في ليلة شتائية باردة من عام 1981 (وكنت حينها في الصف العاشر)، أعطاني أستاذ الرياضيات شريط كاسيت وقال لي: اسمعه لوحدك، وأوصاني: (لا تعطه لأحد)، حملت الشريط متوجسا وعند وصولي البيت أغلقت علي نفسي الباب وبدأت الاستماع إلي الشريط.
كان الشريط يتضمن وقائع الاجتماع الذي عقده رئيس وزراء سورية أواخر السبعينات من القرن الماضي (محمود الأيوبي) مع مجموعة من الصحافيين والكتاب والمثقفين لمناقشة وضع سورية بداية احتدام الصراع بين الأخوان والسلطة..
ما سمعته كان صدمة الوعي الأولي لي، (لقد خفت) فالبلد في ذهني أنا المراهق (بلد مزدهر مستقر ويقوده رجل حكيم) ، حينها ترسخ في ذهني اسم ممدوح عدوان الذي سمعت باسمه للمرة الأولي، كان صوته الريفي قويا واثقا جريئا (أنا أعمل في إعلام أخجل منه فهو يكذب حتى في نشرة الطقس وأخبار الكوليرا...)، شريط الكاسيت هذا وكلام ممدوح عدوان وميشيل كيلو و... شكل نقطة التحول في مسار حياتي، فمن مراهق (ساقوه مع القطيع إلي الشبيبة وحزب البعث) إلي شاب أقلقته الأسئلة وتعدد الخيارات...
فكان السجن والاعتقال هو المصير المنتظر بداية عام 1985 .
أعود لممدوح عدوان الذي كان لوضوح صوته ولآرائه الجريئة وكتاباته الطموحة ما حركنا نحن الريفيين (فعلّنا نصبح مثله)، فأينما حل ممدوح كان زوبعة ثقافية تفرض حضورها الطاغي فيصبح للمكان بلاغته.
جئنا إلي المدينة، وبعد سنوات فشلنا أن نكون كممدوح عدوان، ولكن أصابتنا (اللوثة) وفعلت فعلها.
تحزب عدوان لصوته الخاص فكان حرا، ولم تستطع الأيديولوجيات سجنه في جدرانها المتعددة والكثيرة، ولأن صوته من رأسه تركته السلطة يقول ما يريد، فكان أن أصبح مؤسسة ثقافية، وحزبا كبيرا أثر علي أجيال بكاملها.
لم تعرف الرتابة والركود إلي ممدوح عدوان طريقا، فلم يكن يركن لجنس أدبي واحد، فعندما يتعب من كتابة الشعر يترجم أو يكتب مقالة، وحين يمل من كتابة مسلسل يواصل كتابة مسرحية جديدة، وهذا التعدد المدهش لم يكن علي حساب النوع، فأغلب كتابات عدوان تتسم بالعمق وبالوضوح وجرأة الموقف والإحاطة بموضوعه، لذلك شكل بمفرده ظاهرة ثقافية متفردة تخلخل المشهد الثقافي السوري بفقدانها.
يقول في مقابلة مع صحيفة القدس العربي : (أنا بالدرجة الأولي شاعر، وأظن أن كل ما أكتبه لا يخلو من لمسة شعرية، لكن بقية الفنون أتعامل معها بشكل مستقل، أي أنني عندما اكتب مسرحا أحاول أن أنسي ممدوح عدوان الشاعر، واكتب بشروط المسرح، وعندما اكتب مقالا صحافيا أنسي أيضا أنني شاعر، ومسرحي، واكتب المقال الصحافي بشروط المقال الصحافي ولغته، وأتوجه إلي القارئ علي هذا الأساس.
اعتقد انه في كل كتاباتي المتنوعة توجد لمسة من الشعر، مع أنني في كل كتابة التزم بقواعد الفن الذي اكتبه).
تعرض عدوان للمضايقات والتشهير من الوسط الثقافي، ولكنه لم يهاتر أو يرد علي أحد، فقد اتهمه البعض بأنه حليف للسلطة والبعض الآخر اتهمه بالطائفية وبأنه مدعوم.. وآخرون اتهموهم بأنه يكتب مسلسلات تلفزيونية اعتمادا علي أفكار الآخرين أو مسلسلاتهم... وبعد عرض مسلسل الزير سالم اتهمه بعض النقاد بأنه شوه قصة الزير المحفوظة من (الكتب المدرسية ومن حكايا الجدات)!
حجزت السلطة جواز سفره غير مرة، ومنعت مسرحيته (ليل العبيد) من العرض عام 1978، ومنع من الكتابة في الصحف السورية لسنوات طويلة...وكان رده الدائم بمواصلة الكتابة وفي كل الأجناس الأدبية.
***
بمناسبة مرور عام علي رحيل المبدع ممدوح عدوان في (19/12/2004)، أقامت زوجته وولداه وأصدقاؤه ومحبوه احتفالية خاصة إحياء لذكراه، قاموا باستلهام كتاباته من خلال تقديم فقرات مسرحية في ضيعته (دير ماما)، وحسب السيدة الهام زوجة ممدوح (لا نريد إحياء تقليديا لذكري وفاة ممدوح فنحن نسعى لان نقدم شيئا شبيها بكان كان العوام(
بعد ذلك بأيام أقام أصدقاء وطلاب وذوو الكاتب الراحل ممدوح عدوان احتفالية خاصة في المسرح الدائري (مسرح فواز الساجر) من المعهد العالي للفنون المسرحية، أعد الاحتفالية محمود عبد الكريم وأشرف عليها الفنان غسان مسعود.
لم تكن الاحتفالية بشكل حزين أو مناقبي كما جرت العادة في إحياء الذكري للراحلين الكبار، بل كان احتفاء بالفرح وبالإبداع فممدوح كان يؤجج الفرح أينما حل، فهو النهم للحياة التي ترجل عن صهوتها دون أن يشبع:
(إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع
تركنا فوقها منسف أحلام.
نحن أكملنا مدار العمر فرسانا
وقد متنا شبابا)
ابتدأ الاحتفالية صديقه الملحن العراقي المعروف كوكب حمزة بأغنية (يا طيور الطايرة)، الأغنية التي كان يعشقها ممدوح، ثم ألقي طالبان من طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية عدة قصائد لممدوح منها: مصياف والهوى القتال ..
ثم قرأ الطالبان بعضا مما كتبه الكتاب والمبدعون في ممدوح (محمد الماغوط ـ شوقي بزيغ ـ طلال سلمان ـ عصام العبد الله ـ يعرب العيسى ـ محمود عبد الكريم…)
وتحدث نجله زياد عن علاقته بممدوح عدوان الأب فقال أن ممدوح كان أهم شيء لديه أن أعرف كيف أحس بالأشياء قبل كيفية التعبير عنها .
بعد ذلك اغتنم الشاعر لقمان ديركي غياب ممدوح، وقرأ من جديده الشعري، منها قصائد مهداة لعبد المنعم عمايري وباسل خياط، لكن قبل شهرتهما علي حد قول لقمان، كذلك عبد المنعم عمايري كان له نصيب في الاحتفالية وتحدث عن مشروع تخرجه، ربما هي المسرحية الوحيدة التي كتبها ممدوح عدوان ولم يشاهد عرضها، كونه كان في المشفى أثناء تعرضه لازمة قلبية، ولعب عمايري في العرض دور المشعوذ، وذكرنا في الاحتفالية بالمنولوج الذي كان يقوله في العرض ..
أعدت احتفالية ممدوح علي عجل لذلك حدثت بعض الهنات، إن كان في الإلقاء أو الإضاءة، ولكنها علي بساطتها كانت أمسية معبرة عن روح ممدوح عدوان المرحة والمحلقة دون قيود في سماء الحرية:
أغني للهوي القتال أغنية
علي طلل يصير ركام
أغني كي أنقب في بقايا الصمت عن أشلاء مجزرة.
يغطيها اخضرار كلام
وها أني عثرت الآن
علي شيء سأفعله بلا استئذان
أموت
لكي أفاجئ راحة الموتى
واحرم قاتلي من متعة التصويب
نحو دريئة القلب
الذي لم يعرف الإذعان
سأحرم ظالمي من جعل عمري
مرتعا لسهام أحقاد
وأرضا أجبرت أن تكتم البركان
أموت
وقد نزفت مخاوفي
لم يبق مني غير جلد فارغ
قد صار كيسا فيه بعض عظام
فصائغ بأسي المقرور فرغني من الأحلام).
القدس العربي
2006/01/09