرية . الإنترنت وسيلة وآلة تخاطب الأفكار والأذهان عبر العين وبواسطة آلة أساسية هي" الماوس " . آلة صغيرة وضغط أصغر يغير المواقع ويؤثر على مسار العين ويدفع الفكر للانطلاق، للتحليق، للسفر عبر العالم بلا أجنحة .
تحدث القراءة بالعين وتتم صامتة في أغلب الأحيان يشكل فردي، فمن الصعوبة أن تتم القراءة الجماعية الجهارية بواسطة الحاسوب، القراءة الجماعية تتم من الكتاب ومن الذهن الذي يخزن الكتاب . للقراءة الجماعية شروط خاصة ترتبط بنوع المقروء الذي سيكون مقدسا عامة، وترتبط بمكان القراءة وزمانها . تتم في الأفراح والأقراح، وإذا دخلتها آلات موسيقية تحولت إلى غناء قد يكون منهيا عنه . جماعة تقرأ وترتل من أجل حاجة روحية ماسة . في كل الثقافات يتم ذلك بلا استثناء تقريبا . طقوس حاجية لضرورات وليست مجرد تحسينيات .ولكن القراءة ستكون فردية وصامتة أمام جهاز كومبيوتر حتى وإن كان النص مقدسا، فما الفرق بين القراءتين؟
قراءة الكتاب تتم بالحواس كلها: العين، الذاكرة، البصر والبصيرة ولكنها تتم أيضا باليد . اليد التي تمسك الكتاب يجب أن تكون طاهرة، لا مجال للدنس في مسكه . كل الشعوب تقدس كتابها . تبجله وتقدسه وتختار له طريقة مختلفة متميزة عن غيرها من الأمم . قراءة باليد دفعت كاتبا مثل "أمبرتو إيكو" لتأليف كتاب تحول لشريط سينمائي رائع هو اسم الوردة. تقليب صفحات الكتاب- الذي ما هو في الأصل سوى كتاب في الشعر، عن الشعر، بالفلسفة لأرسطو - باليد يتم حارا لالتفاء الإصبع بالورق والريق سيكون مسهل العملية، ولذلك سيختار الرهبان في الرواية وضع السم على المكان الذي سيقلب فيه الكتاب، أي السبابة الريق يأتي من الجسد، من الدم من الروح، من الكائن القارئ الإنسان ويعود للورق لتقليب الكتاب ومن هنا يجب وضع حد لهذا الفضولي الذي يود اقتحام الكتاب الممنوع . لكل قراءة حدود، والإصبع الفضولي يجب بتره حتى لا ينكشف أمر الرهبان الذين كانوا مسيطرين على القراءة والكتابة.القراءة بالحاجز القفاز مثلا لا ضرر فيها ولذلك يضع الرهبان حجابا بين الورق والقارئ الفضولي هو السم، ويضعون قفازات سوداء للاستمرار في السيطرة على المشهد بواسطة الكتاب الممنوع . هذا البعد القدسي الذي يأخذه الكتاب في كل الثقافات هو الذي سيجعل الحرف مشفيا من العلل المستعصية حين يطلب المشفي من مريضته وهي أنثى في غالب الأحيان أن تذيب الحروف وتشربها أو تضعها على مكان الألم من الجسد ليتم الشفاء .
قراءة الورق وقراءة الآلة هل يختلفان ؟. قراءتك لنص شعري على ديوان شعري ورقي هل تختلف عن قراءتك لها على جهاز كومبيوتر؟ لنعد قليلا للباث لنتبين الفرق بينهما . الكتابة اليدوية أساسها الورق . اختلاط سواد ببياض يؤثر على المساحة المستقبلة والتي قد تتحول بواسطة المطبعة إلى شكل آخر يضيف بعدا جماليا للمكتوب إذا أحسنت هندسته. لا نريد العودة لبيان الكتابة فهذا أمر قيل عنه الكثير في المغرب في نهاية السبعينات وفي الثمانينات. إننا نرمي إلى بيان شعري يدعو للتأمل في هذا الفراغ وعلاقته بكل الطقوس التي تسبقه في الإنشاء الأول. يد، ورق، قلم، آلة، ماوس، وغيرها .
قد يكون الورق أهم وسيلة ساهمت في انتقال الثقافات من الذاكرة والشفوي إلى المكتوب والكتابي. الثقافة الشفوية لا تعمر إلا إذا قيدت بالكتاب. تقييد قد يحد من عبث الرواة وتدليس المدلسين. ظهر ورق البردي منذ حوالي سنة 3300 قبل الميلاد عند المصريين، ثم استعمله الصينيون سنة 100 قبل الميلاد بالشكل الذي نعرفه الآن . استعمل للرسائل وحفظ الرسائل والرسالات . ولكن بتحكم مطلق للإنسان. المرسِل والرسول . طريقة النشر - نشر أي كلام وتحويله من الشفاهية إلى الكتابة - سيرتبط منذ ذلك الوقت بالورق، هذه المادة الثمينة التي توازي الماء في القيمة، ضروري لحفظ الناس وجذورهم من الضياع والنسيان . قيمة تربط الخلف بالسلف وتحدث الصراع الصحي والمرضي حسب نوايا الناس . مع ظهور المطبعة سيتعزز دور الورق وقيمته . تصوروا معي مجتمعا بلا ورق، ألا يشبه غابة بلا ماء ؟ ولكن ما الذي يحدث الآن مع هذا الورق الوسيلة الأساسية للحفظ من الضياع وبالتالي من الإثم، بما أن الصدر لم يعد بعد كافيا للوقاية من الإثم، مع سيطرة الحاسوب والإنترنت وكل أشكال التواصل الكتابي الحديثة الأخرى ؟ عصر الأنفوميديا وثورتها في مجال الاتصال قد تقلب كل هذه المفاهيم إذا لم يتسلح العرب بقدرة وعلم جديدين لدخول العصر حتى لا يبقوا خارجه كما هو حالهم الآن . فبعد مدة لن تكون طويلة في اعتقادنا سيتغير كل شيء ، وستنقلب نظرتنا للأشياء رأسا على عقب . فرغم الفوائد العظيمة للورق وكل ما أداه للجنس البشري ، ورغم كل آلاف السنين التي خدمنا فيها على خير وجه ، فإن الورق يتقادم بسرعة كبيرة . وقد نشهد في القريب العاجل آخر الكتب الورقية أما أطفالنا فمن المؤكد أنهم سيشهدون اختفاء الورق . فاليوم نجد أن كل المعرفة التي ضمتها مكتبة الإسكندرية العظيمة قد تضمها عادة أسطوانات مدمجة CD-ROMs وفي عصر الإنفوميديا سيكون في متناول الشخص العادي ثروة لا يمكن تخيلها من المعلومات " . الإنفوميديا عوضت الورق والكتابة التقليدية وتسير بسرعة تسبه سرعة حاسوب فائق السرعة وهو يبدل كلمة بأخرى في عددها يفوق مئات الآلاف في رمشة عين . فمن الضروري أن تتغير القراءة لأن شكل النص المقروء قد تغير . نص جديد متحرك سريع ،يستمد قوته من تكنولوجيا حديثة فائقة السرعة ، في مواجهة نص مكتوب أو مطبوع على الورق بين دفتي كتاب .
1-3 نص ونص:
ستختلف كتابة اليد والطباعة التقليدية إذن عن كتابة كومبيوتر سريع، وستختلف طريقة قراءة كل منهما تبعا لذلك . فهل يختلف النصان : النص المكتوب بالحبر واليد عن النص المطبوع مباشرة على آلة حديثة كالحاسوب مثلا ؟
بين المعمار النصي في بناء نص أدبي متخيل- وليكن شعرا مثلا - وبين بناء نص إلكتروني تقاطعات واختلافات ترجع لطبيعة النصين. فهما يختلفان في مسألة "التلفيظ" و "الخطية"، و يشتركان في التضمين، فالاختلاف المسجل في النقطتين الأوليين يتصل بطبيعية كل نص من حيث طريقة بنائه, وأداة تجليه (الكتابي/الإلكتروني) لكنهما تتفقان في التضمين الذي يصل كلا منهما بالتفاعل في حد ذاته (العلاقات النصيتة) . معنى ذلك أن التلفيظ والخطية لهما علاقة بالخصائص النصية التي يتحقق من خلالها النص وهو يتفاعل مع غيره, أما التضمين فيبرز لنا من خلاله التفاعل بغض النظر عن أشكال تجلي النص.
2 - الإنترنت والتفاعل النصي : Hypertexte
هل ستقضي ثورة المعلوميات على النص المكتوب فعلا ؟ هل ستعوض ذاكرة الحاسوب الفردية الجامدة في العمق - رغم حركيتها الظاهرة - الذاكرة الجماعية ؟ الحفظ الجماعي يؤمن من الإثم فهل يعوض الحفظ الآلي الأمة من الضياع ؟ تأملات شعرية نفتحها على العصر ، على الكتابة والكتاب . على النشر عبر الورق والتواصل الجسدي المباشر معه، وعلى آلة ذكية تسمى الحاسوب ، وعلى وسيلة أذكى تسمى الإنترنت ؟
أن تنشر كتابا عاديا معناه أن تحضن مولودك منذ النشأة الأولى فهل يختلف إنشاء كتاب إبداعي (ديوان شعري مثلا ) عن إنشاء موقع لنفس الديوان على موقع شبكة الإنترنت ؟ الاختلافات في الإنشاء ستؤدي إلى اختلافات في التقبل بما أن الوسائل مختلفة . أيها الشعر يا صديقي الحي عليك أن تقاوم . عليك أن تدخل عصرك بقوة توازي قوة ذاكرتك أثناء عملية المحو . رواة الشعر صانوك قديما من الضياع ، وساهم العروض ببحوره المعروفة في هذه الصيانة . ذاكرة تسهل . وتسهيل المحو هو تسهيل للحياة ، حياة الشعر . ادخل العصر الآن ، فالمجال مفتوح أمامك ، تواصل وصل بين أبنائك ، وافتح الأبواب على مصراعيها ، تواصلك هو استمرار للحلم الذي لا يمكنك أن تعيش بدونه . لا كتابة بلا أحلام ولا أحلام بلا متخيل ، ولا متخيل بلا شعر، الرئة الضرورية للحياة.
3 - الكتاب المادي والنشر الإلكتروني :
لكي تنشئ موقعا على الإنترنت وأنت شاعر تشعر بحس الكلام وقوة اللغة على اختراق مسام الأرواح بخلخلة الحروف من أمكنتها من نقطها من رحلة اللوح والصلصال والماء إلى الذاكرة والصدر ما عليك إلا أن تتسلح ببعض الوسائل وبعض البرامج الخاصة بالنشر الإلكتروني ، نظم الصفحات واربطها بالروابط التفاعلية المتناصة ، أدخل الصور حرك وتحرك والبقية سيكملها المتلقي بتواصله معك .
أيهما الجامد الكتاب الورقي أم الكتاب الإلكتروني ؟ الحركة والجمود ثبات واستمرار. لا حركة إلا في الثابت . عليك أن تستقر أولا إذا أردت أن تكون سريع الحركة .
المتخيل الحسي والمتخيل الذهني عمليتان تتمان في الحس والذهن وسيلتا التقبل الأساسية في القراءة فما موقعهما داخل النشر ؟ قراءة العين بالمتخيل وقراءة العين بالحاسة نقطة تغوص في علاقة الخيط بالإبرة . خيط يمتد على جسد الحاسوب ، على جسد العين ، يتابع الكلمة بألوان، أو بخيوط هي الخط الرابط بين الكلام المبعثر . سنتأمل بطريقة مختلفة سنتخيل بطريقة مختلفة وسنؤول بطريقة مختلفة لأنها تغوص في عمق الشعري بالشعر . الإبرة والرائي . آلة حادة وخيط قد يقود للسقوط في الهاوية . خيط يربط بين نص ونص ، بين كلمة وكلمة بين موقع وموقع .
الكتابة عزلة تبحث عن ذات أخرى تؤويها ، تحميها من العصف المبين ، والملجأ الورق وكل وسائل بث المكتوب حروفا . توحد مع الورق، مع الذهن، مع الآلة لولوج عالم افتراضي تخييلي وتخييلي يحيل الجامد إلى متحرك بصور متعاقبة الألوان. كدا افتراضات الحاسوب والإنترنت، سرعة ضوئية يلتصق خيطها بالعين وكأنه إبرة الخياط الذكية ممتزجة بفئران حساسة، وبلمس يصدم الداخل الغريب ويحوله إلى وهم تواصلي. تفاعل وتفاعل، نص ونص، قراءة وقراءة، والشعر المسكين المعتمد على الوجدان والأذن واللغة المستندة إلى النبرة والإيقاع يفق مشدودا لانزوائه لسفره الأول. والنشر انتشار يتم بكل الوسائل من جلد الحيوان إلى رقائق الإلكترون والعالم بين يديك افتراضا وحقيقة وتفكيرا بصوت مرتفع والخلاص من عزلة الكتابة هو عناق اتصال سريع ونشر أسرع
السنوات القليلة التي مرت على ثورة الأنفوميديا منذ ظهور الحواسب الشخصية حطمت الحواجز والحدود، ودفعتنا للتفكير بعمق في هاته الأداة الرمزية : الكتاب. فهل نحن مقبلون على كتب بلا ورق
كما يرى : " فرانك كيلش " في كتابه ثورة النفوميديا . الكتاب العربي كغيره من الكتب وسيلة أساسيه رمزيا للتثبيت والمحو، للمستقرين والخوارج، للتشيع والاعتزال، للشيء ونقيضه، للمنع ولنشر الممنوع، للسيف والفكر وتأبط السيف كتأبط الكتاب عند العرب . تأبط مادي رمزي ولكنه أساسي. كل البيانات السياسية الفكرية الثقافية تتم على ورق يصير كتابا ماديا يتأبطه الموقعون، ويلتزمون به، ويحافظون على نسخه ورقية مجلدة منه ، فما المعمول في عالم الكتاب الخالي من الأوراق؟ كيف ستتم المحافظة عليه ؟ وما هي طريقة تأبطه ؟
الكتاب القاتل كان ورقيا، والكتاب المحيي كان كذلك فأي دور سيلعبه الكتاب الإلكتروني؟ يخيط الكاتب كتابه بإبرة حادة، يكتب بها، يجمع بها شتات القول، ويغرسها في عين قارئه بقوة تتفاوت درجتها حسب أهمية القول وحسب وضعية المتلقي ودرجة إبصاره . خيط الإبرة ملتصق بها، وحين يتحول هذا الخيط إلى الحاسوب أو الإنترنت يتم التحكم فيه عن بعد. يحمل الكاتب كتابه الورقي بيمينه أو شماله تبعا لنوع المحمول ودرجة خطورته. يتقدم به ، وقد يحرقه أو يحترق به، فبأية يد سيحمل كتابه غير الورقي ؟ هل يلزم تغيير مفاهيم مثل اليمين والشمال، المسموح والممنوع، الواضح والغامض، الظاهر والباطن مع ظهور ثقافة جديدة تواصلية هي ثقافة الإنترنت ؟
الكتاب المادي يخاطب الحواس كلها، يتأمل، يحصر الذهن في حروف الألفاظ الدالة كل في دائرة تلفظه على مدلول ما ، حجاب حرفي يخترق العين أولا كالإبرة التي تخترق الجلد في التشريح أو الثوب في الخياطة للوصول إلى نقطة غامضة لم يقلها الكاتب، لا يريد الكتاب أيا كان أن يقولها صراحة وإلا لصار القول كالمقول، ولتطابقت الحقائق، وألغيت أهمية الحرف، وسرية الخياطة ورمزية الإبرة.
الكتاب غير الورقي سيدعونا لإعادة التفكير : تحت أي إبط سأضع كتابا بلا ورق؟ كتاب رقيق يجمع ملايير الحروف لا أستطيع رؤيتها ولا تفحصها باليد دون وسيط ،أحتاج إلى آلة إلكترونية مثلا ، فهل تتوقف المطابع ؟ بوصول طرق المعلومات فائق السرعة إلى منازلنا، سيمكننا استعراض محتويات متاجر المعلومات الإلكترونية سيكون لدينا نسخ إلكترونية من كل صحفنا ومجلاتنا وكتبنا المفضلة، وستئن رفوفها الإلكترونية من كم هائل من المراجع في أي موضوع يمكن تخيله كتب إلكترونية قد يتم تبادلها عبر البريد الإلكتروني E-mail الذي قد يدفع لتغيير العلاقة التواصلية بين الكتاب والإبط والحاسوب ويركز عوضها العلاقة بين العين والإبرة والخياط .
السيف والكتاب، سلطتان متنافستان منذ بدء الكتابة، ونشوء فكرة الخياطة، إلى حرب النجوم. حرب النجوم التي كانت في البداية حربا للمنجمين، دفعت مداحا مثل أبي تمام أن يغلب تأبط السيف على تأبط السِّفر حين يقول : السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
اللعب بالسيف يقود حتما إلى الهلاك، واللعب بالكتاب قد يؤدي لنفس مصير الحلاج أو بشار بين برد وكل قتلى الكلام وشهدائه. حرب المنجمين هي ما تحول الآن إلى حرب للنجوم على مواقع الإنترنت. مواقع تصاب بالشلل بفروسات شديدة الفتك، وتسخير آلاف الجنود ماديا على الأرض قد يكون قليل الفائدة إذا خيضت حرب مدمرة على مواقع مالية وتجارية وعسكرية عبر مواقع الإنترنت، حرب الحضارات أيضا لها نفس المصير ومن تسلح بثقافة العصر هو من سيحافظ على كتابه ، فكيف يمكن تأبط كتاب ك"ألف ليلة وليلة إلكترونيا"، كتاب العرب بامتياز بطباعته المتعددة والمختلفة، بمتخيله المدهش، بسرده بلياليه وبخزانة شهرزاده؟ والحكايا تولد الحكايا، تصدم الذهن وقد تصدم العين أيضا إلكترونيا.
ديوان المتنبي كتاب كبير آخر للعرب عبر الإنترنت كيف يمكن تأبطه كما يمكن تأبط ألف ليلة وليلة بكل أجزائه ؟. التأبط المعنوي والإمساك بقرض صغير تحمله معك أينما اتجهت وقد لا يهم اليمين والشمال كثيرا بالنسبة للإلكترون الصغير الحجم .
إذا كانت الهندسة هي فن التحكم في النظم المعقدة فكيف يمكن هندسة كتاب على الكمبيوتر ونشره على الإنترنت ؟ بما أن شبكة الإنترنت هي شبكة بلا قمة وبلا هرمية أو تراتبية ؟ يبدو تبعا لما وصلت إليه التقنية الحديثة من تنظيم وما وصل له العقل البشري من تحكم في الآليات والنظم، أن الأمر جد يبسط في الإنشاء، في النشر، في الانتشار، في التداول، فهل سيحمل عصر المعلومات نهاية الكتاب الورقي ؟ هل ستوقف المطابع فعلا؟ هل سنلغي تأبط الكتاب ونعوضه بالحملقة في وجه الحاسوب والجولة في اللامكان واللازمان على شبكة الإنترنت ؟ لا يبدو ذلك جليا الآن على الأقل بما أن دور الكتاب الإلكتروني هو تعزيز الكتاب الورقي، وتسهيل تداوله، فقد تسحب كتابا إلكترونيا من شبكة الإنترنت وتقوم بتجليده وتداوله وقراءته وتفحصه بيدك للعودة للدم والتلاحم الروحي انطلاقا من الجسد، وبين الحرف والعين والذهن والذاكرة. لقد نشرت مجلات إلكترونية أعمال كتاب كبار منذ سنوات مثل مجلتي : salate.com و salon.com، ولكن ذلك لم يزد الكتاب الورقي إلا تعزيزا. وقامت كل الصحف الكبيرة عالميا ووطنيا بإنشاء مواقع لكل صفحاتها على شبكة الإنترنت ولم يمنع ذلك من تداولها باليد على الورق.
لقد كانت العلاقة بين الحكاية والقول من جهة، وبين النثر والورق من جهة أخرى علاقة متوترة لكون المنشور ليس هو المفكر فيه ولا يمكنه أن يكون كذلك خاصة في مجال الإبداع الشعري والسرد. قد تفكر، أو تأتيك الحالة المهيجة لقصيدة أو بداية مقطع روائي وأنت غير عارف بمكانها وزمان خروجها الحقيقي. قد تملي وفي البدء كان الإملاء شعرا من أوفيد إلى المعري إلى أوكتافيو باث. يتلقف الراوي كلامك، وينقله بطريقته الخاصة التي لا مناص لك من اتباعها وإلا شوه كلامك بحرف قد يحرقك ويغير من مجرى حياتك، أو قد يضع حدا لها. إملاء قد يتم من طرفك على فمك فورقك . إملاء قد يتم على جهاز حاسوب، على لوحة مفاتيحه وأنت تكتب دون أن تنظر إلى ما تكتبه إلا إذا كنت بارعا في الرقانة والإملاء معا وهذا ناذر .إملاء قد يتم بالفم على جهاز يسمعك ويسجل ما تقول، ينقله على شاشته حروفا تنظمها ثم تعيد ترتيبها لتخرجها على الورق. الكل في خدمة الكتاب، وعلى الكتاب العربي أن يدخل عصر الكتابة الإلكترونية من بابها الواسع قراءة ، وكتابة، ونشرا، وتوزيعا، إذا أراد أن يستمر في موقعه مؤثرا رمزيا يؤدي للنجاة بحامله إلى النجاة وتخلص متأبطه من الشر .@