مات ساحر آرانجا *!! وغابت طيوره البيض عن منائرها ، أدركت شوارعها الوحشة وانكسرت حافظتها القديمة عن تدوين أسفار وحكايات الرحالين والمغامرين والباحثين عن المعنى ...
مات جليل القيسي الساحر والحكواتي الغائر في غواية الأمكنة ،،والعالق على حيطان آرانجا كأنه إحدى أيقوناتها ،،،،هو لم يبارحها منذ ان جاء أبوه (المغامر) إلى اغواءات هذه المدينة المشتعلة والغامضة ،،اختلط بذاكرتها وبلبلة لغاتها وأنوثة نسائها ..
تشكلت طفولة جليل القيسي وسط هذه البانوراما المدينية المدهشة ،،كبر عند سفوحها دون (أوهام ضالة) كل ما فيها كان يؤجج روحه بالأسئلة ! ويفتح ذاكرته الغضة على عالم محدود في (عرفة)** لكنه كان يتسع لحيوات ضاجة ولغات تتسلل من شقوق الأمكنة والهويات ،تتشابك دون خدوش او عطالة في المعنى او الإفصاح ، انها في حوار صاخب أبدا ..
لم تفارق القيسي لعبة الكشف عن أسرار الأمكنة واللغة والحيوات الغائرة للمغامرين في هذه المدينة ،كان مهووسا بتأمل هذا الضجيج والتشابك بأصواته ولغاته ،ربما أدرك انه في زمن معرفي لايتكرر ، تسلل بحرفنة الطفولة وشغبها إلى ماتحت جلد هذا الزمن ، مارس سحرية الحاوي والمهرج والحالم بحثا عن سرانية المدينة (ارانجا)التي لم تطرد مغامريها ...
لقد أصبحت آرانجا مدينته الكونية التي أخذته بعيدا إلى كونية المعرفة والسحر ،لم يشأ ان يتركها دون ان يصيبه الحنين !! اذ عاد اليها عجولا شغوفا حينما خذلت (هوليود) أحلامه في ان يصبح نجما سينمائيا على طريقة الساحر الآخر (كلارك كيبل)
جليل القيسي نسيج من (الإبداعات) المتعددة ، يكتب بطريقة استثنائية وصاخبة ، لكنه يفكر بصمت وفرادة غريبة رافقته إلى سنواته المتأخرة !! اكتشف مبكرا مع مجموعة من أصدقائه (الارانجيين) صلاحية أخرى للكتابة تحوز على شروط السحرية والعبث والتمرد و(التبلبل) في اللغات الأخرى التي تضج بها المدينة دون حساسيات او عقد عصابية أو لغوية ...
لذا كانت (جماعة كركوك) صناعة استثنائية في هذه الكتابة وفي تشكيل ملامح (العائلة الثقافية) التي تملك جينالوجيا غرائبية !! تمارس حوار أبنائها والفتهم وحميميتهم بإغواء غريب ، لكنها تمنحهم صلاحية التمرد والخروج بقسوة على مألوفات المقايسة والادلجة التي كانت تضج بها حياتنا الثقافية العراقية في الستينيات ....
واعتقد ان هذه المرجعيات المضادة هي التي جعلت النص القصصي الذي يكتبه جليل القيسي نافرا وغير مألوف ،ويملك جنوحا للخروج عن يوميات الكتابة العراقية الغامرة بواقع كابوسي ونكوصي ، اذ اجترح له خصائص وتقنيات جمالية وأسلوبية وربما رؤى غائرة لايمكن تحديدها في إطار ما تعارف عليه النقاد في قراءة مرحلة الستينيات المحتشدة بالتجريب والمغامرة ، لان القيسي ورغم تمثله لبعض شروط هذه (الوصفية النقدية) إلا انه تميز بكتابة النص القصصي المفتوح الذي يقارب في سرديته المركبة الكثير من خصائص (خطاب الشعرية) بوصفها روح الشعر/ الكتابة الذي يؤجج نصه بقوة الروح والفكرة واللغة ،، وربما كانت هذه الفكرة هي ذاتها التي قال عنها الناقد د. شجاع العاني بان القاص جليل القيسي يكتب (القصة الثقافية) اذ انه (لم يعد يتناول في قصصه تجارب واقعية ولا شخصيات إنسانية من الواقع باستثناء شخصية غاليا ، وإنما صار يلجأ إلى استثمار ثقافته الأدبية والفنية والتاريخية مادة أساسية في قصة تقوم على نصوص الآخرين وقد وظف القيسي في قصته الكثير من مطالعاته وزيّن متنه القصصي بأقوال من الإغريق والفيلسوف الألماني شوبنهاور والفيلسوف الصيني كونفو شيوس وعرّج ثانية إلى الفلاسفة الألمان ،فقد أورد مقولة لنيتشه/ الحياة امرأة/ ثم تتدفق كلمات للشاعر الاسباني رافائيل البرتي ، والأثير دوستوفسكي يذكر اسمه فهو ضيف حميم على كتابات القيسي و لاينسى الشاعر الانكليزي شيللي ،/ان السيطرة مثل الوباء الجارف تلوث كل ما يلمسه/)1
ان محمولات البنية القصصية التي يعمد القيسي إلى توظيفها تنحو باتجاه تمثل كتابة هذه البنية على أساس انها فكرة جوهرية عند الإنسان /البطل ،اذ ان أبطاله واعون جدا لأزماتهم العميقة إزاء الوجود والذات ،قلقهم قلق فلسفي ،لهم أسئلتهم ولهم تغريباتهم، وهذا ما تجلى في اغلب كتاباته بدءا من مجموعتيه (صهيل المارة حول العالم)و(زليخا البعد يقترب) وصولا إلى مجوعته الأخيرة (مملكة الانعكاسات الضوئية)
ان خصوصية (البنية القصصية) رغم جوهريتها ،فهي عند القيسي تؤشر لانزياح فني وبنائي يستثمر فيه تقنية التجريب (الروائي) الخاصة بالوظيفة الصوتية ،وتقنية ماوراء السرد ، اذ يجد في التقنية الأولى مجالا لتركيب مجموعة من الأصوات في اتجاه واحد يتمحور حول جوهر (بطله) ورغم ان هذه التقنية تبدو ثقيلة في القصة الواقعية، لكن القيسي يضفي عليها نوعا من الانثيالات الوصفية والسحرية بما يجعل النص القصصي قابلا للتمركز على فكرة تتجوهر فيها مجموعة أفكار ثانوية لها تعقيدات ذهنية ووجودية ونفسية وكأنها تكشف لنا عن الطابع والمزاج النفسي الذي يعيشه القاص الذي لايملك في اغلب قصصه إلا ان يفلسف علاقاته بالآخرين والسلطة والمكان ...
كما انه يحاول في التقنية الثانية ان يجرب تقنية اكثر تعقيدا في مجال تعدد مستويات السرد داخل المتن القصصي وهو ماوراء السرد ،حيث تتشكل ملامح بناء الشخصيات على أساس تركيب مستويات متعددة ،يبرز فيها ضمير المتكلم مع ضمير المروي له،وهذان الصوتان يتداخلان ليس في صنع زمنين متضادين ،اذ ان الزمن هو زمن فلسفي اكثر منه وجودي، وإنما في صنع مستويات بنائية متداخلة ومتراكبة ، ففي قصة (انجيلكو)2 تبدو هذه التقنية واضحة يتداخل فيها مستوى القص السردي العادي مع مستوى السرد الثانوي الذي يقوله بطل الرواية (في القصة) وطبعا هذا المستوى (لايحقق للسرد القصصي معادله الموضوعي إلا حين يوجد القاص نظام عال للسرد تضمحل فيه المسافات بين الماضي والحاضر)3 واعتقد ان القاص جليل القيسي قد تمكن من تخليق مركزية (سردوية) مقابل وجود مجالات سردية ثانوية ،لا زمن مستقل لها ، لكن أحداثها تصب في المجال الموضوعي للبطل/ المركز...
ان خاصية القصة الثقافية التي يكتبها القيسي كانت لازمة لأغلب قصصه الأخيرة ،وكأنه يحاول من خلالها بيان قدرته الفائقة والتعويضة على مقاربة حيوات (استعاراته) لتكون فعلا اشباعيا تتوازن فيه وحدته القاسية وغربته الداخلية مع العالم الصاخب والضاج بالموت والحروب والقمع والهجران !!انه صانع ألفات بامتياز ،،،أصوات أبطاله (الاستعلائيين) والمتمردين تملأ النص ،،، يدعو هم بإفراط لمشاركته لعبته القاسية في الوحدة ....
ان الساحر والحكواتي جليل القيسي صنع موته مقابل عزلته !!! الموت الفيزيقي لم يكن يعنيه شيئا ،فهو يمارس نسيان العالم والأمكنة كل ليلة ويستحضر (ارانجا) وطقوس (الارانجيين) يبادلهم أحلامه ووحدته ومراثيه ، يكتب عن زمنه (الغائب) بنوع من التورية المعرفية ،اذ لانجد ثمة فراغا في تدوين يوميات هذا الزمن ،ولانجد ترهلا في طقوسه او حتى في نسيجه اللغوي/ البنائي ، انه يكتب بحرفنة غريبة ، الواقع بين يديه يفقد تدفقه العابر ، يتحول إلى واقع آخر له أسراره وغرائبه وطقوسه ،وكأنه يقول تلك هي صناعة الساحر والحكواتي ،اذ يلملم وقائع الآخرين وربما واقعه الخارجي المكشوف والمباح عند جعبة الساحر الذي يتلبسه ليخرج منها طيورا وطقوسا ونصوصا غريبة لايفك شفراتها إلا من يدرك سرانية العالم الداخلي للارانجين القدامى..
مات هذا الساحر بصمت مريع ، اراد ان يلحق صديقيه القديمين مؤيد الراوي وجان دامو ،وليترك لنا أثرا غائرا لكنه قاسي !! من الأسرار والصحائف الطلسمية التي تحتاج إلى قراءة اركولوجية وقراءة ذهنيغائرة.ءة نقدية تكشف بمجملها عن حيوية النص الذي كتبه جليل القيسي ،كونه شاهدا على زمن الهجرات وزمن التحولات وزمن انهيار الأسرار وانكشافها على فضائح الجسد والروح والمدن ....
مات جليل القيسي في لحظة الموات التاريخي .....مات وكأن موته احتجاج على عالم بفقد توازنه ويرحل في زورقه السكران إلى لجة غائرة .
د. شجاع العاني ..مجلة سردم العربي العدد12 ربيع 2006
قصة قصيرة نشرها جليل القيسي في مجلة الأقلام العدد 4 سنة 1998
د. مهند يونس / مجلة الأقلام العدد4 سنة 1998