1
كنا أخوين.. فأصبحنا
من بعد وفاة أبينا
أخوين وأبوين
كانت هذه الكلمات.. وهي من أشعار صديقه و أخيه في دروب الشعر أحمد عبدالمعطي حجازي- أطال الله عمره- هي أول ما يلقاني به كلما التقينا، وقد حاول البعض الحديث عن الحياة الخاصة لأمل دنقل، معتمدين في ذلك علي مصادر تفتقر إلي الصدق والمعرفة الجيدة بالشاعر، وبغض النظر عن مدي صواب أو خطأ هذا المنهاج، فأعتقد أن الحياة الخاصة لا تفيد القارئ أو الناقد إلا بمقدار أثرها في شعر أمل دنقل ورؤاه، ومن هذا المنطلق، وبحكم صلتي الوثيقة به- رحمه الله- فيقيني أن اليتيم بكل أشكاله هو المفجر لطاقات أمل الشعرية.
2
عندما تفتقد الأب والواقع النبيل فأنت سرعان ما تبحث عن الأبوة في الخيال، كان أبي رغم وفاته ورحيله عنا قريبا منا، في أوراقه و أشعاره القليلة ومكتبته العامرة، لذلك وبقوة امتدت يد أمل تفتش في ثنايا الكتب عن الأب وتصنع له ملامحه وتحاوره من خلال الأوراق لتبدو الحقيقة أزهي، لقد مات الأب الجسد وعاش بيننا الأب الشاعر.
كان الشعر هو الأب الحقيقي والوحيد الذي عثر عليه أمل دنقل، وعاش يرافقه في دروب حياته وتجواله وحتى وهو يجود بأنفاسه الأخيرة في معهد السرطان.
وعندما كنت أقلب في الأوراق القديمة لأخي فوجئت بكتاب مدرسي يعود إلي عام1955، كان عمر أمل وقتها لم يتجاوز الخامسة عشرة، ووجدت في طيات الكتاب مجموعة من صور الشاعر الراحل الكبير محمود حسن إسماعيل وقد اقتطعها أمل من مجلة الإذاعة المصرية واحتفظ بها بين أوراقه ليطالعها بين الحين والآخر.
مجالس الأهل والصحاب في دار السيد الوالد، كانت مجالس للعلم والأدب والمسامرة انفردت الأسرة بأحزانها، بينما أصبحت مجالس الأهل في القرية تدور حول الميراث الضئيل الذي خلفه الأب ومن سيقوم بزراعته، ومن الذي يستطيع أن يستفيد بالمحنة التي يجتازها، واضعا العراقيل في طريقنا، لنبتاع له بعضا من هذا الإرث بثمن بخس، وليذهب هؤلاء الصغار إلي الجحيم، في هذا الخضم كان الجميع من الأهل بغير استثناء ضدنا، ضد هذه الأم العظيمة التي وقفت بأطفالها وحيدة.
لقد صنعت تلك الأيام الأليمة في نفوسنا ووجدان أخينا إحساسا حادا بالألم والشعور بالظلم والمرارة، وكذلك بالتفرد عن الآخرين، وعلمت القلب أن يحترس، وهي التي كونت لديه هذه الحساسية الفائقة تجاه كل الأشياء القبيحة والزائفة.
3
أنا لست حزبيا.. لكني وبالتأكيد منتم لقضية الشعب.. لقضية وهبت لها سعادتي وعمري فأنا إذن ملتزم بقضية مقدسة.. والتزامي هو مبادرة وطنيتي..
ظاهرة أخري ترتبط باليتم هي عدم انضمام أمل دنقل إلي أي حزب أو جماعة سياسية طيلة حياته، فإذا كان اليتم هو غياب الأب في الواقع والشعر هو البديل عن الأب في الخيال، فإن رفض الانضمام للتنظيمات السياسية هو رفض للأبوة في الواقع بحثا عن الأب في المستحيل لقد عاش أمل دنقل شاعرا وكفي.. يريد أن يجعل الواقع شعرا، والشعر واقعا وتلك هي الاستحالة، لذلك كانت رؤياه كلها رؤيا مستحيلة كما يقول الأديب الكبير يوسف إدريس ترفض الدمامة في الواقع، وتبحث عن مستقبل أفضل لأمته وشعبه فرادي وجماعات كما يقول الناقد سامي خشبة.
4
ترتب علي موت الأب انتقال أمل والأسرة من المدينة، حيث كان يعمل الوالد والعودة للقرية التي رأينا بها ما رأينا مما نتج عنه أن أمل لم يكن يري في إنسان القرية، ذلك الإنسان الفطري الطيب الذي يعيش الخير ويحيا فيه كما يتوهم العديد من الشعراء، كان أمل يري أن الريف ملئ أيضا بالعناصر التي تجعل تبادل المنفعة شرطا أساسيا للتعامل مع الإنسان
كما ارتبطت المدينة في وجدان أمل منذ الطفولة بصورة الأب الشاعر وأنها رمز من رموز المعرفة في عالم أكثر تعقيدا، أما اللون الواحد، وهو لون الريف، فهو لون السذاجة- الذي كان يضيق به- وأن المدينة مليئة أيضا بالطبقات التي لاتزال القيم البدائية تعيش في وجدانها، لذلك كان أمل لا يفصل في شعره بين الريف والمدينة في مواجهة الأحداث فكلاهما بتخلفه ضحية، وكلاهما مدان.
كان أمل كما أسلفنا يضيق بالقرية مما ترتب عليه هجرته المبكرة للمدينة بحثا عن المعرفة، حيث عاش حياتها حتى الأعماق وعاشر فيها كثيرا من الأشرار ممن اصطلح علي تسميتهم بالصعاليك، لذلك فإن الشر في نظره، لم يكن مقترنا بالاشمئزاز، إنما كان يدرك أن كثيرا من الشر يخفي وراءه نبلا مأساويا، نحس به في العديد من أشعاره، وعلي سبيل المثال في قصيدة سفر ألف دال في هذه المرأة التي تعرض فتنتها بالثمن ومع هذا لا نملك إلا أن نتعاطف معها.
5
كان أمل يفضح في أشعاره زيف الواقع والعلاقات الاجتماعية أو ما أسماه- في أحاديثه- بالصدق الزائف والزيف الصادق، ولعل هذا الموقف انعكس عليه في صباه عندما رأي بعينيه تبدل المواقف وغدر الأهل والخلان
حين دلفت داخل المقهى
جردني النادل من ثيابي
جردته بنظرة ارتياب
بادلته الكرها!
لكنني منحته القرش.. فزين الوجها
ببسمة.. كلبية.. بلهاء..
ثم رسمت وجهه الجديد.. فوق علبة الثقاب!
رفض أمل للأسلوب المادي أو النفعي في التعامل مع الناس ترتب عليه أن أمل كان صعبا جدا في التعامل مع البعض ومن يعرفه لأول مرة قد يخرج بانطباع خاطئ عنه، لكن مصدر هذا الإزعاج هو طريقة التعامل معه، فقد كان أمل يري أن هناك طريقين للدخول إلي المجتمع، وهي أن يقبلك المجتمع، لكن استتفاها لشأنك أو للعكس تعظيما وإجلالا لقدرك، وكان أمل يرفض- وبشدة- الطريقين، كان يطلب الندية لذلك كان عنيفا في تعامله مع النوعين الأولين، من هنا كنت أري بعض أصدقائه الحميمين نوعا عجيبا من صعاليك المدينة الذين عرفوه وأحبوه وأحبهم، ولم يعرف لهم صنعة أو مصدر رزق، ولم يقرأوا له حرفا واحدا من شعره ولم يعرفوا له صنعة سوي أنه واحد من صعاليك وعشاق ليل المدينة، ولقد التقيت بواحد من هؤلاء فأخبرني بأنه لم يعرف أن أمل شاعرا رغم أنه كان يخالطه يوميا إلا صبيحة يوم وفاته من صوره المنشورة بالصحف اليومية.
وفي سرادق العزاء الذي أقيم ليلة وفاته بالقاهرة، حيث كان يجلس كل أدباء ومفكري مصر، رأيت رجلا يدخل السرادق متأبطا حذاء وصرة ملابس بالية وينتحي جانبا ويبدأ في النحيب، بينما كان يجلس بجانبي الشاعران عبدالرحمن الأبنودي وزين العابدين فؤاد يسألان عنه هل هو أحد الأقارب، بينما بعض الأهل يسألون عنه هل هو أحد الأدباء، لكنني كنت أعرف أنه ليس من هؤلاء ولا هؤلاء، لكنه، بالتأكيد قد يكون أقرب من كل هؤلاء إلي قلب أمل وربما تربطه به ذكريات جميلة من الصعلكة و الحب والحرية في ليالي شوارع القاهرة الحبيبة إلي قلب ووجدان أمل دنقل. وجه آخر لأمل يتصل بعلاقاته مع بعض الأدباء والفنانين، كان أمل يكره هذه الحساسية الزائفة التي يدعيها بعض الأدباء وصورة الشاعر شاحب الوجه الذي يري طائرا جريحا فيهتف، كان يؤمن بالترابط والتساوي بين الأشياء وأن الأمة التي لا تنجب، كناسا جيدا لن تنجب شاعرا عظيما وأن دور الشاعر لا يختلف عن دور العامل في مصنعه والفلاح في مزرعته كما كان يبغض سلوك بعض الأدباء ممن يدعون الثورية ويعيشون حياتهم كتجار ومهربين أو كما قال لي بأسي في إحدى الأمسيات البعيدة إنه يعرف أديبا يحيا الحياة كقواد وفي الصبح يكتب عن ميزة الطهر في الحب، علي العكس من هذا كان يحب كل الأدباء والفنانين الصادقين في التعبير عن مشاعرهم حتى لو انطوي ذلك علي ضعف وانحراف صريحين، وقد كان له- رحمه الله- صديقا ممن يعملون في كتابة سيناريوهات الأفلام والمسلسلات التليفزيونية كان هذا الصديق يكتب السيناريو ويذهب به إلي منتجي هذا النوع من الفن ويقول لهم: خذوا النصب الجديد وأعطوني ثمن النصب القديم، كما كان يقول: لقد تعلمت الاحتيال علي أيدي أساتذته. كان أمل يحب هذا الصديق ويقول عنه إنه إنسان هش وضعيف، لكنه صادق لا يعرف الالتواء، في نفس الوقت الذي رأيت أمل في نهاية الستينيات يلتقي بأحد الأدباء من أدعياء الثورية، وكان وقتها هذا الأديب هو أحد نجوم أجهزة الإعلام المختلفة الذي يثير الناس بعباراته الحماسية، ويتقدم هذا النجم نحو أمل ذلك الشاب الصاعد، المغمور وقتها، ليصافحه ويقبله فيدفعه أمل بعيدا عنه قائلا: لا تقبلني فإن خدي اليوم طاهر، من هذا المنطلق كان بعض الأدباء يشيعون عنه أو يدعون كذبا أنه عدواني سليط اللسان، وللأسف ظهرت هذه النغمة من بعض الأدباء عقب وفاته، بينما صورة أمل الذي أعرفه ويعرفه معظم الأدباء وكل الأصدقاء الصادقين أنه إنسان يذوب رقة ومودة وصدقا لكل الأصدقاء.
6
جانب آخر يبرز في شخص وشعر أمل هو التمرد علي كل أشكال السلطة والقمع، ويمكن أن نرجع ذلك إلي ظاهرة اليتم، فبالرغم من أن أمل ينتمي إلي عائلة ممن يمكن أن نسميهم بأعيان الريف، فلقد شاهد في سنواته الأولي أن العائلة والعائلات المماثلة تعجز عن إعادة البسمة لقلب طفل صغير، وأن جبروت العائلة والعائلات المماثلة يوجه لاغتيال الطرف الأضعف وضد البراءة والحقيقة، لذلك كان أمل غريبا عن العائلة رافضا لسلطانها، وفيما بعد لكل سلطان غير سلطان العدل والحق والجمال. لقد دمر أمل منذ طفولته قانون العائلة، قانون أعيان الريف، في العبودية والاستخذاء للحاكم والشرطي، لقد أصبح الطفل رافضا ومرفوضا من العائلة ومن موقعه الاجتماعي الجديد الذي اكتسبه بفضل اليتم، كان منحازا إلي بسطاء القرية وصعاليكها وضد أغنيائها. وترتب علي هذا التمرد كراهية عميقة للضعف والشكوى وطلبا للقوة ترى ذلك في شعره.
7
ظاهرة أخري ترتبط بظاهرة اليتم هي الاعتماد علي النفس، فعندما تكون يتيما وفي سن مبكرة فأنت مطالب برغم صغر سنك أن تتحمل واقعك وتواجه تحدياته وحيدا، لقد أصبح هذا سمة مميزة لشخص أمل دنقل ومواقفه في الحياة العامة والخاصة ورؤيا تنضح في أشعاره نراها في البكاء بين يدي زرقاء اليمامة في عنترة العبسي الذي ينكره أهله، ساعة المجالسة، ويدعونه ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان، وهو شامخ بينهم بقواه الذاتية نراها في قصيدة لا تصالح في وصايا الأمير كليب لأخيه الزير سالم كما نراها في قصيدة مقابلة خاصة مع ابن نوح عندما يتمسك بالأرض والوطن وحيدا في وجه الطوفان.
8
إن هذا الجانب والعديد من الجوانب الأخرى المضيئة في شعر أمل لم يتناولها النقاد بالشرح والدراسة والتحليل، كما أن كل الدراسات الأدبية التي نشرت حتى الآن تقتطع أمل من جذوره هناك في الصعيد البعيد، بينما انصرف بعض الدارسين إلي التأمل في الاتجاهات السياسية مهملين علاقة ذلك بكينونة الشاعر. إن مواقف أمل السياسية لا تختلف عن مواقفه الاجتماعية والشخصية، وتعبيره عن الواقع السياسي هو تعبير عن ذاته لهذا كان تعبيره عن هذا الواقع جارفا وشجيا، لأنه لا ينطلق من رؤيا خارجية، لكن من أعماق ذات الشاعر، ففي شعر أمل يتعانق الداخل مع الخارج، والوطن مع الذات، وأي محاولة للفصل بينهما هي اعتداء علي شعره وسوء فهم لمعانيه. قد يجانب هذا الحديث الصواب، فلست شاعرا ولا ناقدا للشعر، لكنها ليست سوي نظرة من قريب لهذا الأخ العظيم الذي عشت في ظلاله عمري ألتمس منه الأسوة الحسنة وكان لي فارسا وأخا وأبا وملكا، ثم ها هو يتركني وحيدا أمام الطوفان.
السبت
10/6/2006