|
( (المنفى) للفرنسي باتريك كاستل) |
لو حاولنا اليوم، أن نقوم بلعبة صغيرة، تتمثل في إحصاء عدد الكتّاب العرب الذين يعيشون خارج بلادهم لوقفنا مندهشين فعلا، أمام العدد الكبير الذي يظهر أمامنا. كأن كل شيء يوحي بأن المجتمعات العربية (آيلة إلى السقوط والزوال). من هنا حركة الهجرة الكثيفة هذه، التي تملك أسبابها المتعددة.
بالتأكيد، قد تختلف أسباب الرحيل عن مسقط الرأس بين شخص وآخر. ففي مواجهة الحالة العراقية مثلا (التي نفهمها في ظل النظام القديم)، تقف حالات أخرى متنوعة الأسباب، وهي تمتد إلى مختلف الجنسيات العربية الأخرى.
في جميع الأحوال، لا بد أن نذكر أن (مواسم الهجرة) عندنا، لم تكن وليدة (الأزمنة المعاصرة). فلو عدنا بالذاكرة إلى الوراء القريب، لوجدنا أن القرن التاسع عشر حمل في طياته بذور هذه الحالة، وبشكل مكثف. رحل الكثيرون يومها هربا من الاضطهاد العثماني بحثا عن الحرية. هرب الكثيرون أيضا بحثا عن لقمة العيش، وتجنبا للمجاعة. لكن ثمة اختلافات حالية تكمن في أن الهجرة لا تقتصر، بنسبة كبيرة على اللبنانيين، مثلما كان الأمر في الماضي، إذ نجد كما قلنا العديد من الجنسيات العربية المختلفة. كما أن مدى الانتشار، لم يعد مقتصرا على الأميركيتين مثلما كانت العادة بل تخطى الأمر جميع الحدود المعروفة، ليشمل جميع البلدان من دون استثناء. لم يعد هناك من مركز واحد، بل لنقل في كل بلد، أصبحنا نجد مراكز متعددة ومختلفة.
وبين ذلك كله، أين يقف الأدب العربي المعاصر من هذه القضايا؟ لنقل بداية، إن واحدة من أكثر الحركات الثقافية تأثيرا، في آدابنا المعاصرة، كانت حركة الأدب المهجري، عبر (الرابطة القلمية) (في أميركا الشمالية، الولايات المتحدة) و(العصبة الأندلسية) (في أميركا الجنوبية، البرازيل تحديدا). عديدة هي الأفكار الجديدة التي غذّت الأدب العربي، في بداية القرن العشرين، كانت نابعة من هذا الاتصال المباشر بالآخر، مع هذا المكان الجديد الذي أنتجت منه حركة أفكار كبيرة. وإلا كيف نفهم، على سبيل المثال لا الحصر، المقدمة التي كتبها أمين الريحاني لديوانه (هتاف الأودية) (العام 1905) والتي تحدث فيها عن الشعر الجديد، المنثور، متأثرا بكلامه بالشاعر الأميركي والت ويتمان؟ بالإضافة إلى العديد من الموضوعات الاجتماعية التي شكلت يومها أدبا اجتماعيا، ملتزما، إذا جاز التعبير، بقضايا الناس الذين يعيشون في الوطن الأم.
نقطة التأثير هذه، يتناولها الشاعر العراقي شاكر لعيبي، (المقيم في سويسرا) بالقول: (نلاحظ أن التلاقح مع مصادر أجنبية، إلى جانب المراجع التاريخية للشعر العربي، قد قاد إلى إحداث تغيرات جمالية بارزة في الشعر العربي، إذا لم نقل قطيعة إبستمولوجية. هكذا سينقاد الشعر عبر قراءة ما للشعر الإنكليزي سنوات الأربعينيات إلى ولادة الشعر الحر على يد الملائكة والسيّاب والبياتي وغيرهم، وفي الستينيات قادت قراءة الشعر الفرنسي في لبنان إلى انبثاق ما يسمى الآن قصيدة النثر، وأوصلت قراءة عميقة للشعر الروسي إلى (القصيدة المدوّرة) على يد حسب الشيخ جعفر، وقاد الانحناء على الأدب البريطاني والفرنسي والألماني إلى تحولات شعرية ونثرية عند أكثر من شاعر عراقي في العشرين سنة الأخيرة. وفي هذا الإطار يتوجب في يقيننا النظر إلى الأساسيّ من الشعر العراقي المكتوب خارج العراق مثلا).
إزاء ذلك كلّه، أي إزاء هذه الهجرات الكثيفة التي نعرفها اليوم، هل تأثر الأدب العربي الحديث بذلك؟ أي هل هناك اليوم أدب مهجري جدي؟ هل يلعب المكان الجديد دورا في الكتابة؟
وفق هذه الآلية، حاولنا أن نطرح سؤالا على عدد من الكُتّاب العرب (المهاجرين)، مفاده: (الأدب، بمعنى من المعاني، هو أيضا ابن مكانه ومجتمعه الذي ينشأ فيه. أنت أحد الذين غادروا مكانهم الأول، ليعيش بعيدا عنه منذ سنين عديدة. ربما تصح تسمية المنفى، لكن لنسمي ذلك (مهجرا) جديدا، من هنا ثمة سؤال يطرح نفسه اليوم: هل هناك أدب عربي مهجري جديد؟ إلى أي حد لعب المكان الجديد في صوغ كتابتك؟)
يقول الشاعر الكويتي محمد جابر النبهان (يقيم في كندا): (بداية أستطيع أن أقول، هناك ملامح لأدب مهجري جديد وهذا ما نسعى إلى تقصيه وبحثه ودراسته من خلال إطلاقنا مؤسسة (جذور) في أميركا الشمالية كمؤسسة تعنى بالأدب المهجري الجديد. في المهجر ثمة أدب له ميزة خاصة، لو رصدناه نقديا بشكل مدروس، لثبت لدينا ما يمكن تسميته بأدب مهجري جديد. إن تسمية منفى هنا لا تصح كثيرا واتفق على تنحيتها، لأن (منفى) لها تبعاتها السياسية الكثيرة، وأنّ المنفيّ شخص خارج برسم العودة ريثما يتغير وضعه أو وضع البلد. أما المهاجر فأسبابه كثيرة وحسابات العودة والعيش في الخارج متعددة، لهذا يوجد فرق كبير بين المفردتين ومن ثم المصطلحين).
قد يكون موقف الشاعر العراقي خالد المعالي (يقيم في ألمانيا) مخالفا كثيرا لموقف زميله النبهان، إذ يجد: (الأدب هو الأدب، يكون أو لا يكون ويكتب أينما كان، التسميات تعني بما هو خارج ولا تخص الجوهر. أتيت إلى أوروبا شابا يافعاً، ولكني ما زلت اكتب فيما أكتب عن مكاني الأول، ويجب عليّ أن أتأثر بالأمكنة الأخرى، بمجتمعاتها، بلغاتها! وأعتقد بان من لا يتأثر اثنان: واحد لم يغادر وآخر غادر ومعه خيمته، وهما ربما في الحصيلة النهائية لا شيء لديهما يتعرّض للتأثير! استطعت في ظلال لغات وثقافات أخرى ان أرى مكاني ومجتمعي ولغتي بطريقة أخرى، ربما انفلت من ضيق الأفق والرقابة التلقائية التي كانت ستتحكم بكتابتي لو بقيت هناك! وهذا لا يحول أدبي إلى أدب مهجري أو أدب منفى... الى آخر ما هنالك من افتراضات يُتحدث عنها أو يلجأ إليها هذا وذاك من أجل إبراز هول المعاناة. وهذه موضوعة كما هو معروف لا علاقة لها بالأدب!)
تشدّد الشاعرة السورية جاكلين سلام (المقيمة في كندا) في كلامها على تأثير المكان في قصيدتها، فهي تجد أنه: (في كندا، المكان الذي أقيم فيه أجد أن أوائل الأدب الكندي كتبه مهاجرون من العالم ولكل خصوصيته. وباطلاعي على ما كتبه هؤلاء، أجد تفاصيل المكان وتاريخه. ويمكنني القول إن ما يكتبه الشاعر الآتي من أحزان سراييفو، له ثيمة وبنية وعجينة تختلف عما كتبه الشاعر وديع سعادة، حيث نجد العلاقة بالمكان قائمة من خلال (النافذة) التي تأخذه إلى شتلة الحبق على عتبة بيت الطفولة، عربات الذاكرة، والوجوه الأخرى التي يغص بها الشارع الفرنسي المقابل، هكذا تهطل البلاد كلها في النص (بسبب غيمة على الأرجح)!
وتمضي بالقول: (النافذة، وجدتها حاضرة في قصيدتي أيضاً، وبمواصفات تكنولوجية وإمكانية مغايرة. والآن أتأمل علاقة (نصوصي) بالمكان، فأجدني أطقطق على الكيبورد، بينما العاصفة تلعلع في الشباك وتدخل من (زيق) الباب، لتبعثر كمشة الأوراق الصامتة، ويقاطعني إيميل صديقة سورية. وهكذا تشعر قصيدتي! أجدها مكتوبة بالثلج وبدرجات الحرارة، وفيها العواصف والكوارث الطبيعية، والسنجاب. فيها ركن للغة الأولى والثانية، تقترح تمارين للإقامة في الجوار برفقة بائع الهوت دوغ، تقض راحتها مستحقات أول الشهر، كلمات صديق مهاجر لم ينتحر، مقتبسات شاعر كندي منتحر، وتحضرها الذاكرة والمطبخ الشرقي والوقت الضائع إلى جوار أحذية ونايات ومكانس وتلك (الجيم) التي تخط أسطورتها الشخصية، وفيها أنا وأنتم والمسافات).
المكان حاضر بدوره في قصيدة الشاعر العراقي فضل خلف جبر (المقيم في الولايات المتحدة)، إذ يجد: (نعم..لعب المكان الجديد، ويلعب، دورا هاما في تحفيز لوامسي الشعرية. إننا نتحدث هنا عمّا يمكن أن تجنيه حواسك ومألوفك البصري ممّا لم تعتده. الشعر هو ابن الدهشة، ولا يمكن أن يكون هناك شعر من دون توفر عنصر من عناصر الإدهاش. قد يكتب الأديب ما يشاء، لكن حين يكون الحديث عن النص الاستثنائي، فلا بد من وجود وفر شعوري استثنائي. فعلى الرغم من أنني شهدت في حياتي هجرات متعددة ومتداخلة عموديا وأفقيا، إلا أن تجربة الانقطاع كليّا عن المألوف البصري المرتبط بالبيئة الأصلية؛ كان لها الدور الحاسم في تغيير آليات الاستقبال، ومن ثم الإنتاج لدي).
بدوره، يرى شاكر لعيبي أن هناك (تعالق معلن بين المكان والكتابة من دون شك. ومن بين كل العناصر الفاعلة التي يمكن التطرق إليها، التشبع بمفرداته، بمناخه، بثقافته. مثلا، أتوقف عند عنصر واحد هو اختلاف المرجعيات الشعرية.
لم تعد مرجعيات الشعر المكتوب في هذا المهجر الجديد (أو (المنفيّ طواعية) وهي عبارة تعلن عن مفارقة ذات منطق داخلي) هي ذاتها مراجع الشعر العربي المكتوب في الثقافات المحلية العربية المتشظية. اسمح لي أن أقول كلمة عن مفردة المهجر: لا أحب المفردة لأنها تكاد تفوح بخيار صالح في الذهاب إلى مكان جديد وهو ليس حال غالبية الشعراء العرب في العالم، وهي مفردة تذكرني من جهة أخرى بالأدب المهجري اللبناني الفواح بالبهجة والألم الرومانسيين، في حين ليس هناك ذات النوع من البهجة والألم في واقع الشاعر العربي المغترب في لحظتنا.
الشاعرة اللبنانية آمال نوار (المقيمة في الولايات المتحدة) تجد أن تعبير الأدب المهجري لم يعد له من مكان في حياتنا المعاصرة، تقول: (مع ما نشهده في زمننا الراهن من مظاهر العولمة، ومن تطور في وسائل التواصل الإنساني والمعرفي، أرى أننا بتنا ملزمين اليوم بوقفة تأمل ملحّة وعميقة أمام تسميات وتصنيفات وتعريفات عدة، هي وليدة إرثنا الثقافي وما كانت عليه مقومات وطبيعة حياتنا حتى ماضٍ قريب. ففي المجال الإبداعي، نجد أن تصنيفات مثل: أدب مهجري أو نسائي أو ملتزم أو غيرها، لم تعد لتناسب في ما تحمله من دلالات المعطيات الجديدة لحياتنا المعاصرة، وخصوصاً في ظل ما شهدناه/نشهده من تطورات ومتغيرات طرأت على مجتمعاتنا العربية وعلى الإنسان المعاصر، وخصوصاً في مسألة علاقته بثنائية المكان والزمان.
لا شك في أن الانفتاح المعرفي للإنسان المعاصر بما يقترحه عليه من اهتمامات وتطلعات، بات ذا طبيعة كونية شمولية، ولم يعد محصوراً بموقعه الجغرافي أو إرثه أو دينه أو عرقه أو جنسه. إن تسمية (أدب مهجري) لم تعد لتعبّر بدقة عما تصفه. ولو ألقينا اليوم بنظرة خاطفة على ما يكتبه مثلاً، شعراء المهجر والوطن العربي على حد سواء، لوجدنا أن دور عامل المكان الجغرافي في صوغ اهتمامات كل منهم، وأسلوبه في بناء القصيدة، ومفهومه للشعر، ورؤياه المستقبلية وما إلى ذلك، ليس فاعلاً بالقدر الذي يبيح لنا اعتماده كأساس متين لتسمية أو لصفة نطلقها على هذا الإنتاج أو ذاك. هذا بالطبع لا ينفي أن يكون للمكان دور في صوغ الكتابة المعاصرة، إلاّ أن تأثيره لم يعد عمودياً إلى درجة نراه معها ينفذ إلى الجذور ويتحكم بمصادر نسغها أويقلبها رأساً على عقب. ولعل جذور الكتابة المعاصرة لم تعد في الأرض وحدها بل وفي السماء أيضاً).
السفير
2006/05/15