(أنظر ملف السياب)
عندما نمارس التحديق جيدا في جلد الأرض ، نبصر ما تبقى عالقا فوق أديمها ضاجا بالغبار ،محتشدا بالمراثي، وجوها مكشوفة للريح، أبوابا مشرعة للعبور الأزلي ،قبورا تلبس المقدس، موتى يخرجون كل ليلة الى يومياتنا ليمارسوا حاكمية الرواة الماكثين ،أصحاب الوصايا والرسائل !! الأحياء الأبناء والمكررون يخرجون دون عصيان من معاطف هؤلاء الموتى ..لذا نجد الشعراء يتحدثون بمرارة وبـ(بنونة) متمردة ونافرة عن النص / القبر و النص/ المعطف ، وعن قداسات (جمعيات الشعراء الموتى) !!!....
بدر شاكر السياب الشاعر والمحدّق والاحتجاجي وصاحب أكثر المعاطف دفئا في حاضرنا الشعري !! وربما هو أكثر شعراء زماننا الشعري تمردا على كتابة المرآة ،التي ورطتنا دائما بنصوص لا تشبهنا،لكنها تبادلنا وهم لذتها ، وتمنحنا أصابعها البلاغية دونما أسئلة أو قلق !! يهبط الليلة ليرشّ على رؤوسنا ماء الورد وتعاويذ الأب المبارك !!وكأنه يقول ان معطفي لا يشبه معطف غوغول ،،خذوه الى مواسمكم واصنعوا منه علامات مرورية للقادمين من كواكب الغبار.....
السياب الشاعر الميت والحي ، مازال يطلق عصافيره في سمائنا عند كل مواسم الحداثة وتجديد ثياب الجسد الشعري ،،يدعونا الى طقوس معطفه لنخرج منه السكاكر والدخان وأصابع الديناميت !!!!!!الحداثيون من الشعراء والعرافون في مواسمه وفصوله ، لايخرجون عن هذه الطقوس لأنها التابو ولىنها الأيقونة التي تركها المقدس الثقافي والأخلاقي عند وسائدنا وعصابنا وعن رأس كل حكاية يتلوها الآباء عن (روح القدس ) في شعريتنا المعاصرة ....
لا أظن ان أحدا يختلف في ان السياب قد مارس العصيان الشعري على (تابوات) الأمة المشغولة بحروب التحرير واليسار المؤدلج حدّ العظم وصراع الطبقات المنزوعة الاضافر!! ولا أحد يغمط هذا الحق الأبوي حين يكون الحديث عن الأصول والمرجعيات وبسالة الروح في اجتراح كيمياء المغامرة ،،،،الاّ اننا بحاجة الى هامش وجودي وزمني لنلامس جلودنا الشخصية في مرايانا وحسب شروطنا ،،وأن نقرأ قلقنا المهيب الذي تشكّل في زمانات عصيبة بحروبها وخياناتها وأحزانها ،،،ينبغي للشعراء الخارجين من جمعيات الشعراء الموتى ،،ان يمارسوا حيواتهم ولذاتهم وتجريبهم وأن لايقولوا مع (سان جون بيرس ) عندما سأله احدهم ،،من هو أعظم شاعر في فرنسا الآن ؟؟؟؟ قال له بيرس ،،انه (فيكتور هيجو) مع الأسف !!!!!!
لا شك ان السياب هو أكثر أصحاب المغامرات في شعريتنا المعاصرة توهجا وأكثرهم تخريبا لانساق التقليد ، وأعمقهم توغلا في أعصاب الشعر وصناعة حساسيته التي تفترض استحضار ما تحت الطين الحري للغة ... لكنه ينبغي ان يكون ايضا الأكثر تحريضا على إثارة الأسئلة أمام الأجيال الجديدة التي تركض كالخيول المرعوبة في صحراء لاحدود لها ولا أفق لايرسم لهم أوان الخطوات ...ربما هو العقل الثقافي العصابي العربي الذي ينتج قداساته دائما ، ويمنح أوسمة خلوده للفرسان النبلاء الذين يرمون الحجر على حائط العائلة !! السياب في هذا الإطار كان مغامرا قلقا ومتمردا وباحثا لجوجا عن مقابلات لازماته الوجودية والحسية،،
السياب وتحت نوبات قلقه العارمة كان يمارس لعبة تحرير استثنائية لقصائده ولغته ، حدّق في كونه الأرضي المباح للأحزان والفقر والحرمانات والمرايا التي تصنع وجوها متشابهه،، لم يتلمس الطريق اليه وكأنه يعبر ساقية في (جيكور) ولم يقرأ نصه تحت لذة الحشد الذي يقترح دائما شعراء صواتين ،هم ا شبه بالمنادين في أسواق الجمعة ،،،أراد ان يتخلص من ورطة الشاعر الخطيب والقصيدة الهتاف واللغة المتراكمة كأعمدة البيوت !! انحاز الى أوهامه الخالصة ، وأيقن ان تفكيك اللغة /العمود والقصيدة/الهتاف لايتم الاّ عبر التورط المعرفي في البحث ،والإنصات الى أصوات الجنيات ،والوقوف عند لزوجة لغوية أخرى ،،لذا ترك دراسة العربية في دار المعلمين الى دراسة الانكليزية وتنازل عن سنوات دراسية لهذا النداء الغريب...وبحث في أساطير المكان ،وتلمّس عبر مرآته الشاحبة ما يمكن ان يرى سيولة وجهه وهو ينزّ نداء وبوحا ...
كان دخوله فضاء الثقافة الانكليزية دخول الباحث عن الذهول ،ذهول العالم الذي يركض حوله دون أدنى التفاتة الى ما تصنعه العربات والحوذيون....
لم يعد يألف الشارع كثيرا، ولم يعد يملك حيازة للاطمئنان في زواياه، كل ما فيه أصبح شاردا، الجسد، اللغة، القراءة، الأصدقاء، الأيديولوجيا، المكان...
ولعل هذا الشرود تلبسه بتهويمات مرعبة ،،أخذت بتلابيبه على طريقة الجنيات ،،انصرف الى قراءة الفضاء الأسطوري العراقي ،،أسطورة الخلق والانبعاث ، أسطورة الحزن والموت،، اكتشف ان الكثير من مرجعياته الشخصية تعود الى أسطورة المكان العراقي،، تلبسه القلق التموزي ،قلق الموت والانبعاث ،، الذي هو قلق الإنسان الباحث عن الحرية واللذة والقوة واللجة العميقة ،،،ظلت هذه الأفكار اللجوجة تلاحقه بشراهة ،،اذهو العليل المحروم الكليل القميء الضاج بنداء الروح والجسد !!
ان فرادة التكوين الشعري للسياب كانت فرادة المتمرد على نسقه،، فهو لم يمارس ترف الإشباع الحسي في المكان ،إذ ظلت أمكنته الأثيرة هي القرية الشاحبة والمدينة الصغيرة الملتبسة بأوهام الفتى الباحث عن أحلامه ورحيله الى المدينة الكبيرة التي تصحو على قلق الشارع السياسي وعقائده وأناشيده الطبقية ،ثم السجن والغربة والمنفى وأخيرا المرض الذي يعدّ أكثر المحابس التي هتكت جسده الأرضي ...كما انه لم يمارس ترف الإشباع الثقافي الذي كانت تنتجه المدن الأخرى التي تبلبلت باللغات والفتوحات ...
ان قراءة الخطاب الحداثوي في شعرية السياب هو ضرورة منهجية وموضوعية في قراءة روح المغامرة الشعرية العراقية والعربية ،،واحسب ان هذا الموضوع لايحتاج الى مزايدة أو الى إعادة حسابات (الحقل والبيدر ) إذ يعمد البعض من شعرائنا العرب أو موظفي النقد العربي الى البحث عن أراض مجهوله ومرجعيات غائمة في صناعة (الثورة الشعرية) التي أطلقها السياب كآليات اشتغال في التعاطي مع الشعرية العربية مفهوما ونصا في ضوء متغيرات ثقافية ومعرفية عاشتها الحاضنة العربية،،وكأن السياب العراقي قد سرق النار المقدسة من المعبد القصي!!
ان هذه الأصوات التي باتت تؤسس طروحاتها في ظل انزياحات سسيو ثقافية حادة انعكست عبر تعمية الكثير الوقائع ومحاولة تغليب الخطاب الدوغماتي في قراءة تشكلات الظاهر الثقافية خلال النصف الثاني من القرن العشرين ..
ورغم عدم أهمية وجدية هذه الطروحات التي تسعى الى تأليه الخطاب التاريخي بعيدا عن شروط تحقيقه الفاعلة ،فإنها تضعنا ايضا أمام حقيقية ومسؤلية احترام رموزنا الثقافية الذين ينبغي ان لانضعهم في سايكولوجيا النص/ المتحف وإنما نضعهم في سياق ثقافتنا العربية المتحرك والباحث عن اشباعات لا متناهية لايروسية النص ، ومن يقرأ الطروحات الأخيرة للشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي التي تعمد الى التشكيك بمؤثرات الشعرية العراقية في الخطاب الثقافي الشعري العربي ،يتلمس حجم الحساسية التي يعانيها البعض من تاريخ مازالت بعض شواهده تمشي بيننا على قدمين !! فضلا عن قصورها في التعاطي مع الشعر كحياة وفضاء ومعرفة ،والتي ينبغي ان تجعل من الشعرية جسدا قابلا للحراك والوجود والانزياح والتناسل ،،،
في الذكرى الأربعين لموت السياب ،،،نحتفي بحياته التي تواصل قلقها ورعشاتها في جلودنا وأصابعنا ، وتحرضنا نحن الأبناء على ان نمارس حقوقنا الانطولوجية في التسلل جيدا الى كوننا الأرضي لنشيّد عمرانا في اللغة والوعي والمعرفة ،مثلما نواصل صناعة أحلامنا للقادمين لكي لا يشتموننا ويقولون عنا ماقاله احد الشعراء في تونس (ان أبي القاسم الشابي قد وضع حجرا في طريق الشعراء)
كما اننا نسعى الى ان نضع ثقافتنا الشعرية العراقية و العربية في سياقاتها الصحيحة دونما حساسيات أو أوهام صنعتها الحروب وسياسات الحكومات التي أخذت بطفولتنا وكتبنا المدرسية وأحيانا ذاكرتنا الى إسطبل العائلة المقدسة.
دعونا نحتفي بالسياب ونرفع قبعاتنا لزمنه الشعري الذي علّمنا ان الاشياء العظيمة تبدأ بمغامرة عظيمة ،،،وان لانقف بخجل ومرارة العاقّين أمام أسئلة أبنائنا القادمين وهم يقول ،،ماذا فعلتم بمعطف الأب السياب الجميل.