(دفتر يوميّات)
(1-1-2006)
هل الشّمس في حاجةٍ الى النّهار؟
ليست كذلك في حاجةٍ إلينا.
مع ذلك، يؤرّقني هذا السّؤال: كيف ستكون "شمسنا" في هذه السنة الجديدة؟ وكيف سنمضيها، نحن الفقراءَ الى النّور؟
***
منذ فترةٍ، سألني الصّديق جيرار مورتيه، مدير الأوبرا في باريس، إن كنت أحبّ المشاركة في ندوةٍ حول "موزار في العالم العربي"، يشارك فيها أمين معلوف وهو. المناسبة: مرورُ مئتين وخمسين عاماً على ولادة موزار، والاحتفاء بها في أوروبّا والعالم.
كان جوابي: لا أرّى أَنّ في إمكاني، فنيّاً على الأقلّ، أن أقولّ شيئاً خاصّاً ومُغنياً في هذه الندوة، واقترحتُ أن يأخذَ مكاني فيها عازف البيانو، العميق البارع، عبدالرّحمن الباشا.
موزار في العالم العربي؟
أعرف أنّه في عمليه البديعين: "النّاي المسحور"، و "اختطاف في الحريم"، يَحومُ في موسيقاه، كمثل الموسيقيين في الشرق العربي - الإسلاميّ، حول الغابر، القديم، أكثر مما يحومُ حول الإشارة أو الدلالة. لهذا نراه فيهما مسكوناً بروح الارتجال في ألحانه. ويبدو، أحياناً، كأنّه يستدعي أو يقصّ حلماً. فهو في هذين العملين يُعنى، على نحوٍ خاصّ، بما هو عربيّ "شرقيّ": يُعنى بالأَثر، الأَثَر المُستَظهر، أو المحفوظ عن ظهر قَلب.
موزار في العالم العربي؟
الصّديق جيرار مورتييه يظنّ خيراً بهذا العالم.
"ليس لدى الشاعر وقت للموت": قال عيسى مخلوف في محادثةٍ هاتفيّة، استعدنا فيها بعضاً من قضايا السنّة الماضية، وتشعّب حديثنا، وصولاً الى الشّعر والموت.
***
(2-1-2006)
قرأتُ في مجلة "ناشيونال جيوغرافيك، الطبعة الفرنسية، كانون الثاني 2006)، ما يلي:
قُتل من العرب، صراعاً على السلطة في النّصف الأخير من القرن الماضي، ثلاثة ملايين ومئة وخمسون ألف شخص:
سورية: ثلاثون ألفاً(؟)
العراق: مئتان وأربعون ألفاً(؟)
الجزائر: ثلاثون ألفاً(؟)
السودان: مليونان وخمسة وثمانون ألفاً.
لا إحصاء في البلدان العربيّة الأخرى.
استطراداً: تقول المجلّة: قتل في البلدان الإسلامية غير العربية في القرن الماضي، حوالى عشرة ملايين شخص، صراعاً على السلطة، كذلك.
عاشت معظم البلدان العربيّة، منذ "استقلالها" في حروبٍ داخليةٍ متواصل. لكن، أين "العِلّة"؟
هل هي في الاستقلال؟ في الناس؟ في الأنظمة وطبيعة السلطة؟ في القوى الخارجيّة؟ في هذا كلّه، جميعاً؟
أم لعلّ علم ذلك عند الله، وحده؟
***
من أين تجيء تلك القوة في "استبقاء" واقعٍ لم يعد من الممكن الدفاع عنه، ولا احتماله؟
إضافة الى أنّ قول الحقيقة فيه ليس إلاّ نوعاً من الانتحار.
***
ما أكثر القوانين التي يربض في كلّ منها حيوانٌ مفترس.
***
أرسل إليّ أحد الأصدقاء نصًاً منقولاً عن الانترنيت، كان قد كتبه الأستاذ هاني السباعي، مدير مركز المقريزي (لندن)، تعليقاً على ما كتبته شخصيّاً عن كافور الإخشيدي ("الكتاب"، الجزء الثالث، لكنه قرأ جزءاً منه نشر في "الحياة")، وفيه يصف ما قلته بأنّه "هراءٌ خلاصته غمزٌ ولَمز"، ثم يقول: "كما كانت المادّة التاريخيّة مرتعاً خصباً للكتّاب اللادينيينّ أو العلمانيين، ولكلّ من هب ودب، كان لزاماً على كل مسلم غيور ان يقف لهؤلاء المتربصين بتاريخنا. فلزاماً علينا ان نذب عن تاريخنا، وإن لم يكن على الأنموذج الأول في عصر النبوة والخلافة الراشدة".
لقد ألفت هذا النوع من التزييف، لكن كلام الأستاذ السباعي لفتني بشكل خاص، لما يحمله من الدلالات التي تتجاوز ما قلته عن كافور، وتستدعي التأمل. فالأستاذ يتحدث عن نص منشور ومعروف، ومع ذلك يمتلك الجرأة على ان يصفه بعكس مضمونه تماماً. فقد تحدثت عن كافور بما يناقض صورته المتداولة التي عممها شعر المتنبي:
- لست معنياً، على المستوى الشخصي. بهذا التزييف. غير ان المعنيين بالحقيقة، وبحركة المعرفة في العالم العربي، لا بد من ان يتساءلوا عن مصداقية مثل هذا المركز، أو هذا الشخص الذي يتسمّى باسم كمثل المقريزي، ثم يكتب لكي يقلب الحقيقة رأساً على عقب.
- يقول صاحب هذا المركز بضرورة "الدفاع عن تاريخنا، وإن لم يكن على الأنموذج الأول... الخ". حسناً. ولكن، كيف؟ أبالتزييف والكذب؟ ثم إن مثل هذه الدعوة تتضمن نوعاً من التقديس لمجمل التاريخ يؤدي الى عدم التمييز، مثلاً، بين خليفة عادل وخيّر كعمر بن عبدالعزيز، وأي خليفة آخر سفاح ظالم. ويؤدي تبعاً لذلك، الى تغييب المعايير الفكرية والأخلاقية. والى ان تصبح الحقيقة في قبضة "الفتوى" وأصحابها، الذين يعطون لأنفسهم سلطة "مطلقة" على العقل والحقيقة والتاريخ.
- المشكلة، في عمقها، تتجاوز مركز المقريزي وصاحبه، وهي اليوم عالمية. انها قضية الانترنيت وطرقه الإعلامية. لا شك في ان الانترنيت وسيلة هائلة لتعميم المعرفة. لكن كيف، وأية معرفة؟ ولئن كان "العالِم" محصناً بالنقد والتمحيص والمقارنة، في ما يتعلق بالمعرفة التي يعممها الانترنيت، فما يكون مصير "الجاهل"، أو شبه المتعلم، المستسلم مسبقاً للألقاب والعناوين؟
- الخطأ الذي يرتكبه الأستاذ السباعي في حق المعرفة ينقله الى غيره بوصفه "علماً لا شك فيه!"، بوساطة الانترنيت، أي اعتماداً على العلم! وقد سارع بعضهم الى تأييده في ما يقوله، والى شكره لما قام به من "الذَّود" عن الإسلام وتاريخه، دون ان يقرأوا النص الأصلي "المنقود". وهكذا يخطئ الأستاذ السباعي ثلاث مرات:
- في حق العلم، وفي حق العقل، وفي حق الإسلام نفسه. إضافة الى الخطأ الأساس: الكذب على الناس.
أظن أن الكذب هو أبو التاريخ، وان التاريخ العربي هو بين أبنائه الأكثر قرباً اليه.
(3-1-2006)
***
تجلس نافذة غرفتي في باريس، وجهاً لوجه، مع الوقت.
غير ان الوقت يجلس وجهاً لوجه، مع شيء آخر، مع أشياء كثيرة أخرى.
هل اكتبها؟ ربما سأفعل ذات يوم.
***
يتكلم البرد في باريس بلغة اضطرب أمامها. ربما لهذا، يفوتني ان أدون ما يقوله.
***
كتب كثيرة للقراءة.
لكن، أفضل ان أنام على ان اقرأ كتاباً لا يوقظني.
***
(4-1-2006)
في كتابه: "مخاطرة" (حرفيّاً: "على حَبْل"، أثينا" 1980)، يقول يانيس ريتسوس: "تخاف الكلمات التي تبقى خارج القصيدة".
ما أكثر الكلمات الخائفة في اللغة العربية.
المعجم اللغوي العربي كله مليء بالخوف.
***
غيمة في فضاء باريس، تنهمر ثلجاً.
أحس كأنها تسقط عليّ، عمودياً.
***
قال لي شاعر إيراني:
أحياناً لكي يُحقَّر شخص عندنا، يقال عنه:
"هذا ليس شاعراً".
***
(5-1-2006)
يقول فيتجنشتاين، اللغوي والفيلسوف المشهور: "أعتقد اننا لكي نستمتع بقراءة شاعر، لا بد من أن نكون محبين للثقافة التي ينتمي إليها. فإذا كانت لا تهمنا، أو كنا مُعادين لها، فإننا لا نعود نهتم به". (ملاحظات متنوعة، ص 160، فلاماريون، باريس 2002).
أظن ان في هذه الكلمة ما يوضح الى حد كبير وضــع الشعر العربي في العالم، وبخاصة الغربي. فمعظم القرّاء في هـــذا العالم لا تهمه الثقافة العربية. وتساعد في تعميق عدم الاهتمام وترسيخه الصورة التي تُنقل عن العرب، عبر السياسة العربية، إجمالاً، وعبر الأحداث التي تعيشها المنطقة العربية، بخاصة.
هكذا يهتم هؤلاء القراء بكل ما يثبِّت هذه الصورة السلبية في عقولهم وفي نفوسهم - أعني بالكتب ذات الطابع أو المنحى "التشهيري" أو "الفضائحي"، سواء كتبها غربيون أو عرب.
وإذا رأينا شاعراً عربياً يفرض نفسه وشعره في الوسط الثقافي الغربي، فذلك عائد الى صفات كبيرة يمتلكها شعره: يقدم رؤية للإنسان والعالم خاصة، عالماً جمالياً - فنياً مختلفاً، ويضيف الى اللغة الشعرية أبعاداً جديدة.
***
من نافذة غرفتي الضيقة، في الدور الخامس والثلاثين، في برج غامبيتا. أنظر الى الثلج يتساقط، الخميس 5 كانون الثاني 2006.
الى جواري "الغراند آرش" و "الكنيت"، وأبراجٌ أخرى.
أنظر، فيما أصغي الى موسيقى موزار.
الثلج يلبس الموت،
والموسيقى تلبس الحياة.
وأنا بينهما - عيناي كمثل شرر يتطاير بين نُدف الثلج، وجسدي مسكون بالموسيقى.
أتذكر موت موزار: الحُفرة العامة التي أُلقي فيها جسده الكريم.
تبدو الأبراج كأنها ركام متماسك من نُدف ثلج هندسي.
تبدو "الكنيت" كمثل نفق من ثلج مُتحجّر.
تبدو "الغراند آرش" كمثل قطب صوفي، يجلس متربعاً على مقعد منسوج من نظائر الثلج وأشباهه: قطن الكينونة. وصوف المعنى، وهباء المصير.
تعلو الموسيقى. أوبرا. صوتٌ مفرد. أصوات كورالية. الغناء الأوبرالي سماء أخرى تخترق سماء الثلج، ودفءٌ عال، تكاد ان تلمس فيه قلب موزار.
لا أشعر ان الثلج منفى.
لا أشعر انه يجيء من بلاد نائية، أو بلاد مهجورة ومنسية. مع ذلك، أشعر كأنني أتزلج في عربة يقودها هو نفسه، في أحضان اللاشيء. ترافقنا تلك العائلة التي لا تفنى:
الأب الليل،
الأم الفجر،
الأخوة: الصمت، الليل، النهار.
الأختُ: الشمس.
لا يسقط الثلج عمودياً. يسقط متعرّجاً. في خيوط متقطعة تتمايل مقطورةً بيديْ هواء ناعم.
الهواء هنا نقيضٌ للريح:
ابن يحارب أباه. يا للعقوق الجميل!
لحظةٌ، يخيّل إليّ فيها، برحمة الثلج وعفوه،
أن السماء تنزل على درج الغيم لكي تعلن وحدتها مع الأرض، أن السماء تجلس على الأرض، تنام على الأرض،
أن السماء تتدثر ثوب الأرض.
أن السماء تراب آخر.
ويخيل إلي، برحمة هذه السماء وعفوها،
كأنني أنهض من وراء مكتبي،
أحمل جسدي خفيفاً كندفة ثلج،
وألقيه من نافذتي الى الهواء والضوء.
(يتذكر:
كانت باردةً، ولم تكن ثلجاً.
كان دافئاً، ولم يكن جسداً).
وفيما أنظر الى الثلج وأصغي الى موزار،
أشعر كأن شكي ليس إلا يقيناً.
لكن،
ها هو صدري يضيق:
إفتحْ لي،
من جديد، أيها اليقين،
أبواب الشك.
كلا، لا أطلب،
وإنما أسأل:
من يفتح لي، من جديد،
أبواب الشك؟
الحياة
12/01/06