قرأتُ، مرةً، حواشي كتب قديمة في مكتبتي وما سطَّره، أو شدَّد عليه، العابرون قبلي علي صفحات حالت ألوانها واصفَّرت، أو فاحت منها رائحة حيوات سابقة لا أدري ماذا صنعت بها الأيام، وها أنذا أقلب اليوم العدد الثاني من مجلة شعر الذي مضي عليه نحو نصف قرن (ربيع 1957) فطالعتني أسماء كثيرة: منها ما صار مَعْلَماً رئيساً في حياتنا الثقافية وصنع انعطافة في قضية تجديد الشعر العربي التي أثارت سجالاً لم ينته فصولاً، ومنها ما طواه النسيان.
أيضاً، لا أدري كيف وصل إليَّ هذا العدد، ومَنْ هو مقتنيه السابق، ولعله نجا، بين كتب قليلة، من غزوة سلامة الجليل التي فرَّقتنا، نحن الذين اشتدت اجنحتنا تحت رفرفة الرايات الحمر في بيروت، إلي أربع جهات العالم.
لهذا العدد من تلك المجلة اللبنانية ـ العربية الشهيرة عمري بما فيه من صبوات وانكسارات، وله، أيضاً، عمر تلك الحداثة التي تصدي لعبئها شبان لبنانيون وسوريون وعراقيون ومصريون وفلسطينيون، جاء بعضهم من جامعات الغرب العريقة وطلع آخرون من الدساكر والأرياف فتواضعوا علي حلم أكبر من أعمارهم وأكثر خفَّة من زمن مثقل بميراث القرون. سأتوقف، مرة عند محتوي العدد ومرة أخري عند فهرسه.
يستهل يوسف الخال العدد بقصيدته الشهيرة البئر المهجورة التي كتبها، كما هو مؤرخ في نهايتها في 3/3/57، أي مباشرة قبل صدور هذا العدد، الذي يضم إعلانات تجارية، وأخبارا أدبية متفرقة من العالم العربي.
يخطر ببال من يطالع هذا العدد من مجلة شعر سؤال بقاء الكتابة، وزوال أثرها، الأسماء التي اشتهرت، أو تواجدت في لحظة تاريخية معينة، ثم تغمّدها النسيان، التقادم الذي يطرأ علي العمل الإبداعي ويجفو به عن ذوق زمن آخر (قادم، لا محالة!).
تغريني قصيدة يوسف الخال الشهيرة (في حينها) بوقفة قصيرة، وها هو مطلعها: عرفتُ إبراهيم، جاري العزيز من زمان، عرفته بئراً يفيض ماؤها وسائرُ البشرْ
تمرُّ لا تشربُ منها لا ولا ترمي بها، ترمي بها حجر .
هناك شيء اسمه التقادم، وهذا قانون يطال، تقريباً، كل شيء، يسري في عروق البشر، كما يسري في نسغ القصائد وتلافيفها ويلفح وجه الحجر بهباء الأيام الآفلة.
واضح ان يوسف الخال أراد ان يستخدم اقرب الألفاظ والمعاني المتداولة في الحياة اليومية والأمثال الشعبية السائرة في قصيدته.
استخدامه لكلمات مثل جار ، عزيز ، من زمان ، يعبر عن جرأة في محاولة زج القصيدة في ما نسميه، الآن، بـ اليومي ، وهذا وعي سيتطور عند الخال ويصل في أواخر أيامه الي إطلاق دعوته الشهيرة باستخدام اللغة المحكية في الكتابة الشعرية باعتبارها لغة الحياة والناس، فيما الفصحي لغة متعالية، ان لم نقل لغة ميتة تتمدد، باسترخاء الجثة، في قبرها التاريخي.
لن أناقش دعوي يوسف الخال لاستخدام اللغة المحكية ، او اللغة الوسطي بين العامية والفصحي، فقد تكفلت الكتابة الشعرية العربية (حتى الآن) بالرد عليها، ولكن ما أود الوقوف، سريعاً، عنده هو تداخل الوعي النظري المسبق في العمل الإبداعي.
واضح ان يوسف الخال بمحاولته زج القصيدة في اليومي واستخدام معجمه ومجازاته قد نجح في الدعاوي ولم ينجح في الشعر. أي ان بيان القصيدة هو الذي نجح وليس شعرها. فدعوته، او بيانه، كان، برأيي، ناقصاً، فقد أعاق الوزن (أو ضعف الموهبة في السيطرة علي الوزن) تدفق القصيدة، وجعلها تتلكأ في مقطعها الأول، وان كان يوسف الخال، سيحاول، في حيلة شعرية يعرفها الضالعون بالشعر، استخدام هذا المقطع كلازمة، غير أن هذا لا يحول دون تبدد إحساس من يقرأها بالعسر: فتكراره لـ لا النافية مرتين، وتكراره لـ ترمي بها مرتين من أجل أن يصل الي ما يريد: حجر، يضعنا أمام احتمالين: إعاقة الوزن لتدفق المعني واكتماله، أو ضعف أدوات الشاعر.
ما أردت قوله بـ نقصان دعاوي يوسف الخال يتعلق بـ إنزاله اللغة من برجها العاجي ولكن مع إبقائه علي الوزن، في اللحظة نفسها التي تحتضن فيها المجلة دعوي أكثر راديكالية من ذلك: قصيدة النثر.
ـ
يحفل عدد مجلة شعر الثاني بأسماء عديدة نذكر منها كما هو وارد في فهرسها: خليل حاوي، شفيق المعلوف، بدر شاكر السياب، ثريا ملحس، جورج جحا، نزار قباني، جورج صيدح، فدوي طوفان، رزق فرج رزق، أدفيك شيبوب، صلاح ستيتية، نذير العظمة، عزيزة هارون، فؤاد رفقة، جبرا إبراهيم جبرا، أدونيس، خزامي صبري (خالدة سعيد)، انسي الحاج، أسعد رزق، إبراهيم شكر الله.
هذه أسماء نعرف بعضها، فهم نجوم شعريون في حياتنا، ولا نعرف بعضها الآخر، رغم أنهم كانوا معروفين في لحظتهم. فمن الذي بقي علي قيد الشعر من هؤلاء، ومَنْ تحول إلي غيره وبرع فيه؟
والسؤال عن البقاء علي (قيد الشعر) لا يعني تواصل الكتابة فقط، بل تحوّل تلك الكتابة، إلي إسهام ريادي أيضاً.
هناك أربعة أو خمسة أسماء هم رواد فعليون لما نسميه الحداثة الشعرية العربية والباقي يلعبون دور السنيد ، وهذا، هو، بالتأكيد، حال أي مرحلة شعرية. كثيرون يمشون في الطريق وقليلون هم الذين يصلون.. او يبلغون تلك المنطقة التي تتحول أعمالهم فيها أحجار أساس في البناء الشعري.
ومع ذلك فان دور أولئك الذين يمشون خطوات، قد تطول أو تقصر، لا يقل أهمية عن الذين يصلون. فمن دونهم لا تكون المسيرة مسيرة أصلا.
ـ
لفت نظري في هذا العدد، غير الإعلان التجاري لطيران الشرق الأوسط اللبناني الي الأراضي المقدسة (فلسطين) وما له من دلالة تراجيدية اليوم، ثلاث قصائد لثلاثة من أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين: قصيدة النهر والموت للسياب وهي علي قصرها واحدة من أهم قصائده يقول مطلعها:
بُويَْبْ
بُوَيبْ.
أجراس برج ضاع في قرارة البحر.
الماء في الجرار، والغروب في الشجر
وتنضحُ الجرارُ أجراساً من المطر و سمعته وفمه حجارة لأدونيس، وأهميتها عندي، انها تحمل البصمة الكاملة للشخصية الأدونيسية المولعة، بالتغيير والتفجير (أغيِّر الحياة (...) أغيِّر التغيرا)، والثالثة لنزار قباني عنوانها شؤون صغيرة وأذهلني مطلعها: شؤون صغيرة..
تمرّ بها أنت دون التفاتِ
تساوي حياتي،
جميع حياتي.
فقد ظننت وأنا أقرأ العنوان والمطلع انه يتحدث عما نسميه، الآن، تفاصيل الحياة اليومية.. الي أن يصل الي هذا المقطع الذي يحمل، ايضاً، البصمة الكاملة لرؤيته الي المرأة: فحين تدخن أجثو أمامك
كقطتك الطيبة
وكلي أمان
ألاحقُ مزهوة معجبة
خيوط الدخان !!
ولكن ما أدهشني أكثر هو أن المرأة في القصيدة التي تستعير كتابا من صديقها (حبيبها) تبحث، كما فعلتُ في مقالتي قراءة الحواشي ، عما تركه القارئ السابق من آثار مرور عفوية او مقصودة علي صفحات الكتاب!
وها أنذا، من دون قصد أو تخطيط مسبق، أعود إلي تلك الجملة التي خطتها يد عاشقة في آخر صفحة من رواية لاتينية كانت وراء قراءة الحواشي وآثار العبور ظلت، تطنُّ، في فراغ المسكوت عنه!
القدس العربي
2006/04/14