ـ من محمد رفيق: نظم المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب بتنسيق مع فرع الاتحاد ببني ملال وبتعاون مع وزارة الثقافة ندوة الذاكرة والإبداع قراءات في كتابة ومحكيات السجن وذلك يومي الجمعة والسبت 23 و24 حزيران (يونيو) الجاري بمقر الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين، حيث تمثل كتابات الاعتقال والسجن أشكالا تعبيرية تمتح من متعدد أجناسي ينفتح علي الشهادات والمذكرات واليوميات والمحكيات والسرديات والرسائل وغيرها، هذا التنوع المركب يجعل الكتابة السجنية مستعصية علي التصنيف من منطلق التداخل والتفاعل الذي تتميز به هذه المتون، ومن منطلق طبيعة كتابتها في ارتباط بجدل الداخل والخارج في العلاقة بالمكان (السجن) المعتقل، فضلا عن الكتاب فمنهم الروائي الذي يمتهن الكتابة ومنهم الكاتب الذي عاش التجربة ونقلها إلى المتلقي عبر شهادة شفوية تم نقلها إلى سياق الأدب ومنهم من كتب أول كتاب عن أدب السجون دون أن يكون روائيا متخصصا، وبالتالي يطرح سؤال الخيال والواقع في هذه الكتابات علي اختلاف تلويناتها وخلفياتها ومرجعياتها، أضف إلى ذلك الحضور المكثف لمرجعية المقدس الديني والاجتماعي في سياق البوح والاعتراف بفظاعات تجربة الاعتقال أو السجن، وبذلك يصبح سؤال الحقيقة جانبيا في هذه التجارب والكتابات الأدبية في علاقتها بالتخييل. انها كتابات ترشح ببلاغة التعذيب وسلطة الذاكرة.
في هذا الإطار تندرج ندوة أدب الاعتقال والسجن كتجربة متميزة تكشف تجارب متنوعة أمام القارئ المغربي الذي لم يستأنس بعد بهذه الكتابات التي نزلت إلى المكتبات بشكل كبير في منتصف التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، لتفتح المجال لسلطة الذاكرة وسلطة اللغة عبر الرواية والشهادة والإبداع عموما في باحة الخيال والواقع، حيث انطلقت الجلسة الأولي والتي كان يديرها عبد الرحيم العلام الذي أشار إلى أن كتابة الاعتقال السياسي بالمغرب تشكل ظاهرة لافتة في المشهد الأدبي من خلال التراكم المهم علي مستوي أشكالها وأنواعها الأدبية وطبيعة الأسئلة التي فجرتها حول سنوات الجمر والرصاص، مع إدانة المرحلة وانتقاد الذات وتعرية أخطائها. هذه الأشكال تمثل وثائق تاريخية مهمة في علاقة الفرد بالدولة والمجتمع وما لذلك من تجليات فكرية. وبذلك أشارت مداخلة الأستاذ كمال عبد اللطيف تحت عنوان كتابة الاعتقال السياسي في المغرب إلى فضاء للمكاشفة والنقد حيث اعتبر هذه الكتابة تندرج في إطار ديناميات المجال السياسي في مغرب اليوم، كمدخل عام بقراءة الكتابة السياسية ارتباطا بصدور مجموعة من النصوص المتنوعة في أدبيات المؤسسات الحقوقية في هذا الموضوع فالكتابة مناسبة لتفريغ شجون الذات ونقد درجات العنف السياسي وتركة الاستبداد السياسي والحكم المطلق في فترة الستينيات لذلك فالكتابة تشخيص لآليات القهر والاستبداد وصورة قوية عن أقبية السجون.
أما مداخلة د. سعيد بنكراد والتي عنونها بأدب السجون من الشهادة إلى التخييل، هذه المداخلة كانت تقنية ومفاهيمية بحيث يعتبر أن النصوص التي تدخل في هذا الموضوع تتجاوز في عمقها الفصل بين عوالم التخييل وعوالم تأتي بها شهادة أو مذكرات، هذه الكتابات ليست من إبداع روائيين فأغلبهم كتب وتوقف إلا أنه قدم خبرة إنسانية تؤشر علي القدرة علي التخلص من التاريخ، فالسرد في هذا الإطار قوة تشخيصية تنحو نحو الاستيلاء علي مناطق الانفعال الإنساني، وحقائق التاريخ ليست هي حقائق الأدب، فالحاجة ماسة إلى أدب الاعتقال وأدب سجون حقيقي يخلق عوالم التخييل ولا يكتفي برصد ما قدمته هذه الكتابات.
أما الشاعر سعيد عاهد فقد ركز علي السخرية كآلية لمقاومة السجن والسجان في هذه النصوص التي تزخر بمشاهد ومقاطع ساخرة علي اختلاف أشكالها التعبيرية، فتوظيف السخرية ينبني علي نقد المجتمع وتبخيس سلبياته لمواجهة معجم السجن والسجان وخلق لغة مفارقة للمكان.
أما القصاصة لطيفة لبصير فقد تناولت الهوية الأنثوية والتحليل في كتاب حديث العتمة لفاطنة لبيه كشهادة عن الاعتقال تؤرخ للذات، هي جراح بتاء التأنيث لبناء مبدأ الاختلاف بين الرجل والمرأة في الاعتقال في سياق هذا الانتساب وما يعني ذلك من قمع الذكورة للأنوثة.
وفي الجلسة الثانية التي أدارها جمال الموساوي وشارك فيها عبد الرحيم المودن بالتركيز علي مستويات الذاكرة والكتابة في كتاب الغرفة السوداء وركز علي مجموعة من التقنيات أهمها السرد ومكوناته المختلفة، فالسرد حكي عن السجن وفظائعه وهو في نفس الآن محو لهذه الفظاعات بالعودة إلى الذاكرة في سياق رحلة الكاتب بين البناء والهدم والارتكاز علي ضمير المتكلم في سياق الفرد والجماعة والتعارض بين الأنا والآخر وعلاقة الداخل بالخارج ارتباطا بالانتماء إلى المكان /درب مولاي الشريف وللانتماء أثناء الخروج.
أما مصطفي بنشيخ فقد ركز في مداخلته علي تقديم فلسفي حول مفهوم الأنا الذي دخل في الأدب واحتل مكانة متميزة وشغل تحول المؤلف إلى ناطق باسم الجماعة يرصد تحول الأنا الفردية مع تطور السرد إلى أنا جماعية تشهد علي مصير مشترك وهوية جماعية للمقاومة، وطالب في مداخلته بضرورة تدريس هذه النصوص بالجامعة من خلال قراءة عالمة لهذه الكتابات السجنية.
وأشار نور الدين محقق الروائي إلى شعرية الفضاء واشتغال الذاكرة في كتاب الساحة الشرفية لعبد القادر الشاوي الذي يعيد أحداثا ماضية ويستشرف المحتمل في المستقبل، انه النقد الذاتي للتجربة بغية التخلص من اليقين والإيمان بالقناعة، فالتخييل فيها مفصح عن الإعانات الإنسانية عبر لعبة السرد فهو خارج السجن ويعيش داخله كراو للأحداث، فالذاكرة مرآة لزمان آخر يبالغ في الجفوة ولا يريد الانمحاء والذات تتوسل الاستعادة عبر اللغة والصور الملونة لكتابة الذكريات وتحرير الوجدان.
وحاول محمد بوعزة أن يركز في نفس الكتاب علي مفهومي الاستعادة والتحرر بين الذات والذاكرة وما يلعبه الإبداع عبر السرد في تحرير الذات لحماية هشاشتها وتعويض حرمانها من الحرية.
وأدار الجلسة الثالثة الأستاذ سعيد بنكراد حيث كانت مداخلة الكاتب عبد الكريم الجويطي عبارة عن قراءة في نص معتقل الصحراء للمختار السوسي وارتباطه بأدب السجون وما لهذا الكتاب من أهمية في الثقافة الوطنية والذي يتكون من مذكرات تؤرخ لمرحلتين في تجربة الاعتقال معتقل تينجداد ومعتقل أغبالو انكردوس إبان الخمسينيات في فترة الاستعمار، والكتاب يمزج بين النثر والشعر والتجربة الصوفية في السجن.
أما مداخلة عبد العالي بوطيب فزاوجت بين شق نظري تناول إشكالية المصطلح في هذا النوع من الأدب بين كتابة الاعتقال وأدب السجون وما يعكس ذلك من تلوينات وأشكال مختلفة بناء علي جملة من المكونات في المكان والزمان والأحداث والشخصيات، وشق تطبيقي لإبراز هذه المؤشرات من خلال كتاب العريس لصلاح الوديع والعلاقة بين السجن والجلاد والمعتقل في سياق سؤال الذاكرة والإبداع.
في حين ركزت مداخلة حسن لغدش علي الكتابة السجنية بالمغرب باعتبارها رصدا لمعالم التحول في المرجعيات وأساليب الكتابة، فهي ثورة مهمة لفهم علاقة الفرد بالدولة وعلاقة منتجة لمفارقات متعددة فهذه الكتابات تشكل تجنيسا للذاكرة والسيرة السجنية والجامع بينها هو الاعتماد علي الذاكرة وآلية اشتغالها فضلا عن تنوعها الأجناسي واختلافها في الصياغة الانفعالية للحدث نفسه.
أما الجلسة الرابعة فقد أدارها الناقد عبد الفتاح الحجمري وشارك فيها وجيب العوفي بمداخلة شعرية تحت عنوان أي ليل في أفول الليل من خلال كتابات اللعبي والشاوي والوديع وغيرهم ككتابات أدبية سجنية أدخلت المتلقي في ليل حكي عجيب وغريب، ليل رصاصي مغربي مشحون بالويل من طرف قوي القمع الظلامية السرية والمنهجية التي تمشط البلاد من عصاة البلاد فالكتابة تجسد تحديا ونفيا لليل السجن.
أما مداخلة عبد اللطيف البازي فكانت متميزة من خلال السرد الفيلمي كمسار جديد في السينما وعلاقتها بموضوعات الاعتقال وسؤال الحرية، فالورقة تسائل إبداعات سينمائية تناولت تجربة الاعتقال من خلال تجربتي الذاكرة المعتقلة للمخرج الجيلالي فرحاتي وألف شهر للمخرج فوزي بنسعيد، هذه التجارب تزاوج بين السرد والتمثيل لإعادة تشكيل الذاكرة الشخصية مع توظيف المونطاج بشكل موفق يعكس الصراع مع الماضي المرير.
أما مداخلة هشام العلوي والتي ركزت علي الكتابة والبوح والذاكرة في نصوص تازمامارت من خلال مقصدية البوح والكتابة بغية تجاوز الإشكالية الأجناسية إلى قول الحقيقة بما هي نشاط ذو وظيفة نقدية في العلاقة بمعتقل تازمامارت، جهنم أو قاع الأرض، فالبوح تطهير علني لخروقات الماضي وتحرير للذاكرة وحفظ لتجربة المعتقل من التلاشي والانفلات.
أما مداخلة أحمد المديني فجعلها عبارة عن ملاحظات في الهجين حيث أشار إلى أن اللحظة صراعية مع التاريخ الثقافي وهي لحظة ملتبسة شأن كل ما يكتب منذ 6 عقود، فمحكيات السجناء السياسيين كمؤشر عن هذا الهجين الذي يضم عناصر عدة مختلفة، فالموضوع ملتبس والحديث عن الكتابة والذاكرة هو تاريخ بإجمال، والكتابة الأصل، كتابة الأدب لا تحتاج إلى مناسبة، وكتابة السجن هي انحراف عن الأصيل وهي جزء من الحياة فهي هجينة، فالشاوي كتب بوصفه كاتبا لحياة السجن أما الضباط فكتبوا لغرض معين، لذا فمن الأجدى اعتبار الموضوع حول كتابة الشهادة لأنها تسجل وقائع محددة. لذا يجب التمييز بين مؤسسة الأدب بنظامها ومفاهيمها ومؤسسة خارج الأدب كالمؤسسة السجنية، فكل خلط بينهما يؤشر على الهجنة بين النصوص والتعسف عليها. لذا يجب ألا تعاد هذه النصوص إلى السجن وأصحابها أخرجوها منه. يجب أن يعطي الزمن للزمن ليكتب هؤلاء كتبهم ويفرغوا ذاكرتهم فالتاريخ يحتاج إلى هذه المسافة.
وختم هذه الندوة الناقد عبد الحميد عقار بالإشارة إلى دواعي اختيار الموضوع وأسباب التركيز علي الكتابات بين الذاكرة والإبداع علي اختلاف أشكالها التعبيرية والخاصيات الفنية المميزة لها.
القدس العربي
2006/06/30